الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن عيسى بن عيسى
ابن محمد بن عبد الوهاب بن ذؤيب بن مُشرّف الأسدي الغاضري الرياني، القاضي البليغ الناظم الناثر المفوّه شمس الدين ابن القاضي شرف الدين ابن قاضي شهبة.
رجل انقاد له الكلام، ونزل على حكم نثاره والنظام، له النظم المطبوع والنثر الغزير الينبوع، كتب الإنشاء وترسّل، وتوصل الى مآربه بذلك وتوسّل، إلا أن خطّه كان مرجوفاً، ولم يُعبه ذلك لأنه كان يودعه من إنشائه قلائد وشنوفاً. كتب للسرّ بحمص وغزّة، ونال فيهما شرفاً وعزة، وتولى الخطابة في غزة، فصدح على منبرها حمامة، وأقام بمواعظة المبكيات على الناس القيامة.
ولم يزل على حاله الى أن توارت شمسه بالحجاب، ودعا الحركة بعدما سكن فسكت وما أجاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة عن ثلاث وخمسين سنة في طاعون غزة.
حرص عليه أهله، وشغّلوه بالعلم، فرأى أن رزق الفقهاء ضعيف، فرجع الى صناعة الكتابة، وقال لي: أخذت كتاب التنبيه والعمدة في الأحكام وكتاباً في النحو وألقيتهما في قدر والماء يغلي، وهجرت الاشتغال بالعلم، واشتغلت بصناعة الحساب، وكان موجب ذلك أني حضرت العزيزية سنةً فحصل لي منها خمسة دراهم في
تلك السنة. وباشر في جهات، ثم إنه تعلّق بالإنشاء، وكان النظم والنثر فيه طباعاً، فتوجه الى مصر، وسعى في توقيع حمص، فتولاه من مصر، وباشره مع نيابة الأمير سيف الدين قلاوون في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، فأقام بها قليلاً، وانفصل منها، وعاد الى مباشرة الحساب، فتولى نظر نابلس، ولما توجه الأمير سيف الدين يلبغا نائب الشام الى القدس خدمه هناك، وبقي أمره على ذهنه، وحضر الى دمشق، وامتدحه وامتدح عز الدين طقطاي الدوادار، فقال يلبغا: ما تريد؟ فقال: يا خوند أكون كاتب إنشاء في دمشق بمعلومي الذي على نظر نابلس، وتوفر معلوم ناظر نابلس، فرسم له بذلك.
ولم يزل يكتب بديوان الإنشاء الى آخر وقت، ثم إنه جُهز في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى غزة موقّعاً في أيام الأمير سيف الدين أسندمر الزيني، عيّنه لذلك القاضي أمين الدين بن القلانسي كاتب السر بالشام لما عزل الشريف كمال الدين موقّع غزة، ولما كتب الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في معنى أولاد رزق الله وعُزلوا من صفد، رُسم بأن يكون كاتب سر بصفد في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فأقام قليلاً، وأعيد الى غزة. فأقام على كتابة سرها والخطابة بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون غزة في التاريخ المذكور.
وكان قادراً على الهجو المقذع، وبيني وبينه مكاتبات كثيرة، وهي مُودعة في التذكرة التي لي في أماكنها، ومنها شيء في كتابي ألحان السواجع.
كتب إلي وهو بدمشق قرين جبن صرخدي أهداه لي:
يا شجاع الوجود في العلم والفض
…
ل وشيخ الأنام في كل فن
قد تجاسرت في الهدية فاسمح
…
بالتغاضي واستر بحلمك جُبني
فكتبت أنا الجواب إليه:
حاش لله أن يُرى منك جبن
…
ومعاليك قد حَوَت كل حُسن
وكريم الأقوام فهو شجاع
…
والبخيل الذي تردّى لجبن
وكتبت إلي قرين ماء وردٍ أهداه:
يا سيداً تجلو ثنايا لفظه
…
لظامئ الأكباد برداً من بَرَدْ
ومَنْ إذا ما لمَست يمينُه
…
جمر الغضا من الندى الغمر برد
كان لكم عندي فيما قد مضى
…
وعدّ بماء الورد، لكن ما ورد
والآن قد وافى فقابل كسره
…
بالجبر لا يخجل إن جاء ورد
وعش مدى الدهر صلاحاً في الورى
…
تصلح من حال الأنام ما فسد
في نعمة وافرة مديدة
…
تكتب فيها بالبقاء من حسد
يا خير روح للعلا طاهرةٍ
…
كم أنعشت للمكرمات من جسد
وكتب إلي، وقد نظمت قصيدة في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا إماماً قد أتى العزَّ الى
…
بابه ينقاد في أرسانه
لو رآك المصطفى في عصره
…
مثبتاً فُقتِ على حسّانه
بمديحٍ فيه قد جئت به
…
بعد ما جاء فتى غسّانِه
إن دهراً سُدت فيه سيدي
…
ناظر أنت ضِيا إنسانه
عبدك الشاكر وافى سائلاً
…
كيف مولانا على إحسانه
وكتب إليّ ملغزاً:
أيها الفاضل الذي هو في الفض
…
ل إمامٌ والناس جمعاً وراء
والبليغ الذي له لطف معنًى
…
عجزت عن مثاله الفصحاء
والإمام الذي له لطف خطّ
…
لم تطق وصف نوره الشعراء
ما اسم ثاوٍ في الأرض بين البرايا
…
وله صاحبٌ حوته السماء
وهو عارٍ ومكتسٍ ثوب حُسن
…
عنده الصيف والشتاء سواء
لم تحكْ ثوبَهُ يدٌ ولم تَحْ
…
وِ نَظيراً لنسجه صنعاء
قام بالعُرفِ آمراً وعلى العا
…
دة يجري وليس فيه رياء
فأبنه يا ذا الرئيس المفدّى
…
لا نأتْ عن مقرك النعماء
وابقَ ما غنّت الصوادح في الصب
…
ح ولاح الضحى وولى المساء
فكتبت أنا الجواب عن ذلك، وهو في ديك:
يا فصيحاً عنت له البلغاء
…
وبليغاً ونَت له الفصحاءُ
والبليغ الذي إذا ما بدا البَد
…
رُ لديه اعتراه منه حياء
نظمك المستَلذّ في كل سمعٍ
…
هو والدرّ والأغاني سواء
أنت ألغزْتَ في مسمى عجيبٍ
…
طائر ما حواه قطّ الهواء
وهو يمشي مثل الملوك بتاجٍ
…
وعلى رأسه يشالُ لواء
ليس تُحصى أشخاصه وهو يُحصى
…
فعجيب لما يراه القضاء
وتحاشى من عِكسِهِ فهو أمر
…
يتبرّا من فعله الكرماء
وإذا ما صحّفته يتبدّى
…
حيواناً وقد حواه المساء
فابق واسْلم لكل لغز بديع
…
فهو فنّ تحبه الأدباء
وكتب هو إلي من غزة:
ذكرتك والجوّ في حُلةٍ
…
مكللةٍ بلآلي النجوم
وبرق الدجى خافقٌ ومضهُ
…
كقلبٍ مُعنىً عديم الهجومِ
وعرفُ الصَّبا كزمان الصِّبا
…
رقيق الحواشي نديّ النسيم
وللبحر أفواج موج حَكَت
…
تزاحُمَ خيل الكفاح العقيم
ورمل الكثيب بتمويجه
…
يحاكي البُرود حسان الرقوم
وكأس المدام مدام الصفا
…
كودّك لو كنتَ فيها نديمي
فهاج لذكراك عندي هوًى
…
رمى نار حرّ الأسى في صميمي
وأضعف من همتي قوةً
…
لفقدك تُغزى بجيش الهموم
وبات حديثك لي مُؤنساً
…
يعلّلني بالرحيق القديم
فجادَك صوبُ سلام امرئٍ
…
مقيم على ودّه المُستقيم
سقيم إذا شافَ ريّاكم
…
رجا بالعليل شفاء السقيم
يقبّل الأرض ويُنهي ما لم يَخفَ من العلوم الكريمة من مضاعفة شوقه، ومضاعفة أسفه الذي أحاط به من تحته وفوقه، وما يجده من التألم لانقطاع مراسيم مولانا التي تفُل حدّ الغربة بغَربها، وتحجب عن الأنفس المكروبة والمحزونة كرّب كربها:
وقد غضبت حتى كأني مذنب
…
أروم الرضا منها ويا ليتها ترضى
أنهي ذلك إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
أتاني كتابُك والجو قد
…
توشّع من بارقات الغُيوم
فهذا يجود بدُرّ الحيا
…
وهذا يجود بدرّ العُلوم
وما الدّر كالدّر بين الورى
…
ولا الزّهر فيهم كزهر النجومِ
ويا حُسنه وافداً قد غدا
…
ينفّس عني خناق الهمومِ
ويوقفني اللفظ منه على
…
نديم لكلّ سرور مُديم
بخطٍ ترفّع في وَضْعه
…
أويْتَ الى كهفه والرقيم
وولّى الوليّ لإقباله
…
كما ابنُ هلالٍ غدا في النجوم
وأنستْ حلاوتُه شُهدةً
…
ورقّت حواشيه لابن العديم
أيا عربيّ القريض افتخرْ
…
فكم في معانيك من ابن رومي
ومثلك ما دار في دارم
…
ولا تمّ ما قلته في تميم
يهز نظامك أعطافنا
…
كأن قوافيك بنت الكروم
وتحكي الرياض بأسطارها
…
نسيبك فيها نسيب النسيم
وبعد فإني في وحشة
…
سميري أذكاري وصبري حميم
يقبل الأرض وينهي ورود المشرّف الكريم، فوقف الملوك لوروده، وقبّل من سطره وطرسه عِذار آسِه ووجنة وروده، ومتع ناظره من جنته الناضرة بحدائق
ذات بهجة، وفداه لما رآه بسواد العين وسُويداء المهجة، وتحقّق أن أبا ذر حديثه أصدق لهجة، فلم يرتب فيما ادّعاه من المحبة، وقال لا شُبهة في وداد ابن قاضي شهبة:
قلبي لديك أظنّهُ
…
يُملي عليك وتكتب
فكتب هو الجواب عن ذلك:
ساق الحمامُ الى لقائك نائحاً
…
صبّ تذكّر نازحاً أوطانَه
فاهتزّ قلبي باهتزاز أراكه
…
طرباً، وهيّج شجوه أشجانه
ودعا وقد بلّ الندى أذياله
…
صُبحاً، ورصفت الصّبا أفنانه
وشكا كما أشكو الحمام وإنما
…
لم يُجْرِ مثلي بالبكا أجفانه
لكنْ أعان على الجوى وأخو الهوى
…
إن عاين العاني الكئيب أعانه
ومع الإعانة أذكر العيش الذي
…
ما زلت أفدي بالحياة زمانه
حتى إذا حسر الصباحُ قناعه
…
وجد النهار سوره وأبانه
غنى وصفّق طائراً بقوادم
…
تدنيه إن أنأتْ نوىً جيرانه
فبكيت محزوناً، وقلت تعلُّلاً
…
ليت الحمام أتم لي إحسانه
يقبّل الأرض وينهي ورود الجواب الجريم عما كان تهجّم الملوك من العبودية، والأبيات التي بان بتلك المراجعة قصورها، وتضعضع بتلاوة سور تلك العوذ الصلاحية سورها وصُورها، فقابل العبد ذلك الفضل الخليلي مسلماً إليه وعليه، ووقف سيف ذهنه الكالّ عنده، فإنه ينفق مستجدياً، ومولانا ينفق مما أفاه الله وأفاض من سعة فضله عليه، يا أُلْفَ مولاي قد تجاسر العبد، ولكن والله مقتبساً من أنوار فضائلك، وتهجّم ولكن ملتبساً من مبارّ شمائلك، ومع هذا فعين الله على ميم منطقك، وحاء
حمايته على راء رونقك، فإنك، فداك الأعداء، حُر غمر بالجود، ومولى بمزيّه مزيدٌ شانه الحسود، ومازال الملوك من ورود ذلك المثال العالي يتحلى بألفاظ شهدته، ويتأنّس بمعاينة الوارد عن وحيد العصر. فما يشكو ألم وحدته، يا مخدومي، من أين للقائل سواك أن يقول:
وأنست حلاوته شهدةً
…
ورقت حواشيه لابن العديم
وأن يقول:
أيا عربيّ القريض افتخر
…
فكم من معانيك من ابن رومي
وإنما سبحان من جعل مفاتيح كنوز الأدب بيديك، وصرّفك فيما صرفك عن قبول ما أنعم به عليك، وسؤال المملوك من الصدقات إدامة الجبر الكريم، فإن المملوك إذا رأى كتاب سيد شاهد معانيه من مثاله، وتذكر مواصلة الخيرات الحِسان بين يديه بالنشر الفائح من طي أوصاله.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
وافى قريضك فاستمال أخال الهوى
…
وثنى الى ذكرى صباه عيانه
هاجت بلابلُه بلابل صبوتي
…
قدْماً وذكّرني العقيق وبانَه
فكأن رقم سطوره روضٌ غدت
…
تثني نسيمات الحمى أغصانه
أخملت منه خمائل الشعراء وال
…
كتّاب لما عاينوا عنوانه
أما السّراج فما لشعلة نظمه
…
نور وسود في الطروس دخانه
وابن النقيب عصت عصاه فلم تسق
…
جُند القريض وعطّلت ميدانه
وكذلك الجزار ليس لشعره
…
شعرٌ وأغلق في الورى دكانه
والفاضل المشهور أصبح خاملاً
…
في نثره ورأى الورى نقصانه
وكذلك الجزري أنبت نثره
…
روضاً فلم يرض الورى بستانه
وكذلك ابن الصيرفي لم ينتقد
…
شيئاً، وعطل بعدها ميزانه
يا من قطعتُ به زماناً بالحمى
…
سُقي الحمى ورعى الإله زمانه
عصرٌ متى أملى النسيم حديثه
…
في الروض فتّح زهرُه آذانه
سجْعُ الحمام يلذ لي لا سيّما
…
إن حركت أيدي الصبا عيدانه
فيجد لي ذكراك في تغريده
…
وأروح ريان الحشا نشوانه
يا حسرتا ليت الحمام أعاد لي
…
إحسانه فأعارني طيرانه
يقبّل الأرض، وينهي ورود الجواب الكريم على من ورَد، الجسيم الفضل الذي دخل باب الأعجاز وردّ، العميم الإحسان الذي يروي صدى من صدر عنه أو ورَد، فتلقاه بكلتا يديه، وضمه وشمّ أنفاسه، ووضعه على رأسه لا بل أتحف بالتاج رأسه، وفضه عن فضل نظم رأى ملائكة البلاغة حرّاسه، واستجلى من طرسه ياسمينة ومن سطره آسه، وبهت لرقم طروسه، الى أن قاس بالمسك الأذفر أنفاسه، ونظره فإذا هو قد اختبا له في اختباله، وما احتمى له احتماله، وخلط جسده بجسده، وعقل لسانه بحبلٍ من مسده، وصرفني عن معارضته بالجواب، وقال: الاعتراف بالقصور أولى وأليق بالصواب، فما أنت ومكاثرة الغمائم ومكابرة هذه السمائم ومنافحة هذه الكمائم، ومناوحة هذه الحمائم، أُدخل تحت ذيل الاعتراف وقل تبختري يا ديباجة البحتري، وفُوقي النظّارة يا نضارة المشتري، واخلبي القلوب يا أقلامه التي نفثت السحر في العُقد، وصولي على كتّاب هذا الزمان فقد نبّهت من هذا الفن ما أغفى ورقَد.