الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشرح جملة من سُنن أبي داود شرحاً جيداً، وشرح قطعة من المقنع في مذهبه ولم يكمله، أتى فيه بفوائد ومباحث ونقول كثيرة، ولو كمل لانتفع الناس به.
وكان قد قدم الى دمشق على مشيخة دار الحديث النورية، ثم إنه ضجر ورجع وحدث بدمشق ومصر.
وكان رئيساً فصيح الإيراد، عذب العبارة، قويّ المعرفة بالمتون والرجال صيّناً، وافر الحرمة، فاخر البزّة. وكان أبوه من التجار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سحر الأربعاء رابع عشر ذي الحجة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وخلفه في الفقه ولده الإمام شمس الدين عبد الرحمن.
مسعود بن أوحد بن الخطير
الأمير الكبير بدر الدين، أمير حاجب بالديار المصرية في أيام الملك الناصر محمد وفيما بعد، ونائب السلطنة بغزة غير مرة، ونائب طرابلس غير مرة، وأكبر مقدمي الألوف بالشام.
كان عريقاً في الرئاسة، غريقاً في الحشمة والنفاسة، كريم الودّ والإخاء، كثير البذل لأصحابه والسخاء، وكان بابه حرمَ اللاجي، وقبلة الراجي، لا يخبأ جاهه عن قاصده، ولا ماله عن وافده. كثير الاتّضاع كأن من يجالسه أخوه من الرضاع، ألطف من النسيم إذا سرى، وأرأف بالضعيف من والديه إذا عاينا به أمراً منكراً. وكان به للملك الناصري جمال، وهو لمن استجار به ثِمال، بل كان في ذلك الأفق بدر كماله، وزينة موكبه في يمينه وشماله، وصاحب رأيه الذي كم أسفر وجهه عن جماله. وحكّمه الملك الناصر في الديار المصرية فحكم بالعدل، وأفاض نِيل نَيْله بالجود والبَذل، وزان دولته بحسن سيرته، وصفاء باطنه وطُهر سريرته:
يتكفّل الأيتامَ عن آبائهم
…
حتى ودِدْنا أننا أيتامُ
يتجنّب الآثامَ ثم يخافُها
…
فكأنما حسناته آثامُ
قد شرّد الإعدام عن أوطانه
…
بالبذل حتى استُطرفَ الإعدامُ
ولم يزل يتنقل في الممالك تنقل البدور، ويتوقّل في هضبات المعالي توقّل العقبان والنسور، الى أن اختار المقام بدمشق فأجيب، وسكن ما بقلبها من الوجيب، وكان في حِماها للناس رحمة، ولكل من نزلت به بليّة نعمة، يمدّ عليهم ظل شفقته، وينشر لهم جناح رحمته، فما يبالون بمن عدل أو جار، ولا يحفلون بمن بعُد أو زار، حتى نزل الأمر الخطير بابن الخطير، ورأى الناسُ بالبكاء لموته كيف يكون اليوم المطير.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة ليلة السبت سابع جمادى الأولى بحارة الخاطب بدمشق.
وأخذ إمرَة العشرة بدمشق سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. وقرّبه الأمير سيف الدين تنكز وأدناه وأحبّه، ثم إنه جهّزه الى باب السلطان صحبة أسندَمُر رسول جوبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فلما رآه السلطان أعجبه شكله وسمته ووقاره، ورسم له بالمقام عنده، وأعطاه طبلخاناه، فجعله حاجباً. ولم يزل في الحجوبية الى أن أمسك الأمير سيف الدين أُلماس أمير حاجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فولاه السلطان مكانه أمير حاجب، ولم يكن بمصر إذ ذاك نائب سلطنة إلا أمير حاجب، فكان يعمل النيابة والحجوبية، وقيل: إن السلطان لما أعطاه إمرة الحجوبية كان على حركة للصيد فأعطاه جملاً حمله دراهم، تقدير سبعين ألف درهم إنعاماً عليه، وقال له: هذا برسم إقامة الرّخت وحركة الصيد، وأحبّه السلطان والناس أجمعون من الأمراء والمشايخ وأمراء الخاصكية، وكان يمشي في خدمته الأمراء الكبار.
ولم يزل على حاله في وجاهةٍ حتى أمسك الملك الناصر محمد الأمير سيف الدين تنكز، فرسم للأمير بدر الدين بنيابة غزة، فحضر إليها في مستهل صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، فأقام فيها سبعة أشهر، ثم إنه نقله الى دمشق، فحضر إليها في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا. فلما اتفق للأمير سيف الدين قوصون ما اتفق أيام
الملك الأشرف كجك طلب الأمير بدر الدين الى مصر، وأعاده الى وظيفة الحجوبية وكان بها أمير حاجب في مستهل صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ولما انفصل قوصون خرج الى غزة ثانياً نائباً، وأقام بها شهرين، ثم حضر الى دمشق ثانياً وأقام بها مدة، وهو أكبر مقدمي الألوف. ثم إنه رُسم له بالتوجه الى غزة نائباً ثالث مرة، فتوجه إليها في شهر رجب أو أوائل شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل بها الى أن جرى للأمير سيف الدين يلبُغا ما جرى وقُتل، فرُسم للأمير بدر الدين بنيابة طرابلس، فتوجه إليها في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وعاد منها الى دمشق في أواخر شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة، فإنه عُزل بألجيبغا الخاصكي، ولما اتّفق حضور ألجيبغا الى دمشق وقتله أرغون شاه، على ما مرّ في ترجمته، في سنة خمسين وسبع مئة، وخلت دمشق من نائب يقوم بأمرها سدّ الأمير بدر الدين النيابة ونفّذ مهمات الدولة، وكاتبه الملك الناصر حسن في البريد وسدّ ذلك على أحسن ما يكون.
ثم إن السلطان رسم له بالعود الى طرابلس نائباً بعد أن وُسِّط ألجيبغا وأياز بسوق الخيل في دمشق، على ما تقدم في ترجمتهما.
فتوجه إليها في أوائل جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة.
ولم يزل بطرابلس الى أن طُلب الى مصر، فدخل الى دمشق نهار عيد الفطر سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وخرج منها متوجّهاً بطُلبه الى مصر، فلما وصل الى الرملة ورد المرسوم عليه بعوده الى دمشق، فعاد إليها ودخلها في عاشر ذي القعدة، وأقام
مدةً بغير إقطاع، ثم إنه أعطي أخيراً خبز نوروز. ولم يزل كذلك الى أن توجه في نوبة بيبغاروس صحبة الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب الشام والعسكر الشامي، وأقاموا على لدّ، وحضر الأمير عز الدين طقطاي الدوادار وهم على لُدّ ومعه تقليده الشريف بنيابة طرابلس مرة ثالثة، فلبسه هناك، وخدم به، وأقام هناك الى أن حضر السلطان الملك الصالح صالح من مصر ودخل الى دمشق وهو مع نائب الشام، ثم إنه توجه الى حلب صحبة الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز الى حلب في طلب بيبغاروس، وأقاموا بحلب مدة، فاستعفى الأمير بدر الدين هناك من نيابة طرابلس، وثقل عليهم، فأعفون، واستقر على حاله بدمشق.
وفي يوم عيد رمضان حُمل الجَتْر على رأس السلطان على العادة في مثل ذلك، ولما عادت العساكر المصرية صحبة السلطان الى القاهرة فوّضت إليه نيابة الغيبة بدمشق، ولم يتحرك السلطان في تلك المدة بحركة في دمشق إلا برأيه وترتيبه، لقِدم هجرته ومعرفته بمصطلح الملك من الأيام الناصرية.
ولم يزل على حاله بدمشق الى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور وصلى عليه نائب الشام وأعيان الأمراء والقضاة. وكانت جنازة حافلة، ودفن في الصالحية بتربتهم.
وكان قد حدّث عن ابن دقيق العيد.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - قلت أنا أرثيه:
يا ذلّتي وشقاي بعد مسعود
…
وطولَ حزني وتعدادي لتعديدي
ويا نواحي الذي يملا نواحي جي
…
رون استعدْ واستزد لي فوق مجهودي
مات الأمير الذي كان الزمان إذا
…
سطا لجأنا لظلٍ منه ممدودِ
ولّى وزال وقد أضحت مناقبه
…
بين الأنام له تقضي بتخليدِ
كانت لياليه أعراساً لناظرها
…
حُسناً وأيامه أيام تعييدِ
وكان للملك عطفٌ من عزائمه
…
يختال في حلتي نصرٍ وتأييد
زها به الملك من مصرٍ الى حلب
…
وهزّ عجباً به أعطاف أُملود
وشيّدت ركنَه منه سياسته
…
وبات من ذاك في استيعاب تمهيد
تُغني بسالته يوم الكريهة عن
…
لباس سابغةٍ من نسج داوود
تكادُ أسيافُه تقضي على مهج ال
…
أعداء في حربها من غير تجريد
ويصبحُ الرمح في يُمنه ذا هيفٍ
…
ووجنة السيف تمسي ذات توريد
يمحو ببيض أياديه الكريمة ما
…
للدهر من ظلماتٍ في الورى سودِ
أضحت به غزةٌ في عزّة فتحت
…
باباً لنيل المعالي غير مردود
كذا طرابلس إذا صار نائبها
…
بادَت نوائبها عنها الى البيد
وجاور البحر فيها مثله وربا
…
على عجائبه بالفضل والجود
خلائقٌ مثل روض زهره خضِلٌ
…
ونسمةُ الصبح فيه ذات ترديد
وطاب ريّاً كما طابت أرومته
…
أصلاً تفرّع عن آبائه الصيد
وما تواضع إلا زاد رفعته
…
علوّ مجد بفرع النجم معقود
وزان أيامه من بعدما عطلت
…
بجوهرٍ تزدهي منه بتنضيد
فالتاج في رأسها راقتْ جواهره
…
والشّنْف في أذنها والطوق في الجيد
يا حاجباً كان عين الله تحرسه
…
من عين عادٍ مع المعدوم معدود
أخليت أفق دمشقَ من سناك فطر
…
ف النجم ما بين تصويت وتصعيد
تبكي الكواكب بدراً كان يؤنسها
…
بنوره ثم أضحى تحت جُلمود
أبقى بنيهِ رواةَ الجود عنه لنا
…
فنحن في سندٍ فيه ابن مسعود
لا زال تسقي ثراهُ سُحبُ مغفرةٍ
…
تسري له في طريقٍ غير مسدودِ
ولما كان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - بطرابلس نائباً أهدى الى الأمير سيف الدين أرغون شاه، وهو نائب دمشق، شيئاً من القلقاس وقصب السكر والمحمّضات، فكتبتُ أنا الجواب إليه عن ذلك وهو: يقبّل الباسطة الشريفة العالية المولوية الأميرية الكبيرية البدرية، لا زالت أياديها تنقل الغوارب، وتبعث نفوس محبيها على التوسع في نيل المآرب، وتخصّهم من تُحفها بما يجمع لهم بين لذة المناظرة والمآكل والمشارب، وينهي بعد دعاءٍ تفسحت له بين النجوم المضارب، وولاءٍ أعلامه خفّاقةُ الذوائب بين المشارق والمغارب، ورود المشرف الكريم أعلاه الله تعالى قرينَ ما أنعم به مولانا أعزّ الله أنصاره من هدايا طرابلس المحروسة، وتفضل بما يتوق به الى معاهدها المأنوسة، فوقف المملوك منه على روض تدبّج، وكافور بعنبر الليل تسبّج. ورأى بحر فضله وهو بأمواج سطوره مدرّج، وبهت لرصف سطوره التي كأنها نبت عذار في هامش الخدّ مخرَّج، فلثم المملوك منه موقع الاسم
الكريم، وقبّل منه خدَّ كعابٍ وسالفة ريم، ووصل ما أنعم به من الهدية الكريمة، فمن قلقاس يقصّر ابن قلاقس عن نعته، ويعجز البحتري لو أنه قواف عن نحته، كل رأس منه يعود في طبخه كالمُخّ، وتمشي النفس إليه وهو في رقعة الخوان مشي الرخ، رؤوسه كرؤوس العدا المحزوزة غلّفتها الدماء والهضاب، وأصابعه كأصابع العذارى إذا انغمست في الخضاب، يتفرّى العنبر عن كافوره، وينصدع الديجور منه بصبح بدا في سفوره، وينزل في اللهاة ليناً ونعومة وانملاساً، ويزدرد الحلقوم لذاذة يخطفها من العيش اختلاساً، ويكاد من نضجه يقول لطاهيه وآكله إذا شبّها وقاسا:
وإن سألوك عن قلبي وما قاسى
…
فقل قاسى، فقل قاسى
ومن قصب سكرٍ كل عود له دونة غصن البان، وصفرةٌ استعارها من العاشق إذا صدّ عنه الحبيبُ أو بان، وحلاوة ذوق لولاها لما شبّهه إلا بالمرّان، وما ئيةٍ كريق الحبيب الذي ردّ الردى وصدّ الصدى عن القلب الحرّان، فشكراً لجزرات الهند وما أهدت منه لأرض العجم والعرب، وعُجباً للونه وطعمه ووصفه فما يُدرى هل هو قصبُ ذهب، أو قصب ضرَب، أو قصب طرب، وبخٍ بخٍ لجُرعه التي تمر بالحلق والازدراد نائم لم يتنبّه، وزاهٍ زاه لحالاته المتناقضة فإن حزّه كحزّ رقاب العدا ومصّه كمص شفاه الأحبة، ومن أترجٍ أصفر وكبّاد أحمر، هذا لونه لون الوجل، وهذا له حمرة الخدّ الخجِل، هذا تحرّج متضرّج، وهذاك تهيّج وما تدبّج، لا تنهض بأوصافهما قوائم المسودات والمبيّضات، ولا يقربُ منهما الفواكه الحلوة لأنها تقول: ما لنا وللدخول
في هذه المحمّضات، فالله يشكر هذه الأيادي التي جادت له بالبستان والقصر، ومتّعته وهو في الشام بالمحاسن التي ادّكر بها أوقات مصر، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكان الأمير بدر الدين - رحمه الله تعالى - قد جهّز إلي من طرابلس ثوب صوف أزرق مربّعاً في غاية الحسن قرين كتاب منه. فكتبتُ أنا الجواب إليه أشكر إحسانه وهو: يقبّل الأرض، وينهي ورود المرسوم الكريم أعلاه تعالى، فوقف المملوك له قائماً، وقبّل شفة عنوانه اللعساء لاثماً، وتوهم أن هذا طيف خيال من فرحه وأنه كان حالماً، ووضعه على رأسه وعينيه، وفضّه فقبّل الأرض وكرر ذلك، كأن مولانا - أعزه الله تعالى - حاضر والمملوك بين يديه، ورآه متوّجاً بالاسم الكريم فعلم أن طالعه مسعود، وفاح أرجه فقال: هذا إما لطخ عنبر أو مس عود، ونزّه ناظره في تلك الحديقة التي تجدولت بالسطور وتطوّلت ببياض طرسها وسواد نقشها فقصر عنها كافور النهار ومسكُ الديجور، وعلم أن كاتبها حرسه الله تعالى قد تأني فيها وتأنق، ودبّجها بأنواع المنثور فقابل المملوك ما فيها من الجبر والصدقة بدعاء يرفعه، والملائكة بين سُرادق العرش تضعه، والله الكريم لعلمه بإخلاصه يستجيبُ له لما يسمعه، فإن المملوك ما توهّم أن العبد يرعى له المولى حقوقه، ولا أن المملوك يجري بين أيديهم ذكر السوقة، ووصل ما تصدق به مولانا ملك الأمراء أعز الله أنصاره من الصوف الأزرق المربّع:
فيا فخري به لما أتاني
…
ويا شرفي به بين الصفوفِ
فزُرقته تُحاكي لازَورداً
…
على لون السّما والبحر توفي
ولم أرَ قبله ثوباً رفيعاً
…
غدا دِرعاً أردّ به حُتوفي
يقول مساجل الأثواب فخراً
…
لقد أعيا الحريري وصفُ صوفي
يا له من مربّع يودّ المملوك لو وصفه بألف مخمّس، وذي لون أزرق يحسُن أن يكون سماءً تتبرّج فيها " الجواري الكُنّس "، ما أحسن لونه الأزرق لأن البدر أهداه، وما أحكم نسجه فإن صانعه أتقن ما ألحمه فيه وسدّاه، وما أثقله من سحابه فإن الغمائم تخجل من أيادي من أسداه. كم نال المملوك به من مسرة بخلاف ما يزعمه المنجمون في التربيع، وكم استجلى من لونه الأزرق سوسناً فكأن الزمان به زمان الربيع، وتعجّب له من مربّع يُحكمه أهل التثليث ويطيبُ الثناء على صانعه وأصله خبيث، ونشره المملوك من طيّه فرآه بحراً وجندرته أمواجه، وقال: هذا خليج جاء من بحر لا ينحرف عن الجود معاده ومعاجُه، فكل أمره عجيب، وكل ما فيه غريب، حتى إنه في غاية اللين وإن كان يصنعه عُبّاد الصليب. وقد غفر المملوك به من ذنوب الدهر ما مضى وما بقي، وجعل تاريخ قدومه عيداً وما ينكر تاريخ المسعودي ولا الأرزقي، والله يوزع المملوك شكر هذه الصدقات التي عمّ سحابها وأغرق، وروى جودها عن نافع بن الأزرق، فقد نوّهت بقدره، ونوعت له أسباب جبره،