الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن محمد بن عبد المنعم
القاضي البليغ الكاتب الناظم الناثر تاج الدين أبو سعد السعدي المعروف بابن البرنباري.
كان كاتباً مطيعاً ومترسّلاً منطقياً، خطه أنهج من الروضة الغنّاء وأخلب للقلب من الحدقة الوسنا. كتب الرقاع والتوقيعات والثّلث من أحسن ما يكون، وكان لبقاً في كتابته وفي الحركات والسكون، وكان خبيراً بمصطلح الديوان وبما يكتبه الى الملوك من صاحب التخت والإيوان، وكان يكتب من رأس القلم، ويأتي في كتبه وتواقيعه بما ينسي نسمات الضال والسلم:
جرى معه الجارون حتى إذا انتهوا
…
الى الغاية القصوى جرى وأقاموا
فليس لشمسٍ مذ أنار إنارة
…
وليس لبدر حيث تمّ تمامُ
فهو كان أحد الكتاب الكلمة الذين رأيتهم وبعتهم في الاختيار وشريتهم، وخبرتهم وذخرتهم وقرأتهم، والى مآدب هذه الصناعة دعوتهم وقريتهم.
ولم يزل الى أن توجه الى القدس ليزور ويستنتج أم الحظ وهي مِقلاتٌ نزور. فهناك وافاه حمامه، وبكاه من الفضل غمامه، وناح عليه حمامُه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.
وكتب الإنشاء في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة في شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ولم يزل من أعيان كتاب الإنشاء، وكان القاضي علاء الدين بن الأثير يستكتبه في البريد، ولم يزل في القاهرة في جملة كتاب الإنشاء الى أن توفي القاضي بهاء الدين أبو بكر بن غانم صاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، فرسم له السلطان الملك الناصر محمد بأن يتوجه مكانه، فتوجه الى طرابلس ونائبها يومئذ الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فرأس هناك، وعمل الوظيفة هناك على القالب الجائر، وداخل النوّاب، وصار هو عبارة عن الدولة.
وفي سنة خمس وأربعين وسبع مئة كان في الشتاء نائماً هو وأولاده، فجاء سيل عظيم، وكانت داره على النهر، وكان للسيل ضجة من الناس وضوضاء، فقام من فراشه ليعلم ما الخبر وعاد فلم يجد داراً ولا سكاناً، وراح البيت وولداه، وأحدهما موقع والآخر ناظر الجيش، وجميع ما في البيت الى البحر. وانتبه الناس لهذه المصيبة العظمى، وركب النائب وتوجهوا الى البحر الى أن طلع الضوء وقذف الموج ولديه وهما ميتان، فأخذوهما وعمّر لهما تربة عظيمة هناك. وصدعت واقعته قلوب الناس في الشام ومصر. وأما هو فإنه داخله هلعٌ عظيم واختلط عقله، وبعث الى مصر يسأل الإعفاء والإقالة، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، فكتبت لولده شرف الدين عبد الوهاب توقيعاً، ونسخته:
رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي، لازال يجبر بفضله مَن أصيب، ويغمر بإحسانه من فقد الدار والحبيب، ويعمر برفده من مُني من خطب الأيام بأوفر نصيب أن يرتب المجلس السامي القاضي شرف الدين في كذا جبراً لأبيه المصاب في غُصنيه اليانعين، وحصنيه المانعين، وبدريه الطالعين ونسريه الطائرين بجناح حياته، فأصبحا في حبائل الردى واقعين، وسرّيه المخبوءين في سواد عينه، وإن كانا بالثناء ضائعين.
فليباشر ذلك مباشرة أُلفت من بيته، وأجرت فارسَ بلاغتهم من طرسه ونقسه على أشهبه وكميته، مقتدياً بطريق أبيه، فهي طريقة مثلى، وحقيقة تُدرس أماليها وتُملى، وحديقة غرائس بنانها تجلّى محاسنها وتجلى، وعريقة في فن الكتابة التي يُفرغ عليها كيس الثناء حين يُملى، لأنه درة تاجه، وقرّة تخلف على أبيه ماضي سروره وابتهاجه، وغرة يُزان بها الفجر عند انصداعه وانبلاجه، مجتهداً في تحرير ما يكتبه وتقرير ما يرْقمه ويهذّبه، حتى تكون روضات الطروس مدبّجة بأزهار كلماته وتسجيعه، وترى وجنات هوامش القصص مطرزة بغدار توقيعه، والوصايا كثيرة، وتقوى الله تعالى ملاك ما نأمره باتّباعه، وأسلاك الدرر التي يؤم غيثها في انتجاعه، فلا يألف إلا حماها، ولا يرشف إلا لماها، والخط الكريم أعلاه الله وشرّفه أعلاه حجةً في ثبوت العمل بما اقتضاه إن شاء الله تعالى.
وكان القاضي تاج الدين قد أقام بعد ذلك بطرابلس على حاله الى أن تولى نيابة طرابلس الأمير سيف الدين بيدمر البدري في أوائل سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فعُزل من كتابة سرِّ طرابلس، وطالبه الناس بحقوق، فأقام هناك الى أن خرج منها وحضر
الى دمشق في أواخر السنة المذكورة، وأقام بدمشق مدة، ثم توجه الى القاهرة وأقام بها مدة، الى أن رُتّب موقّعاً في الدست بدمشق، فحضر إليها في شهر رجب، فيما أظن سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القدس، وتوفي في يومين في التاريخ.
وكنت أنا قد كتبت إليه بعد خروجي من مصر متوجهاً الى الرحبة كاتب الدّرج:
لما أتيت دِمشقاً بعد مصر وفي
…
عطفيَّ منك بقايا الفضل للراجي
عُظِّمتُ من أجل مولانا وصحبته
…
وقيل هذا بمصر صاحبُ التاج
وينهي بعد رفع الدعاء، وحمل لواء الولاء، وإشادة بناء الثناء، أن المملوك سطّرها وشوقُه قد ضاقت به الرحبة، وأغار على مثاقيل الصّبر فما ترك عند حبّة القلب حبة، وذكّره الأيام السالفة، حتى عاد نسيبه بها أعظم نسبه:
كأني لم أكن في مصرَ يوماً
…
قطعْتُ به الوصال مع الأحبه
ونلتُ القرب من سادات دَسْتٍ
…
محلّهم علا كيوانَ رُتبه
إذا عانيت في الإنشا حُلاهم
…
تراهم بالنجوم الزهر أشبه
وإن سابقتهم علماً وفضلاً
…
فأنت إذا نطقت سُكَيْتَ حلبه
فما ابن الصيرفي إذا أتاهم
…
يُساوي عندهم في الفضل حبّه
خصوصاً تاجهم سقي الغوادي
…
محلٌّ ضمّه واخضلّ تُربه
إذا أخذ اليراع فليس بين ال
…
طروس وبين زهر الروض نسبه
وإن نطق استبان المرءُ منه
…
محاسن تستبي في الحال لُبَّه
وليس الملك محتاجاً الى أن
…
يُعدّ كتائباً إن عدّ كتبه
له الفضلان في نظم ونثر
…
إذا ما جال في شعر وخطبه
أيا مولاي عفواً عن محبّ
…
تهجّم فالبعاد أذاب قلبه
بعثتُ بها إليك عسى تراها
…
على بعد من المملوك قربه
فكتب هو الجواب:
شكراً لغرس بروض الفضل قد نبتا
…
وودّه في صميم القلب قد ثبتا
أهدى إليّ كتاباً كنت أرقُبُه
…
أزال عني من عيث النوى العَنَتا
مباركاً جاء بالحسنى فأحْسنَ لي
…
وكيف لا وهو من عند الخليل أتى
لا زالت ألفاظه حلية الممالك، وودّه في النفوس ثابتاً وللقلوب خير مالك، ومنزله من فضل الله رحيب الساحات معموراً بالسماحات في رحبة مالك، وينهي ورود مشرّف سمح ببيانه، ونفح بعرفانه، وجنح الى عوائد إحسانه ولمح أشرف المعاني بإنسانه، وربح إذا بدا بفصل خطابه وفضل بنانه، أبى الله إلا أن يكون له الفضل في ابتدائه، والفوز بسبق تحيته وإنشائه، فقبّله المملوك تقبيلاً، وفضّه فإذا البيان جاء معه كان قَبيلا، ورأى أدباً غضاً، ونظماً ونثراً فاقا مَن سلفَ عصرَه وتقضّى. ولقد ذكر مولانا بأوقات قُربه، على أن المملوك ما زال يذكرها، وأقرّ عيناً ما برحت تشهد محاسنه وتنظرها:
أبلغ أخانا أدام الله نعمته
…
أني وإن كنتُ لا ألقاه ألقاه
الله يعلم أني لست أذكره
…
وكيف يذكره من ليس ينساه
ولقد تجمّلت بمولانا جهة تصدّر أخبارها بأقلامه، وتصْدر مهماتها بمتين كلامه، ويبدو صلاحُها بألفاظه التي هي كالزُلال في رقته والدُرّ في نظامه، فبسط الله ظلال مَن أمتع هذه المملكة بمولانا، وسيّر ركابه إليها، وطالما أولاه الخير وأولانا، قد شمل البعيد والقريب بفضله، وعمّر مصر بسؤدده، وغمر الشام بفضله:
كالبحر يقذف للقريب جواهراً
…
كرماً ويبعث للبعيد سحائبا
ثم يعود المملوك الى وصف محاسن مولانا التي مكنت في القلب حُبّه، وأرضت بالود مملوكه وتِربه، وشيّدت له في الأفئدة أعظم رتبة:
أتتنا من ودادك خيرُ هبّه
…
فنعّمَ طيبها عيش الأحبه
وزارتنا على نأيٍ فأهدت
…
لنا أنساً به أنسي تنبّه
تذكّرني بزورتها ائتلافاً
…
ووقتاً طالما مُتّعت قربه
نأى عن مصر من مولاي أُنسٌ
…
فألْفى بعدها رحباً ورحْبَه
للفظك في الطروس عُقودُ معنى
…
بها دُرُّ الترائب قد تشبّه
وخطك لم يزل درّاً ثميناً
…
له بالجوهر الشفّاف نسبه
بنانكَ منبر يرقى عليه
…
يراعٌ كم لها في الطرس خطبه
خطبت من المعاني كلَّ بكر
…
فلبّت بالإجابة خير خطبه
كأنك قد رقيت الأفق عَفوا
…
فأعطى طرسُك الميمون شُهبه
فدُمت معظّماً في كل أرضٍ
…
تنال من السعود أجلَّ رُتْبه
وكتب هو إليّ ونحن بالمخيم السلطاني على طَنان ملغزاً:
يا مبدعاً في النظم والنثر
…
وفاضلاً في علمه يُثْري
ومودعاً مُهرقه كل ما
…
يُزري بحسن الدرّ والتبر
إن أُحكمت ألفاظُه أصبحت
…
قواطعاً تربي على البُتْر
ما صامتٌ تنطق أفضالُه
…
وكاتمٌ للسرّ في الصدر
تصلحُه الراحةُ لكنه
…
يُتعب في الطيّ وفي النشر
قد أشبه البيض ولكنه
…
يحتاج يا ذا الفضل للسمر
تفرّق الليل بأرجائه
…
كأنه وصلٌ على هجر
يسير عن أوطانه دائماً
…
للنفع في البر وفي البحر
إذا كان يوماً ضيف قومٍ غدا
…
يقري وخير الناس من يقري
فهات لي عنه جواباً كما
…
عوّدتني يا عالي القدر
فحللته في كتاب وكتبت الجواب:
أروضةٌ تبسم عن زهر
…
أم أكؤسٌ دارت من الخمر
أم نظم مولانا فإني الذي
…
أعدّه من جُملة السِّحر
إذ كلُ حرف منك شمسٌ وإن
…
سامَحتَ قلت الكوكبُ الدرّي
يا فاضلاً ما مُشتهى نظمه
…
في الناس إلا قطعُ الزهر
وكاتباً أصبح من خطهِ
…
يغني عن الخطيّة السُمر
حلَلْتُ ما ألغزته في الذي
…
تجلوه لي في حبر الحِبْر
ما فاه بالنطق ولكنه
…
له فنون النظم والنثر
يُخبرنا عما مضى وانقضى
…
وما جرى في سالف الدهر
لا يكذب القول إذا ما ورى
…
فقد حكى صدق أبي ذرّ
وعنده للحسن ديباجة
…
سبيهة بالليل والفجر
ذُرَّتْ على كافوره مِسكةٌ
…
ليس لها نشرٌ مع النشر
كم أقسم الباري به مرةً
…
مرّت لنا في محكم الذكر
يا حسن ما قد قلت يقري وهل
…
تعرف في الأيام من يقري
وما قراه غير سمع الذي
…
يبُثُّه باللبّ والفكر
هذا جوابٌ إن تكن راضياً
…
به فيا عزي ويا فخري
وإن أكن أخطأت في حله
…
فابسط على ما اعتدته عُذري
لا زلتَ ترقى صاعداً في العُلا
…
الى محلّ الأنجم الزهر
وكتبت أنا إليه عقيب ذلك:
بلّغك الله الأماني فقد
…
أطربني لغزك لمّا أتى
يحلو إذا كرّرت إنشاده
…
وكيف لا يحلو وفيه كتا
وكتب إليّ أيضاً ونحن بالمخيم على المنوفية:
طرُق الصواب بك استبان سبيلها
…
وبك استقام على السواء دليلها
كم خلّةٍ محمودة أوتيتَها
…
في المكرمات وأنت أنت خليلها
ما مُلغَزٌ الفاءُ منه كلامه
…
وحروفه ما شانهن قليلها
لا شيء تحجبه وكم من دونه
…
من حاجب فعُلاه ثم أثيلُها
إن طال مُلّ وخيره يا صاح ما
…
قد طال والنعماء طاب طويلها
وإذا أهلَّ الوفد من ميقاتهم
…
طُويت غمامته وزال طليلها
كم أوضحوا مزقاً فأخفاه ومع
…
هذا إبانته دنا تعجيلها
ومحلّه كمحلّ مولانا غَدا
…
يسمو فرفعته رسا تأصيلها
فاحلله لا برحت يراعك كالظبى
…
فصريرها منه يمدّ صليلها
فحللته في شاش وكتبت الجواب:
جاءت تُدار على النفوس شمولها
…
وتُجرُّ من فوق الرياض ذيولها
أبياتك الغُرّ التي أبدعتها
…
تُطوى على جُمل الجمال فُصولها
ويسير في الآفاق ذكرك لي بها
…
وتهبّ بالإقبال منك قبولها
قد ألغزت لي في مسمى واحد
…
وله مقادير تفاوتَ طولها
كغمامة ترخى على ليل الشبا
…
ب الغضّ أو صبح المشيب فضولها
لا يستحيل إذا قلَبْتَ حروفه
…
بالعكس بل يبقى لها مدلولها
وحروفه بيتٌ وباقي لفظه
…
آس على التصحيف رُحت أقولها
هذا الجواب وغاية الفضل التي
…
قد نلتها في النظم لست أطولها
فلك النجوم تسير في فلك العلا
…
ما شانها بعد الطلوع أفولها
وكتب هو إليّ عقيب ذلك:
المسك منك ختام
…
وراحتاك غمام
الخطّ روض نديم
…
واللفظ حلو مدام
والسحرُ قولك لكنْ
…
السحر أمرٌ حرام
أجبتني عن معمّىً
…
بسرعة لا تُرام
في القلب حُبُّك ثاو
…
له أقام غرام
فأنت حقاً خليلٌ
…
على الخليل السلام
فكتبت أنا الجواب إليه:
أجوهرٌ أم كلام
…
وقهوة أم نظام
أم البدورُ تجلّت
…
فانجاب عنها الظلام
أم الحدائق وشّى
…
منها البرود غمام
غُصونُها ألفاتٌ
…
والهمز فيها حمام
أشبّه السطر كاساً
…
فيها المعالي مُدام
أو أعيناً فاتنات
…
يصبو لها المستهام
وحشوها السحر بادٍ
…
ولا أقول السقام
أقلامك الحمر فيها
…
للنائبات سهام
كم قد أصابت لمرمى
…
ولم يفُتْها مرام
أثنت عليك المعاني
…
والكاتبون الكرام
وقلّدتك المعالي
…
إذ أنت فينا إمام
فأنت أشرف تاج
…
في فضله لا يرام
له على كل رأسٍ
…
فاءٌ وصادٌ ولام
فكتب هو الجواب أيضاً:
ألفاظك الغرّ أضحت
…
بُروقهنّ تشام
لأجل ذلك سحّت
…
من سحبهن ركام