الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد
ابن عبد الله بن محمد بن يحيى، الشيخ سعد الدين أبو سعد، ابن الفقيه أبي عمرو بن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس اليعمري أخو الحافظ فتح الدين.
سمع من ابن الأنماطي، ومن العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وشامية بنت البكري، وجماعة.
وحدّث. وكان له نظم. وجلس مع الشهود.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة سبعين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمد
ابن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس، الشيخ الإمام، العالم، العلامة، الحافظ، البارع، الأوحد، مجموع الفضائل، الكاتب، الناظم، الناثر، الأديب فتح الدين أبو الفتح ابن الإمام الفقيه أبي عمرو وابن الإمام الحافظ الخطيب أبي بكر اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري.
أجاز له في سنة مولده النجيب عبد اللطيف الحراني، وحضر على الشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وطلب بنفسه في سنة خمس وثمانين، وقرأ على الشيوخ، فسمع من قطب الدين بن القسطلاني، وغازي الحلاوي، وابن الأنماطي،
وابن خطيب المزة، وابن ترجم، وابن الخيمي، وابن الفارض، والعزّ الحراني، وشامية بنت البكري، والفخر المَليجي وغيرهم.
ورحل الى الاسكندرية وسمع من شيوخها، ورحل الى دمشق سنة تسعين وست مئة وسمع من بعض أصحاب الكندي وابن الحرستاني وابن ملاعب.
نقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وتنزّل في الأخذ الى أصحاب سبط السلفي، ثم أصحاب الرشيد العطار قال: وكاد يدرك الفخر بن البخاري ففاته بليلتين، ولعل مشيخته يقاربون الألف ونسخ بخطه، واختار وانتقى شيئاً كثيراً، ولازم الشهادة مدة، قال: جالسته مرات وبت معه ليلة، وسمعت بقراءته على الرضى النحوي. وكان طيب الأخلاق بسّاماً، صاحب دعابة ولعب، وكان صدوقاً في الحديث، حجةً فيما ينقله، له بصرٌ نافذٌ في الفن، وخبرة بالرجال وطبقاتهم، ومعرفة في الاختلاف، ويدٌ طولى في علم اللسان ومحاسنة جمة. انتهى.
ونقلت من خط شيخنا البرزالي قال: كان أحد الأعيان معرفة وإتقاناً وحفظاً وضبطاً للحديث وتفهّماً في علله وأسانيده، عالماً بصحيحه وسقيمه، مستحضراً للسيرة النبوية، له حظ من العربية، جيّد الضبط حسن التصنيف، صحيح العقيدة، صحيح القراءة، مع الشُّرعة التامة، حسن الأخلاق، جميل الهيئة، كثير التواضع،
طارحاً للتكلّف، طيب المجالسة، حلو المعاشرة، خفيف الروح، ظريفاً كيّساً متودداً الى الناس، له الشعر الرائق والنثر الفائق والترسّل البديع. وكان محباً لطلبة الحديث، وصنّف سيرة نبوية لخص فيها سيرة ابن هشام وشرع في شرح الترمذي، عمل منه الى الصلاة، جمع فيه فأوعى، وله القصائد النبوية الفائقة، ولم يخلف في مجموعه مثله، انتهى.
وقال كمال الدين الأدفوي في تاريخه البدر السّافر: ولازم الإمام أبا الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري، وتخرّج به، وقرأ عليه في أصول الفقه وحفظ التنبيه في مذهب الشافعي، وقرأ المفصّل في النحو على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وبرع في الحديث والأدب، وكتب الخط الحسن بالمغربي والمصري، وحدّث، وسمع منه جمع كثير من الشاميين والمصريين وغيرهم، وصنّف في السير كتابه المسمّى عيون الأثر وهو كتاب جيد في بابه، وشرع بشرح الترمذي ولو اقتصر فيه على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمُل تصنيفه وتمّ ترصيفه وكان يفيد، ولكنهقصد أن يتّبع شيخه الإمام ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. انتهى.
قلت:
وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
كان شيخنا المذكور حافظاً بارعاً، متوقّلاً هضبات الأدب فارعاً، متفنناً بليغاً في إنشائه، ناظماً ناثراً مترسّلاً، لم يضمّ الزمان مثله في أحشائه، خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنقُ من صفحات الخدود المطرّز وردها بآس العذار، حسن المحاورة مأمون المجاورة، لطيف العبارة، طريف الشارة والإشارة، فصيح الألفاظ، نسي الناس ذكر قسّ سوق عكاظ، كامل الأدوات، جيّد الفكرة في الغوص على درر المعاني
والأدبيات، صحيح الذهن، يشرق نوره، مليح الفهم، كأنه الصبح إذا ملأ الأفق سفورُه، لا تُملُّ محاضرته، ولا تُذام معاشرته، أدبه غض، والإمتاع بأنسه نضّ، كريم الأخلاق، زكي الأعراق، كثير الحياء والاحتمال، قلما جُرح من إنسان إلا وكان سريع الاندمال.
إن كتب فما ابن مقلة عنده إنسان، ولا ابن البوّاب إلا واقف على بابه بعصا القلم يسأله الإحسان، ولا ابن العديم إلا له وزير، ولا الوليّ العجمي إلا وليّ له ونصير.
وإن نثر فالعماد مائل عن طريق، وابن الأثير لا يضرب المثل إلا في تحقيقه وتحريره.
وإن نظم فابنُ النبيه خامل، وابن الذّروي في الحضيض هامل، والجزار ما حلَت قيمه حلا قيمه، ولا جوّد تعاطي تقاطيفه، والسّراج ما نوّر بل نوّص في شعره وسوّد حائط تواليفه.
صحبته مدة فلم أرَ معه من الزمان شدة ونمت معه ليالي، وخالطته أياماً، ورعيت من حسن ودّه أراكاً وبريراً وبشاماً:
له هزّة من أريحيّة نفسه
…
تكاد لها الأرض الجديبة تُعشِبُ
تجاوزَ غايات العقول مواهبا
…
تكاد لها لولا العيان تكذّب
خلائق لو يلقى زيادٌ مثالَها
…
إذاً لم يقل: أي الرجال المهذّب
عجبت له لم يزهُ تيهاً بنفسه
…
ونحن به نختال تيهاً ونعجب
ولم يزل على حاله الى أن انضم على فتح الدين قبره وعُدم من كل أحد عليه صبره.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم السبت حادي عشر شهر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الأحد بالقرافة جوار ابن أبي جمرة وابن عطا قبالة خانقاه بكتمر الساقي، وشيّعه خلقٌ كثير من القضاة والأمراء والفقهاء والجند والعوام، وتقدّم للصلاة عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني. وتعجّب السلطان الملك الناصر محمد من جنازته الحفلة، وسأل عنه فعُرِّف بحاله، فقال: هذا رجل جليل القدر ما نعطي وظائفه إلا لمن يكون مثله.
ومولده في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وست مئة.
وكان من بيت رئاسة وعلم، كان ابن عمه أخيراً في زمانه قائداً حاجباً بإشبيلية. وكان عند الشيخ فتح الدين رحمه الله تعالى كتبٌ كثيرة وأصول جيدة كمصنّف ابن أبي شيبة، ومسنده، وجامع عبد الرزاق، والمحلى، والتمهيد، والاستيعاب، والاستذكار، وتاريخ الخطيب،
والتاريخ المظفّري، وتاريخ ابن أبي خيثمة ومسند البزار ومعاجم الطبراني. وكان قد تفرّد في وقته بالحديث في الديار المصرية.
أخبرني من لفظه القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسَراني قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إذا حضرنا درسه وجاء ذكر أحد من الصحابة أو أحد من رجال الحديث قال: أيش ترجمة هذا يا أبا الفتح، فيأخذ فتح الدين في الكلام ويسرد والناس سكوت، والشيخ مُصغ الى ما يقوله. انتهى.
وكان صحيح القراءة سريعها، لم أسمع أفصحَ منه ولا أسرع. وأما خطّه فكان يكتب المصحف في جمعة واحدة، ويكتب سيرته وهي مجلدان كبيران في عشرين يوماً، وأظنه قال لي: لم أكتب على أحد، ولم يرَ أحدٌ أحلى من خطه ولا أظرف. وقال لي: لم يكن لي في العروض شيخ، ونظرت فيه جمعة فوضعت فيه مصنّفاً، ورأيت أنا هذا المصنّف.
وصنّف عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير سمعت بعضه من لفظه، واختصر ذلك وسمّاه نور العيون وهو عندي بخطه، وسمعته من لفظه، وتحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة وسمعته من لفظه وملكته بخطه، والنفح الشذي في شرح الترمذي، ولم يكمل، وكان قد سمّاه العَرف الشذي، فلما اجتمعت به قلت له: سمّه النفح الشذي ليقابل الشرح بالنفح، فسمّاه بذلك، وكتاب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقرأته عليه بلفظه مشروحاً، ومنح
المِدَح. وسمعته من لفظه الى ترجمة عبد الله بن الزّبعرى، والمقامات العلية في كرامات الصحابة، وسمعت قصيدتها الميمية من لفظه.
وكان بيده من الوظائف مشيخة الظاهرية ومدرسة أبي حليقة على بركة الفيل، ومسجد الرصد، وخطابة جامع الخندق، وكانت له رزق في الديار المصرية، وراتبه في صفد، وما رأيت أحداً محظوظاً مثله، ما رآه أحد إلا أحبه وعظّمه. كان الأمير علم الدين الدواداري يحبّه ويلازمه كثيراً ويقضي أشغال الناس عنده، ودخل به الى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين وقد امتدحه بقصيدة، وقال: أحضرت لك هذا وهو كبير من أهل العلم، فلم يدعه السلطان يبوس الأرض، وأجلسه معه على الطراحة، وهل قام له أو لا، أنا في شك من ذلك، ولما رأى خطه وسمع لفظه قال: هذا ينبغي أن يكون في ديوان الإنشاء، فرتّبه في ديوان الموقّعين، فرأى الشيخ فتح الدين الملازمة ولُبس الخف والمهماز صعباً عليه، فسأل الإعفاء من ذلك، فقال السلطان: إذا كان لابد من ذلك فيكون هذا المعلوم يتناوله على سبيل الراتب، فرتّب له الى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان الكمالي ينام معه في قرظيّة النوم، وكان كريم الدين الكبير يميل إليه كثيراً ويودّه، ويقضي أشغال الناس عنده، وهو الذي ساعده على عمل المحضر وإثباته بعداوة قاضي القضاة بدر الدين بن جَماعة.
سمع صحيح البخاري بقراءته على الحجّار، وتعصّب له الأمير سيف الدين أرغون النائب وخلّص له مشيخة الحديث بالظاهرية، ولم أعرف أحداً من أمراء الدولة إلا وهو يحبه ويصحبه ويميل إليه ويجتمع به، وإنما كان الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار والقاضي فخر الدين ناظر الجيش منحرفين عنه قليلاً، وكذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله كان منحرفاً عنه.
وأقمت عنده بالظاهرية قريباً من سنتين فكنت أراه في كثير من الأوقات يصلي في كل صلاة مرات كثيرة، وسألته يوماً عن ذلك فقال لي: إنه خطر لي يوماً أن أصلّي كل صلاة مرتين ففعلت ذلك زماناً فخف عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة ثلاث مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة أربع مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ علي، وأنسيت هل قال لي: خمس مرات أو لا.
وكان صحيح العقيدة، جيّد الذهن، يفهم به النكت العقلية ويسارع إليها، ولكنه جمّد ذهنه لاقتصاره به على النّقل، ولو كان اشتغاله على قدر ذهنه بلغ الغاية القصوى، ولكن كان عنده لعب، على أنه ما خلّف مثله. وكان النّظم عليه بلا كلفة، يكاد لا يتكلم إلا بالوزن. وفيه قلت أنا:
لي صاحب يتمنى لي الرضا أبداً
…
كأنما يختشي صدّي وهجراني
ويغلب النّظم ألفاظاً يَفوه بها
…
فما يُكلّمني إلا بميزان
وكتبت له استدعاء بإجازته لي، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة.
المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة المتقن الحافظ رحلة
المحدثين، قبلة المتأدبين، جامع أشتات الفضائل، حاوي محاسن الأوائل والأواخر:
حافظ السنّة حفظاً لا ترى
…
معه أن يُعمل الناس الأسنّه
مركزُ الدائر من أهل النُهى
…
فإلى ما قد حوى تُثنى الأعنّه
بديع زمانه، نادرُة أوانه، ضابط الأنساب على اختلافها، فهو السيل المتحدّر لا ابنُ نقطة، ناقل العلم الشريف عن سلفه الذي وافق على المراد شرطه، ساحب ذيل الفخر الذي لو بلغ السمعاني جعله في الحُلية قِرطه، صاحب النقل الذي إذا أتى رأيت البحر بأمواجه منه يلتط، والعبارة تستبق في مضمار لهواته فتزداد وتزدحم، الذي إذا ترسّل نقصت عنده ألفاظ الفاضل، وعجز عن مفاوضته ومعارضته كل مناظر ومناضل، أو نظم ثبت الجوهر الفرد خلافاً للنّظام فيما زعم، وتخطى بما بيديه فرق الفرقدين، وترضى النجوم بما حكم، أو أورد مما قد سمع واقعة مات التاريخ في جلده، ووقف سيف حاكٍ عند حده، أو استمد قلماً كف بصره عنه ابن مقْله، ووقف ابن البواب بخدمته يطلب من فضله فُضلهُ، فهو الذي تطير أقلامه الى اقتناص شوارد المغاني فتكون من أنامله " أولي أجنحة مَثنى وثلاثٍ "، وتنبعث فكرته في طلب السنة النبوية وما يكره الله هذا الانبعاث، وتبرز مخبّات المعاني بنظمه ومن السحر إظهار الخبايا، ويعقِد الألسنة عن معارضته، وعقْدُ اللسان لا يكون بغير السحر في البرايا، ويستنزل كواكب الفصاحة من سمائها بغير رصد، ويأتي بألفاظه العذبة، ونورها المشمس وفُحولتها للأسد، ويحل من بيت سيادته بيتاً
عموده الصّبح وطُنُبه المجرّة، ويتوقّل هضبات المنابر، ويستجنّ حشا المحاريب ويطأ بطون الأسرّة، فتح الدين محمد بن سيد الناس:
لا زال روضُ العلم من فضله
…
أنفاسُه طيّبةُ النفحِ
وكابدا نظما الى نظمه
…
أبدى سحابا دائم السحِّ
وكيفما حاوله طالبٌ
…
في العلم لا ينفكّ ذا نُجْحِ
وإن غدا النُهى مُقفلاً
…
في الناس نادَوا يا أبا الفتْحِ
إجازة كاتب هذه الأحرف جميع ما رواه من أنواع العلوم، وما حمله من تفسير لكتاب الله أو سُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أثر عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ومَن بعدهم الى عصرنا هذا بسماع من شيوخه أو بقراءة من لفظه، أو سماع بقراءة غيره، أو بطريق الإجازة خاصة كانت أو عامة أو بإذن أو مُناوَلة أو وصية كيفما تأدّى ذلك إليه، الى غير ذلك من كتب الأدب وغيرها، وإجازةُ ما له من مقولٍ نظماً ونثراً وتأليفاً وجمعاً في سائر العلوم، وإثبات ذلك بأجمعه الى هذا التاريخ بخطّه إجازة خاصة، وإجازة ما لعلّه يتّفق له بعد ذلك من هذه الأنواع، فإن الرياض لا ينقطعُ زهرُها والبحارَ لا تنفد دررها إجازة عامة على أحد الرأيين عند من يجوّزه.
وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
فكتب هو الجواب رحمه الله تعالى:
بعد حمد الله المجيب مَن دعاه، القريب ممن نادى نَداه، الذي ابْتعثَ محمّداً بأنواره الساطعة وهداه، وأيّده بصحبه الذين حمَوْا حماه، ونصروه على مَن عاداه،
وحزبه الذين روَوْ سنّته وروّوْا أسنتهم من عِداه، وشفَوا بإيراد مناهله مَن كان يشكو صداه، وأجابوه لما دعاهم لما يُحييهم إجابة الصارخ صداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تُبلّغهم من الشرف الرفيع غاية مَداه، وسلّم عليه وعليهم تسليماً يسوّغهم مشرع الرضوان عذباً ريّه، سهلاً منتداه.
فلما كتبت أيها الصدر الذي يشرح الصدور شفاء، والبدر الذي يبهر العقول سناً وسناءً، والحبر الذي غدا في التماس أزهار الأدب راغباً، ولاقتباس أنوار العلم طالباً، فحصل على اقتناء فرائدها واقتناص شواردها، وأُلفي عقله عقال أوابدها، ومجال مصائدها، ومطار مطاردها، بما أودَعت الألمعية من المعاني المُبْتدعة ذهنه، واستعادته على لسان قلمه وقد ألبسته الفصاحة من حسن تلك الفطنة:
زهَرُ الآداب منه يُجْتَنى
…
حسنُ الإبداع ما أبدعَ حُسْنه
بارعٌ في كل فنّ فمتى
…
قال: قال الناس: ما أبدع فنّه
ومتى ما فاهَ فاض السحرُ عن
…
غامضِ الأفكار منه المرجَحنّه
فالآداب، حرسه الله تعالى، رياضٌ هو مجتني غروسها وسماءً هو مجتلي أقمارها وشموسها، وبحر استقرت لديه جواهره وسحر حلال لم تنفث في عصره إلا عن قلمه سواحرُه، فله في فنّي النظم والنثر حمْلُ الرايتين وسبقُ الغابتين، وحوز البراعتين،
وسرّ الصناعتين، وهو مجمع البحرين، فما طلُّ الغمامة؟، وله النظر الثاقب في دقائقهما، فمَن زرقاء اليمامة، إن سام نظماً فمَن شاعر تِهامَه؟، وإن شاء إنشاء فله التقدم على قُدامه، فإن وشّى طِرساً فما ابن هلال إلا كالقُلامة، أن أجيز لك ما عندي فكأنما أن أتجاوز حدّي، لولا أن الإقرار بأن الرواية عن الأقران نهج مَهْيَع، والاعتراف بأن للكبير من بحر الصغير الاغتراف وإن لم يكن مَشْرَعه ذلك المَشرع. فنعم قد أجزت لك ما رويتُه من أنواع العلوم وما حملته على الشرط المعروف والعُرف المَعلوم، وما تضمّنه الاستدعاء الرقيم بخطك الكريم مما اقتدحه زندي الشّحاح وجادت به لي السجايا الشحاح من فنون الأدب التي باعُك فيها من باعي أمدّ، وسهمك في مراميها من سهمي أسدّ. وأذنت لك في إصلاح ما تعثُر عليه من الزلل والوهم والخلل الصادر عن غفلة اعترت النقل، أو وَهلة اعترضت الفهم، فيما صدر عن قريحتي القريحة من النثر والنّظم، وفيما تراه من استبدال لفظ بغيره مما لعله أنجى من المرهوب، أو أنجع في نيل المطلوب، أو أجرى في سنن الفصاحة على الأسلوب، وقد أجزتُ لك إجازة خاصة، يرى جوازها بعضُ مَن لا يرى جواز الإجازة العامة، أن تروي عني ما لي من تصنيف أبقيته في أي معنىً انتقيته فمن ذلك
…
وذكر رحمه الله تعالى ههنا ما له من التصانيف، وقد ذكرتها آنفاً. وقد أجزت لك أيّدك الله جميع ذلك بشرط التحري فيما هنالك، تبركاً بالدخول في هذه الحلبة، وتمسّكاً باقتفاء السّلف في ارتقاء هذه الرُتبة، وإقبالاً من نشر السنّة على ما هو أمنية المتمني، وامتثالاً لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام:" بلّغوا عني " فقد أخبرنا أبو العزّ عبد العزيز بن عبد المنعم بن علي الحراني رحمه الله تعالى بقراءة والدي عليه وأنا أسمع
سنة ست وسبعين وست مئة، قال: أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم البغدادي قراءةً عليه وأنا أسمع منه سنة ست مئة، وقبل ذلك سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وأنا محضر في الخامسة، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري قاضي المارستان سماعاً عليه سنة أربع وعشرين وخمس مئة: قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في سنة ست وأربعين وأربع مئة، أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن يسار السابوري بالبصرة، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري حدثنا محمد بن ابراهيم بن كثير الصوري، حدثنا الفريابي، عن ابن ثوبان، عن حسّان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلّغوا عني ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار ".
أبو كبشة تابعي ثقة، والصحيح أنه لا يُعرف اسمه.
ومولدي في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وست مئة بالقاهرة، وفي
هذه السنة أجاز لي الشيخ المُسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرّاني، وكان أبي رحمه الله يخبرني أنه كَناني، وأجلسني في حجره، وكان يسأله عني بعد ذلك. وأجاز لي بعده جماعة.
ثم في سنة خمس وسبعين حضرت مجلس سماع الحديث عند جماعة من الأعيان، منهم الحبر الإمام شيخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي ابن أخي الحافظ عبد الغني المقدسي، وأثبت اسمي في الطباق حاضراً في الرابعة.
ثم في سنة خمس وثمانين كتبت الحديث عن شيخنا الإمام قطب الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني رحمه الله بخطي، وقرأت عليه بلفظي، وعلى الشيوخ من أصحاب المسند أبي حفص بن طبرزد والعلامة أبي اليُمن الكندي والقاضي أبي القاسم الحرستاني والصوفي أبي عبد الله بن البنّا وأبي الحسن بن البنا، وغيرهم بمصر والاسكندرية والشام والحجاز وغير ذلك.
وأجاز لي جماعة من الرواة بالحجاز والعراق والشام وإفريقية والأندلس وغيرهم يطول ذكرهم.
وحبّذا، أيدك الله، اختيارك من طلب الحديث الدرجة العالية، وإيثارك أن تكون مع الفرقة الناجية، لا الفرقة التاوية، فقد أخبرنا الشيخان أبو محمد عبد اللطيف وعبد العزيز ابنا الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن الصّيْقل الحراني، الأول إجازة، والثاني سماعاً قالا: أخبرنا ضياء بن الخُرَيف، محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوف بن مُطير اللّخمي، حدّثنا محمد بن
أحمد بن هاشم البعلبكي، حدثنا عبد الملك بن الإصبع البعلبكي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كُلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ".
وبالإسناد الى الخطيب: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن علي السوذرجاني بأصبهان قال: سمعت عبد الله بن القاسم يقول: سمعت أحمد بن محمد بن رُوّه يقول حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حُدّثت عن أحمد بن حنبل، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم " تفترق الأمة على نيّف وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " فقال: إن لم يكونوا أصحابَ الحديث فلا أدري مَن هم.
وبه الى أبي بكر الخطيب قال: حدثني محمد بن أبي الحسن قال: أخبرني أبو القاسم بن سختويه قال: سمعت أبا العباس أحمد بن منصور الحافظ بصور يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن عبد الله بن بشر نفسا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله: مَن الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة؟ قال: أنتم يا أصحاب الحديث.
وبه الى الخطيب قال: أخبرني محمد بن علي الأصبهاني حدّثنا الحسين بن محمد بن الوليد التستري بها. حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف بن مسعدة إملاءً، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سلاّم يقول: أنشدني عبدة بن زياد الأصبهاني من قوله:
دينُ النبي محمد أخبارُ
…
نِعمَ المطيّةُ للفتى الآثارُ
لا تُخدعنّ عن الحديث وأهله
…
فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ
ولربّما غلط الفتى سُبُل الهدى
…
والشمس بازغةٌ لها أنوارُ
وأنشدني والدي أبو عمرو محمد، قال: أنشدني والدي أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس رحمهما الله تعالى قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي قال: أنشدني أبو الوليد سعد السعود بن أحمد بن هشام قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد الملك قال: أنشدنا أبو أسامة يعقوب، قال: أنشدني والدي الفقيه الحافظ أبو محمد بن حزم لنفسه:
مَن عذيري من أناس جهلوا
…
ثم ظنّوا أنهم أهلُ النظرْ
ركبوا الرأي عناداً فسروا
…
في ظلام تاه فيه من غبَرْ
وطريقُ الرشد نهجٌ مهْيعٌ
…
مثلما أبصرتُ في الأفق القمرْ
وهو الإجماع والنّص الذي
…
ليس إلا في كتابٍ أو أثرْ
والله المسؤول أن يلهمنا رشداً يدلّنا عليه، ودلالة تهدينا الى ما يُزلِفنا لديه، وهداية يسعى نورها بين أيدينا إذا وقفنا يوم العرض بين يديه بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكنت بصفد لما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى:
فلقد ألمْتُ فما الحِمامُ بصادحٍ
…
أسفاً ولا أغصانها بموائسِ
قلت أرثيه رحمه الله تعالى:
ما بعدَ فقدك لي أُنس أرجّيه
…
ولا سرورٌ من الدنيا أقضيهِ
إن متُّ بعدَك من وجدٍ ومن حزَن
…
فحقُّ فضلك عند من يوفيه
ومن يعلّم فيك الوُرق إن جهلت
…
نُواحها أو تناسته فتُمليه
أما لَطافةُ أنفاس النّسيم فقدْ
…
نسيتُها غيرَ لُطفٍ كنتَ تُبديه
وإن ترشّفتُ عذْب الماء أذْكرني
…
زُلالُه خُلُقاً قد كنتَ تحويه
يا راحلاً فوقَ أعناقِ الرجال وأج
…
فانُ الملائكِ تحت العَرشِ تبْكيهِ
وذاهباً سارَ لا يلوي على أحد
…
والذّكْرُ ينشرهُ واللحْدُ يطويه
وماضياً غفر الله الكريم له
…
باللُّطفِ حاضرهُ منه وباديه
وباتَ بالحُور والولدان مُشتغلاً
…
إذا أقبلتْ تتهادى في تلقّيه
حتى غدا في جنان الخُلدِ مُبتهجاً
…
والقلب بالحُزن يَفنى في تلظّيه
لهفي على ذلك الشخص الكريم وقد
…
دعاه نحو البلى في التَّرب داعيه
وحيرتي فيه لا تقضي عليّ ولا
…
تُقضى لواعِجُها حتى أوفّيه
أُجزى الأسى عبَراتي كالعَقيقِ وقد
…
أصمّ سمعي وأصْمى القلبَ ناعيْه
يا وحشة الدّهر في عين الأنام فقد
…
خلَتْ وجوهُ الليالي من معانيه
ووحشة الدرس إن تُنشر مُلاءتُهُ
…
ولم تطرّز حواشيها أماليه
يا حافظاً ضاع نشرُ العِلم منه الى
…
أن كاد يعرفْهُ مَن لا يسمّيه
صان الرّواية بالإسْنادِ فامْتنعَتْ
…
ثُغورها حين خاطَتْها عواليه
واستضْعَفت بارقاتُ الجوّ أنفُسَها
…
في فَهمِ مشكلةٍ عن أن تُجاريهِ
حفظْتَ سنّة خيرِ المرسلين فما
…
أراكَ تُمسي مُضاعاً عند باريه
للهِ درّك من حَبر تبحّر في
…
علمِ الحديث فما خابتْ مساعيه
وهل يخيبُ معاذَ الله سعيُ فتىً
…
في سُنّة المصطفى أفنى لياليه
يكفيه ما خطّه في الصحف من مدح الن
…
بي يكفيه هذا القدرُ يكفيه
عزّ البُخاري فيما قد أُصيب به
…
مات الذي كان بين الناس يدريه
كأنه ما تحلّى سمعُ حاضره
…
بلفظه عندما يروي لآليْهِ
رواية زانها منه بمعرفةٍ
…
ما كلّ مَن قام بين الناس يرويه
يا رحمتاهُ لشرح التّرمذي فمَنْ
…
يضمّ غُربتَهُ فينا ويُؤويهِ
لو كان أمهلهُ داعي المنون الى
…
أن تنتهي في أماليه أمانيه
لكان أهداه روضاً كله زهرٌ
…
أناملُ الفكر في معناهُ تَجنيه
مَن للقريض فلم أعرفْ له أحداً
…
سواهُ رقّت به فينا حواشيه
ما كان ذاك الذي تلقاه يَنظمه
…
شعراً ولكنه سحرٌ يعانيه
يهزّ سامعه حتى يخيّل لي
…
كأس الحُميّا أدارتها قوافيه
ومَن يمرُّ على القِرطاس راحتهُ
…
فينبتُ الزهرَ غضاً في نواحيه
ما كل من خطّ في طرس وسوّده
…
بالحبر تغدو به بيضاً لياليه
ولا تخلْ كلّ من في كفّه قلمٌ
…
إذا دعاه الى معنى يلبّيه
هيهات ما كان فتح الدين حين مضى
…
والله إلا فريداً في معانيه
كم حاز فضلاً يقول القائلون له
…
لو جازك الليلُ لابيضّت لياليه
لا تسأل الناس سلني عن خلائقه
…
لتأخذ الماء عني من مجاريه
ماذا أقول وما للناس من صفةٍ
…
محمودة قطُّ إلا رُكّبتْ فيه
كالشمس كل الورى تدري محاسنها
…
والكافُ زائدةٌ لا كافُ تشبيه
سقى الغمامُ ضريحاً قد تضمّنه
…
صوْباً إذا انهلّ لا ترْقا غواديه
وباكرتْه تحياتٌ نوافِحُها
…
من الجنان تحيّيه فتُحييه
وكتبت إليه لما قدمت الى دمشق من القاهرة:
كان سمعي في مصر بالشيخ فت
…
ح الدين يَجني الآداب وهي شهيّهْ
يا لها غُربةً بأرض دمشقٍ
…
أعوَزَتْني الفواكهَ الفتحيّهْ
وكتبت إليه:
يا حافظاً كم لرواياته
…
من جنةٍ في بطنِ قِرطاسِ
كم شذىً من سُنّة المصطفى
…
قد ضاع من حفظكِ للناس
وكتبت على كتابه بشرى اللبيب:
بُشرى اللبيب لباب النظم للبشر
…
في مدح سيدنا المختار من مضَرِ
لما بدا الشيخُ فتح الدين ينظمه
…
تأرّجتْ نسمةُ الآصال والبُكر
بحرٌ ولكنه أهدى الدراري وال
…
بحور من شأنها الإتيان بالدُرر
تجلو عليكَ معانيه العرائسَ في
…
بيتٍ من الشعر لا بيتٍ من الشَعَرِ
وبيني وبينه رحمه الله تعالى مكاتبات كثيرة. كتبت إليه من الرحبة وهو:
سلوا نسمة الوادي إذا هي هبّت
…
سُحَيراً وهزّت في الربا كلَّ أيكةِ
فكم لي في أثنائها من رسالة
…
أضمّنها شوقي إليكم ووحشتي
وما طابَ رياها الى أن تضمّنتْ
…
ثنائي على عليائكم وتحيتي
إذا عانقتْ في الروض أغصان بانه
…
حكت خطراتِ الغيد لما تثنّتِ
وإن نبهتْ ورقَ الحمائم أعلنت
…
وأغنتْ عن الأوتار لما تغنّتِ
وإن سحبتْ ذيلاً بمنعرج اللوى
…
تحلّ عُرى أزهاره حيث حلّتِ
وإن صافحتْ وجه الرياض فإنما
…
تقبّل من أوطانكم كل تُربةِ
فمنّوا بإهداءِ السلام على فتىً
…
تردّد منه الروحُ في جسم ميّت
يُقبّل من فرطِ الجوى عتباتِكُم
…
وذلك فرضٌ عنده غيرُ سنّةِ
وينشر من طيب الثّناء عليكم
…
محاسن ينسى نشرُها كل روضة
ويبكي إذا ما استخبرَ البرق عنكمُ
…
وقد بسمتْ منه ثُغورُ الدجُنّةِ
وإن رتّل الذكرى تداعتْ صبابةً
…
له الوُرقُ فارتاحت وناحتْ وحنّتِ
ولما رأت ريحُ الصّبا ما تكنّه
…
أضالعه اعتلّت لذاك وأنّتِ
رعى الله أياماً تقضتْ بقُربكمْ
…
وحيّا محلاً كنتم فيه جيرتي
ولا شكَرَ الرّحمنُ أيام بيننا
…
فليستْ سواءً والتي قبلُ ولّتِ
ولو أنصفَ الدهرَ الخؤونُ الذي قضت
…
صُروفُ لياليه ببيْني وفرقتي
لما سِرْتُ عن ذاكَ الجِناب الذي حوى
…
من الفضلِ والعلياء كل عظيمةِ
ولو كان يُشرى القُربُ بالنفس ما غلا
…
ومَن لي لو نِلتُ المُنى بالمنية
عسى الدهرُ أن يدني الى ظلّ قُربكم
…
مُحباً رأى في البُعد كل مشقّة
ووالله ما حالتْ عن العهد مُهجتي
…
وكم مُرهفاتٍ لو تسلّت لسُلّتِ
وما ضرّكم لو زار طيفُ خيالكم
…
فخفّفَ من وجدي ونفّس كُربتي
وكيف يخوضُ الطّيفُ لُجَّ مدامعي
…
ومن بعدكم تعرف النومَ مُقلتي
فكتب هو الجواب عن ذلك:
مننتَ بنُعمى بلّغت كل منيةٍ
…
ونلتُ بها المأمولَ قبل منيّتي
وأهدتْ الى قلبي الجريح قرارَهُ
…
وجادتْ على طرفي القريح بقُرّةِ
مُشرَّفةٌ لم يأت عصرٌ بمثلها
…
سقَتْ دارَ مُهديها سوافجُ عبرتي
وصلتَ بها عهدَ المسرّة مُحسناً
…
وأنعمتَ لي منها بأحسن وُصلتي
وشرّفتَ من ذكري وشنّفتَ مَسمعي
…
وأعليتَ من قدري وأغْليت قيمتي
فها أنا منها في صُعودٍ كأنما
…
أحاول ما بين الكواكب ثُورَتي
وأهديتها عذراء بالحسن أفردتْ
…
وما بينَ أغصانِ اليراع تثنّتِ
جلَتْ كل معنىً من بديعك باهرٍ
…
وأبدت فُنوناً من علومكَ جلّتِ
ونادت فلبّتها المعاني مُجيبةً
…
ولو غيرُها نادى المَعافي لندّتِ
حوتْ قصباتث السّبقِ كل غايةٍ
…
فلم تكُ فيها كالتي قبلُ كلّتِ
فمن دُرّ نَظْمٍ لا يُسامُ لمفلسٍ
…
ومن نَثر دُر لا يُسامى بنثرةِ
ومن وَشي خَطٍ فيه نُزّهت ناظري
…
ومن سحر معنىً فيه أنشأتُ نشأتي
إليكَ صلاح الدين أشكو صبابتي
…
وأرفع فيما رابني منك قصّتي
أقول بأن القلب مثواك دائماً
…
وأشكو إليكَ الشوقَ في كل لحظةِ
وأشكر أياماً تقضّتْ بقربكم
…
وقلّ لها شُكري وإن هي حلّتِ
وأشكر لكَ الأيام تلك بعينها
…
فأعجبُ من شكري لها وشكيتي
تصدّت لنا بالوصلُ تُطعمُنا به
…
فلما أجبناها تجنّت وصدّتِ
ولو أنها منّت بطول بقائها
…
جنينا ثمارَ الوصل من حيثُ منّتِ
لعَمري أشواقي إليك شديدةٌ
…
فهل تُفرج الأيام بالقُرب كُربتي
وإني لما سِرتَ عني ولم أكن
…
بداري لبُعدي عنك في دار غُربتي
تناءَيتَ عن طرفي وأنت بمهجتي
…
فها بصري يشكو إليك بصيرتي
يقبّل كذا وينهي ورود المشرف فأكرِم به وارداً، وأَعزز علي به وافداً، يجلو على الأبصار ما شاء من زَيْن، ويَجلي عن البصائر ما شاء من رين، حائزاً من نظمه ونثره ربح الصناعتين، فائزاً من سحر بيانه ودرّ بنانه بأمدِّ الشرفين، والسّبق في الطرفين، والاستيلاء على الأمدين، والاستعلاء على الصّدفين، فمدّ الملوك إليه راحته، واستمدّ منه راحته، وأدار منه راحه، وألفى لديه انشراحه، ونال به على الدهر اقتراحه، بعدما وجد من فراق من به وجد، وقد أضرم بقلبه من نار الخليل لفقد الخليل ما وقَد، فراح كليم اشتياق في أليم احتراق، ينادي بلسان الأشواق:
قد لسعت حيّة النّوى كبدي
…
ولا طبيب لها ولا راقِ
فوافته وقد شطت الدار، وتنادى عنه المزار، تحية باهى بلطفه الصبا وباهر في حسنها شمس الضحى، وبعرفها زهر الرُبا، فقال يا بشراي بعهدها الوفيّ وجمالها اليوسفي، أصدرت عن بشر أم ملَكْ، أم عن ملك البلاغة الذي ملك من درّ القول ما ملك، وترك لغيره من مخشلبه ما ترك، وأما فقده، حرسه الله تعالى، وهو بدمشق الفواكه الفتحية، فقد وقف المملوك على ما تضمنته تلك التحية، وهزّت منه عطفاً لتلك الأريحية، وإنما يجتني كما قال المقرّ الشهابي حرسه الله تعالى من غرس بدا صلاحه، ورُوِّضُ فلاحُه، وتفتح زهره فراق اختتامه بالمسك وافتتاحه، المملوك يلتمس التشريف بخدمه ومراسيمه ومهمّاته، والله يحرسه في حركاته وسكناته، إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أهلاً بها من تحية صدرتْ
…
عن راحةٍ بالفضائل اشْتهرَتْ
يا حُسن ما سطرتْ أناملها
…
ولطف ما نظمَتْ وما نثرَتْ
فضضْنَ عنها ختامَها فإذا
…
بالشمس في حضرتي وقد سفرَتْ
فشرّفتْني وشنّفت أذني
…
بدرّ ألفاظها التي بهرَتْ
أستغفر الله لو تُقابلها الن
…
جومُ خرّت الأرض وانكدرَتْ
ولو درتْ نسمةٌ برقّتها
…
جفّت غصون الرّبا إذا خطرَتْ
فليس للمُقلة الكحلية ما
…
تفعلُ ألفاظُها التي سحرَتْ
ولا لكأس المُدام نشوتُها
…
في أنفسٍ من سُلافها سكرَتْ
للأدب الغضّ في حديقتها
…
أزاهر من نداك قد مُطرتْ
بالغتَ في سحرك الحلال فكم
…
نظمت زهرَ الدجى وما شعرتْ
وزدتُ لطفاً فهل بعثت بها
…
نفحة روضٍ مع الصباح سَرتْ
سبحان مُعطيكَ فطرة غلبتْ
…
على بديع الكلام واقتدرَتْ
وراحة ما انطوتْ على قلمٍ
…
إلا ووشّتْ مطارِفاً نُشرتْ
من ذا الذي في العُلا يُطاولها
…
وهي على ذي المحاسن اقتصرَتْ
لا مُتّعَتْ مُقلتي برؤيتها
…
إن نظرت مثلها أو انتظرتْ
مذ برّدتْ حُرقتي تحيتُها
…
تلتْ شفاهي الدُعا وما فترتْ
وأصبحت أدمعٌ أكفكِفُها
…
يا جيرة الفرات جرتْ
والنفس لم تستعر محبّتكم
…
لكنها بالصّبابة استعرتْ
يا سيّد الناس وابنَ سيدهم
…
ديارُ مصرَ بفضلكَ افتخرتْ
إذ أنت في ربعها تقوم بحف
…
ظ سنّة المُصطفى إذا ذُكرت
هُنّيتَها رتبة ظفرتَ بها
…
خُطا بني العلم دونَها قصُرَتْ
يقبّل الأرض التي مجالس العلم بها مشهودة، وبركاتها مشهورة، وكتب السنّة الشريفة منصوصة، وكتائبها منصورة، ونفائس الآداب بها مسرودة، ونفوس أهلها مسرورة:
فهي أرضٌ تُطاول الأفقَ فخراً
…
إذ عليها مَسعاك دون البِقاعِ
والقدم الذي إذا خطت يكاد يسعى إليها المنبر، ويوطئها قدرُها العلي خدّ من فسد ومن برّ، ويمسح أخمصها إذا سعت في المعالي عن برّ عنبر:
قدمٌ تستقلّ نعلَ الثريا
…
مذ ترقّت في سامياتِ المساعي
واليد التي لو أرادت لنالت الكواكب، وأخجلت بجودها الغيوث الهوامع والسحب السواكب، وحملت رايات فخارها التي تزدحم تحت ظلها في السيادة مناكب الكواكب:
راحةٌ تشرف الشِّفاهُ إذا ما
…
قبّلتْها للفضلِ بالإجماعِ
تقبيل محب ظفر بوصل حبيبه، وأمكنته الفرصة بغفلة كاشحهِ وغيبة رقيبه، فهو يصل القبلة بالقبلة، ويشفع النهلة بالعلة: ويستمر على ولائه الذي:
يراه على طول المدى خير صاحبِ
ويحافظ على دعائه الذي:
به تُعرف العشّاقُ عند الحبائبِ
ويبثّ من ثنائه الذي:
يضوع شَذاه في الصَّبا والجنائبِ
ويصف أشواقه التي لا يعلم قرارها إلا الذي أوجبَها وقررها، ولا يدري قدرها إلا الذي حكم بها وقدّرها، ولا يعرف ألمها إلا القلب الذي لمّها، ولا يجبر ضيمها إلا الفؤاد الذي ضمّها، فهي الأشواق التي استعارت الجحيمُ استعارَها، ونفتْ عن الجفون قرّتها وعن الجوانح قرارها، وأعدمت النفس في الصباح صلاحها وفي المساء مسارّها.
وحنيني إذا تصدّى لنفسي
…
صدّ لهوي عن ارتياد ارتياحي
علّم الوُرقَ حُزنها في الأو
…
راقِ تتلوهُ في نواحي النواحي
لا يردّ الجوى اغتباطُ الغتباقٍ
…
من حنيني ولا اصطبارُ اصطباحي
يا لها هفوةً مسيري عنكمُ
…
قذفَتْ بي الى اطّرادِ اطّراحي
ودرتْ أنني لي الذنبُ في البُع
…
دِ فجارَت على اجتراءِ اجتراحي
فآهاً على الديار المصرية وأوقاتها، وسقياً لمعاهد أُنسها لنفسها ولذاتها لذاتها، ورعياً لتلك المنازل التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، وحفظاً لتلك الوجوه التي:
للشمس أضواءٌ على جبهاتها
وشكراً لتلك النفوس التي:
المجد يغلبُها على علاتها
ذُكر الأنام لنا فكن قصيدة
…
أنت البديع الفرد من أبياتها
وما أقول بل ما أنتظر إلا نظرة شهابية، ولا أترقب إلا همة عدوية عمرية، تُنقذني من نار هذه الغربه، وتعيدني الى خير عالم وألطف تربه، وتتعطّف على من غدرت به أيامه ولياليه، وأتى كما حكمت عليه الأقدار بذنب عقابه فيه:
وكأنني بها كما عوّدَتْني
…
عطفتْها عليّ تلك المعاطفْ
ثم قالت دعوهُ يحظى بوصلٍ
…
إذ له مدةً على الباب واقفْ
فلله عزماتها التي لو شاءت جمعت بين الضبّ والنون، وأبدلت بالمنى موارد المنون، وما ذلك عليها بمشيئة الله تعالى بعزير ولا عتيد، وما هي إلا كلمة تدخل بالمملوك الى دار السعادة كما عوّدت من باب البريد.
وأما المثال العالي أعلاه الله تعالى وجعل القلوب في عليّ قدره تتوالى، فأعود الى وصفه نثراً وأستعير من كلماته في تقريظه درّا، فأقول: إنه اشتمل على المحاسن وغدا أنموذج الجنة التي خمرها مغتال وماؤها غير آسن، تقطر البلاغة من كلمه، وتشفّ الفصاحة من وراء ما سطّر بقلمه، وتغني رياضه الناضرة عن أراك الحمى وعن سلمه، ويهز الواقف على معانيه بالطرف من قرنه الى قدمه، يتحيّر الناظر فيه لتردده بين روض وأفق، ويتخيّر الماهر من لفظه تاجاً لفرقٍ أو قلادة لعنق:
قُل فكمْ من جواهرٍ بنظامِ
…
وُدُّها أنها بفيكَ كلامُ
وأما عبودية المملوك التي تقدّمت فوالله ما توهم المملوك أن سيدي، حرسه الله تعالى، يتكلّف لها جواباً، ولا يفتح من بيوت نظمه المَصون لهذه الطارقة باباً. ولو تحقق هذا الأمر لأعطاها حِيلَهُ وحَيلَه وشدّ على شنّ الإغارة على المعاني الجامحة خَيله، وأعمل فكرة في تهذيب ما يهديه حتى يقال: هذا كتاب ليلة وألف ليلة.
ولما كان هذا مقام افتراص، واقتناء لجواهر كلِمِ سيدي واقتناص بعث هذه
العبودية طمعاً في الجواب الثاني، وعوّذها من الشآم بعطف مولانا الذي لا يثنيه عن الخير ولا الجبر ثانِ، ولله المعرّي حيث قال:
قد أجبْنا قولَ الشّريف بقولٍ
…
فأنبْنا الحصى على المُرجانِ
والله يمتّع الأنام بحياته التي هي جملة الأماني، ويديم فضائله التي لا توجد إلا في العقد ولا تؤخذ إلا من الأغاني، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب عن ذلك:
حيّت فأحيتْ عندما حسرتْ
…
خِمارَها كلَّ مهجٍ سحرَتْ
يا خجلةَ الشمس عندما سفرَتْ
…
وغصّةَ الغُصنِ عندما خطرت
وفتنة الظبي عند لفتتها
…
وحيرة الظبي كلما نظرت
ما كنت أسلو جمالَها أبداً
…
لولا التي بالجَمال قد بهرَتْ
عقيلةٌ تسلب العقول فها
…
ألبابُنا من بديعها سكِرت
جاءت فجادت بكل مطربةٍ
…
يُطوى لها البيدُ كلما نشرت
سماء مجدٍ سمت ببهجتها
…
عن صدر أهل الزمان قد صدرت
محمرة الحُسنِ في حُلى شفقٍ
…
تخضرّ في حُسنها وقد خضرَتْ
أبياتها من عقودها نُظمت
…
ونثرها للكواكب انتثرتْ
لابنِ جلا ما جَلتْهُ من دُرر
…
وابن هلال بديعُ ما سطرتْ
يا حبّذا للصلاح نسبتُها
…
خليلُها من به العُلا افتخرت
يا روض فضْل غُصونه زهرت
…
وحبر علمٍ بحاره زخرَتْ
سرتْ فعين السرور ما نظرتْ
…
في دوحها الأُنس أغصُناً نضرت
ولا نسيم الصبا سرت سِحراً
…
إلا كدأب الهجير إذا هجرت
ولا تغنّت في الأيك ساجعةً
…
فأطلقت مونعاً ولا أسرت
ولا تثنّى للراح غانية
…
أوتارها واللحاظ كم وترت
ولا سمت مُقلةُ المَشوق الى
…
لقياك نحو المقام مذ سمرت
يا عجباً من بحار عبرته
…
ما أُخمدت ناره التي استعرت
كدّرتْ مذ غبت عنه عشيته
…
فيا لأنس نجومه انكدرت
على هواك القلوب قد فُطرت
…
لولا تمني لقائك انفطرت
يا مُقلةً مذ غبتم سخنتْ
…
هل عشية إن حضرتمُ حضرت
ويا حياةً صفت بقربكم
…
هل يُرتجي عودُها وما كدرتْ
يقبّل اليد العالية الصلاحية، لا زالت صالحة الشيم، سافحة الديم بل الباسطة الكريمة، لا برحت واسطة عقد الكرم، بل الأرض المنيفة بحلوله لا فتئت مواطن النعم، ومواطئ أولي الهمم:
تقبيل ملآن الجنا
…
ن بحبه دون الأممْ
متندّم لفراقه
…
لو كان ينفعه النّدمْ
لو كان يطرقُهُ الكرى
…
لكنه لمّا ينمْ
لهفي على عصر به
…
ولّى حميداً لم يُذَمْ
شوقي له شوق العلي
…
ل لما شفاه من السّقمْ
شُكري له شُكرُ الريا
…
ض السحبَ جادت بالدّيم
ذكري لأيام به
…
مرت كما مر الحلم
وحلتْ كما مرّت ليا
…
لي الشريف بذي سلَمْ
وينهي ورود المشرّفة العالية قدراً، الحالية من البدائع الروائع دراً، المؤتقة في رياض الفصاحة زهراً، المطلعة في سماء البلاغة زهراً، وكلف بها كلف عمرو بعراره، والفرزدق بنواره، وأقسم من طرسها بحمرة الشّفق، ومن نِقْسها بالليل وما وسق، ومن غرر معانيها السامية على غير مُعانيها بالقمر إذا اتّسق لتليت أهل البلاغة، فظلت أعناقهم لها خاضعين، وجليت على أرباب اليراعة وألباب البراعة فقالتا: أتينا طائعين، انقياداً لطفيل أعنيتها، وبترياً من مطاعنة أبي براءٍ ملاعب أسنتها، كل يلمحها بطرف كليل وشخص ضئيل، ويرجع عن مجاراتها بأمل حسير وقلب كسير، فلا يُجري في ميدانها خيل طراده ولو قام مقام قسٍ في إياده، وأين حميمه من حمياها أم أين سهيله من ثرياها، لشد ما ارتفعت منها المطالع وانقطعت دونها المطامع، فما الظن بوحيد يحتاج الى الذمام وربيط في الرّغاب لا عهد له في السرايا ولا أنس له بالدخول في القتام أن يجول في حلبة الرهان أو يَطول الى مقاتل
الفرسان أو يُسابق بسكّيته مجلي الميدان، أو يناطق بباقل من سحب ذيلاً على سحبان، وهل تستفاد تلك المواد من غير ذلك المواد، وهل استولى على أمد تلك الجواد غير ذلك الجواد، وأن يكاثر البحار الزواخر من ورده الثماد، وأن يطاول الأنجم الزواهر من قرارته الوهاد، فما تفوه السليم الصدق إلا بالتسليم لذلك السبق والتعظيم لذلك الحق اعترافاً بما قد حواه رافع ذلك المنار وجامع تلك المبار.
وأما أمره بالمسارعة الى المراجعة والمعاجلة الى المساجلة وما غادره لغيره من متردّم، ولو شنّ على الآداب إغارة ربيعة بن مكدم، فلم يرجع المملوك الى جواب ينجده وخطاب يسعفه بالمراد ويسعده إلا التمثل بقول القائل:
وأخذْتَ أطرافَ الكلام فلم تدعْ
…
قولاً يُقالُ ولا بديعاً يُدّعى
وأما تمثيله ببيت أبي العلاء ما هو فيه من علو المكان لإنابته ابن عمه الحصى عن المرجان فما مكاثره بالأدب، وعيونه تنسل إليه من كل حدب إلا المكاثر بياءَي أنيسيان بل لعله حرسه الله تعالى عنّ له المرور ببلاد ابن عنين بلاد بها الحصباء درّ أو ثنى عنانه الى منزل ابن اللبّانة:
نزلنا بكافورٍ وتبرٍ وجوهرٍ
…
يُقال له الحَصباءُ والرملُ والترْبُ
أو أجتاز بنهر أخي مناز وحصاهُ تروع حالية العذارى، فورده وأمواجه تطرد، إما يرد أو يبترد، لكنه عاكسهم في التشبيه، ونافسهم في التمويه، فاستعبد كلامهم كلامه الحُرّ، وكان ما جاء به من الحصى أنفس مما جاؤوا به من الدرّ، فتأخّروا وإن تقدّموا، وتقدّم وإن تأخر، وكانت بدائهه لبدائه سواه تسحر، وبدائعه من بديع سواه تسخر.
وأما تشبهه بالهمة الشهابية وتشوّفه الى الهمة العدوية فلابد بمشيئة الله تعالى أن تعدّى العدوية قربه على بعاده، وتعمر العُمرية أرجاء رجائه بعوده الى معاده، والقطر يسبق الدين السواجم، والزهر يعبق وما انشقّت عنه الكمائم:
وإن رجاءً كاملاً في جميلةٍ
…
لكَالمالِ في الأكياس تحت الخواتمِ
والله يعمر ببقائه أنداءَه، ويسرّ بلقائه أوداءَه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إليه من دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة:
يا عذولاً في لومه قد تفصّح
…
ويرى أنه بذاك تنصّحْ
ليس عندي من الجوى بي جوابٌ
…
هذه أدمعي تقول وتشرح
قف على غير مسمعي واسأل الصّب
…
رَ فما عنده سوى الله يفتحْ
كم ينادي السلو بالحرب أولى
…
وينادي الغرام بالصلح أصلحْ
قِستُ بين السلو والوجد حتى
…
صحّ أن الغرام أرجى وأرجح
كيف صبري عن أرض مصرٍ وفيها
…
لي قوم أسمى الأنام وأسمح
لو تعاطي الجبالُ كأس حديث
…
عنهم مال عطفُها وترنّح
هات قل لي من أين تلقى لفتح الد
…
ين مثلاً إن كنت للحقّ تجنح
خادمٌ سنّة النبي وهذا ال
…
فضل أنجى يوم الحساب وأنجحْ
كلما خط باليراع حديثاً
…
كبّر الله في الطّروس وسبّح
إن تقسْ خطه بروض نديّ
…
صحّ هذا وجفّ ذاك وصوّح
كل عين كأنها طرفُ حبٍ
…
ما توقّى الفؤاد لما توقحْ
أي قلب بالحزن والهم يصدا
…
وحمام الأسجاع فيه يصدحْ
بنظامٍ كالدر لما تنقى
…
ومعانٍ كالسحر لما تُنقّح
لو يجاري برقَ الدُجى ما تنحّى
…
أو يباري قس النهى ما تنحنح
لا أكفر قولي إذ قلت دهري
…
قد توشى من فضله وتوشح
ما رياضُ قضيبها قد تلوى
…
فيه زهرٌ يُزهى بلونٍ تلوّح
جاد قطرُ الندى بها وتفتّى
…
وغدا وردٌ نصبُها قد تفتّح
مثل أخلاقه التي قد حواها
…
بل أراها بالحُسن أملى وأملحْ
قوبلت نسخةُ المعالي عليها
…
وأجاز الجمال ذاك وصحّحْ
آه وا وحشَتا لذاك المُحيّا
…
والسجايا التي أبرُّ وأوضحْ
لا أرى في الزمان أسعدَ ممّنْ
…
قد تمسى بوجهه وتصبّحْ
فكتب الجواب عن ذلك:
صادحاتُ الحمام في الدوح تصدحْ
…
بغرامي فالعين للبين تسفحْ
رجّعت شدوها فبرّح بي شو
…
قٌ مقيم لظاعنٍ ليس يبرحْ
فرّقت بيننا صُروف الليالي
…
فهل الدهرُ بالتواصلِ يسمح
فتنادي بك المنى من قريب
…
بعد قفرٍ من التباعد أقبح
إن لي مطمعاً بقربك يأسو
…
ما غدا الناس بالتباعد يجرح
كلما شام بارقُ الشام طرفي
…
قلت شوقاً لوصلك: الله يفتحْ
ولقلبي منه خُفوقٌ ونارٌ
…
ولطرفي منه سحائب سُيَّحْ
يا صلاح الدين الذي فاقَ أهل ال
…
عصر حلما عنه الرواسي تزحزح
وبليغاً ما رام يأتيه عفواً
…
وفصيحاً ما احتاجَ أن يتفصّح
لو رآه غيلانُ قصّر عن قص
…
دِ بلالٍ وصدّ عن زجرِ صيدح
وفّر النفس عن منى كل وفر
…
ورأى العِلمَ منه أرجى وأرجح
وغذاء الأرواح أشرف مما
…
تغتذيه الأجسام قدراً وأصلح
سبّح الله من رآكَ إماماً
…
كم له في بحار علمك مسبحْ
حائزاً من بدائع بني هلالٍ
…
سحرَ نثرٍ بدُرِّ خطٍ موشّح
كعلي وضعاً ورقّة إبْرا
…
هيم طبعاً بل أنت أسمى وأسمح
يا خليل الآداب ما اختلّ منها
…
فالصحيح الذي عليك يصحَّح
كم على الدهر من حُلالها جمالٌ
…
ما لمسرى مؤمِّلٍ فيه مسرح
سمطها فائزٌ بدُرِّ معانٍ
…
سقطُها من زِناد فكركَ يقدح
كلّ عذراء تسبي كل لبٍ
…
بسنا عن سناءِ علمك يُلمح
زارت الصبِّ في ليالٍ من البُع
…
دِ فلما دنت رأى الصبح أصبحْ
قلدت بالعقيان سحر بيانٍ
…
ليس فيه للفتح بعدك مطمحْ
ختم النّظمُ منك بحر قريضٍ
…
ما أراهُ من بعدِ ختمك يُفتح
وكتب هو إلي رحمه الله تعالى وأنا بصفد في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة:
سُررتم فإني بعدكم غير مسرور
…
وكم لي على الأطلال وقفة مهجورِ
ولا حسَّ إلا حس صائحة الصّدى
…
ولا أُنسَ إلا أنس عيسٍ ويعفور
فيا وحدةَ الداعي صداهُ جوابهُ
…
ويا وحشةَ الساعي الى غير معمورِ
إذا قلت سيري قال سيري مُحاكياً
…
وإن قلتُ زُوري قال لي مثلها زُوري
وما سرّني بالقُرب أني استزرتُها
…
ولا ساءني بالبُعدي قولي لها سيري
فيا ويحَ قلبي كم يعلّله المُنى
…
علالةَ دُنيا استعبدت كل مغرور
تواصل وصل الطيف في سنة الكرى
…
ولست إذا استيقظتَ منه بمحبور
وتدنو دنوّ الآلِ لا ينقعُ الصّدى
…
وتخلبُ آمالاً بخُلّبها الزورِ
تُنيل المُنى من سالمَتْهُ خديعةً
…
وتُعقب من نيل المنى كل محذور
فدعها وثق بالله فالله كافلٌ
…
برزقك ما أبقاك وارضَ بمقدور
وكن شاكراً يسراً وبالعُسر راضياً
…
فأجرُ الرضا والشكرِ أفضلَ مذخورِ
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
هل البرقُ قد وشّى مطارفَ ديجورِ
…
أو الصبحُ قد غشّى دُجى الأفقِ بالنورِ
وهل نسمةُ الأسحار جُرّت ذيولُها
…
على زهر روضٍ طيّب النشر ممطورِ
وهيهاتَ بل جاءتْ تحيةُ جيرةٍ
…
الى مُغرمٍ في قبضة البعد مأسورِ
أتته وما فيه لعائد سُقمه
…
سوى أنه تنبثّ من قلب مصدورِ
فلما تهادت في حُليّ فصاحة
…
من النظم عن سحر البلاغة مأثور
أكبّ على تقبيلها بعد ضمها
…
الى خاطرٍ من لوعة البين مكسور
وأجرى لها دمع المآقي ولم يكن
…
يقابل منظوماً سواه بمنثور
فأرشفه كأسَ السُلاف خطابُها
…
وغازله من لحظها أعينُ الحورِ
فكم حكمةٍ فيها لها الحكم في النهى
…
وكم مثلٍ في غاية الحسن مشهورِ
يرى كل سطر في محاسن وضعه
…
كمسكِ عذارٍ فوقَ وجنةِ كافورِ
فلا ألفٌ إلا حكت غُصنَ بانةٍ
…
وهمزتُها من فوقها مثلُ شُحرور
فأصلح لا يثني الى الأرض جيدَهُ
…
غراماً ولم يعدِل بها وردةَ الجوري
وقد كانت الأطماع نامت لياسها
…
فلما أتت قال الغرامُ لها ثوري
وزادت جفون العين سُهداً كأنما
…
حبَتْها بكحل منه في الجفن مذروري
وكان الدجى كالعام فاحتقرتْ به
…
وقالت له ميعادُك النفخُ في الصور
ولا ترضَ من نار الحشا باتقادها
…
فقد قذفتْ في كل عضو بتنور
وما شكرتْ عيني على سفحِ عبرتي
…
على أن محصول البُكى غير محصور
وقالت أما نحيا الدموع لشدة
…
فدعها تفِضْ من زاخرِ اللّج مسجور
ولو كنتُ ألقى في البُكا فرجاً لما
…
مضى اليوم حتى كنتُ أولَ مغرور
ولو كنت ألقى الصبر هانت مصيبتي
…
ولكنه للحظّ في غير مقدور
فإن تبعثوا لي من زكاة اصطباركم
…
فإني لما تهدونه جدُّ مضرور
سلوا الليل هل آنستُ فيه برقدة
…
فما هو ممن راح يشهدُ بالزورِ
فكم لي فيه صعقةٌ موسويةٌ
…
وللقلب من تذكاركم دكةُ الطور
تشفعتُ للبين المشتِّ بكم عسى
…
يعود هزيمُ القُرب عودةَ منصور
على أن جاه الحظّ أكرمُ شافع
…
ولولاه لم يُحتج الى بنت منظور
وما هو إلا الحظ يعترضُ المُنى
…
ولولاه كان الدهر أطوعَ مأمورِ
فكم في البرايا بين عانٍ ومطلَقٍ
…
وسالٍ ومحزونٍ ودانٍ ومهجور
وليس سوى التسليم لله والرضا
…
بقلب منيبٍ طائعٍ غير مقهور
وحاش لعلاّم الخفيات في الورى
…
على ما ابتلاني أن أُرى غير مأجور
فكتب هو رحمه الله الجواب:
وردت المشرّفة السامية بحُلاها، الزاهية بعلاها، المشتملة على الأبيات الأبيّات، الصادرة عن السجيات السخيّات، التي فاقت الكنديّيْن، وطوت ذكر الطائيين، ما شئت من بدائع إيداع وروائع إبداع، تقف الفصاحةُ عندها وتقْفو البلاغة حدّها، فالله ذلك الفضل الوافي، بل السحر الحلال الشافي، بل تلك القُوى في القوافي، بل تلك المقاصد التي أقصدت المنى في المنافي، بل تلك المعاني التي حيّرت المُعاني، وفعلت في الألباب ما تفعله الثالث والمثاني، بل تلك الأوضاع التي حاك الربيع وشيَها، وامتثل القلم أمرها ونهيها، فهو يصرفها كيف يشاء مرسوماً، ثقة أنها لا تخالف له
مرسوماً. لقد آل فضل الكتاب إليها وآلى فصل الخطاب لا وقف إلا بين يديها، لقد صدرت عن رياض الأدب فجنَت زهره اليانع، لقد أخذت بآفاق سماء البلاغة فلها قمراها والنجوم الطوالع، لقد أفحمت قائلة:
مَن يُساجلُني يُساجل ماجداً
…
يملأ من آدابه كلَّ ذَنوبِ
لقد حسُنَت حتى كأن محاسناً
…
تقسّمها هذا الأنام عيوبُ
هي الشمس تدنو وهي ناءٍ محلّها
…
وما كلُ دانٍ للأنام قريبُ
تخطّت الى الحُضْر الجيادَ نباهةً
…
وهيهات من ذاك الجناب جنيبُ
وحيّت فأحيت بالأماني متيّماً
…
حبيبٌ إليه أن يُلمّ حبيبُ
يذكّرني ذاك الجمال جمالها
…
فليلي كما شاء الغرامُ رحيبُ
وما لي إلا أنةٌ بعد أنةٍ
…
وما لي إلا زفرةٌ ونحيبُ
حنيناً لعهدٍ غادر القلب رهنه
…
وعلّم دمعَ العين كيف يصوبُ
وذكرى خليلٍ لم يغبْ غيرُ شخصه
…
وفي كل قلبٍ من هواهُ نصيب
ولولا حديثُ النفس عنه بعودِه
…
وأن المنى تدعو به فيجيب
لما استعذب الماء الزلال لأنه
…
إذا مازج الماء الزلال يَطيبُ
فبادرها المملوك لبنائها متعرفاً، وبأرحبها متعرفاً، وبولائها متمسكاً وبثنائها متمسكاً، شوقاً إليها لا يبيد ولو عمّر عمر لبيد، واقفاً على آمال اللقاء وقوفَ غيلان بدار ميّة، عاكفاً على أرجاء الرجاء عكوف توبة على حب ليلى الأخيلية، والله يتولاه في حالتيه ظاعناً ومقيماً، ويجعل السّعد له حيث حلّ خديناً والنُجْحَ خَديماً، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
تنوحُ حماماتُ اللوى فأَجيبُ
…
ويحضُرُ عندي عائدي فأغيبُ
وقد ملّ فرشُ السّقْم طولَ تقلّقي
…
عليه بجنبي إذ تهبُّ جَنوبُ
ولما بكتْ عيني نواكَ تعلّمتْ
…
دموعُ السّحاب الغرّ كيف تصوبُ
أيا برقُ إن حاكيتُ قلبي فلم يكن
…
لنارِكَ مع هذا الخفوقِ لهيبُ
ويا غيثُ إن ساجلْتَ دمعي فإنه
…
يفوتك مع ذا أنةٌ ونحيبُ
ويا غصنَ إن هزّت معاطفك الصّبا
…
فما لك قلبٌ بالغرام يذوبُ
إذا جفّ جفني ذاب قلبي أدمُعاً
…
فلله قلبٌ عاد وهو قليبُ
أبيتُ بجفنٍ ليس يعرفُ ما الكرى
…
وأيُ حياةٍ بالسهاد تطيب
وقلبٍ إذا ما قرّ عادتْهُ لوعةٌ
…
فيعروه من بعد القرار وجيبُ
ألا إنّ دهراً قد رماني بصَرفِهِ
…
لدَهْرٌ إذا فكرت فيه عجيب
ويكفي أني بين أهلي ومعشري
…
وصحبي لبُعدي عن حِماك غريبُ
يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الذي تصدّق به مولانا منعماً، وأهده خميلةً فكم شفى زهرُها المنعّم من عمى، وبعثه قلادة فكم أزال درّها المنظّم من ظمأ وأقامه حجة، على أن مُرسله يكون في الإحسان والآداب مالكاً ومتمِّماً، فبلَلْتُ برؤيته غلة الظّمأ البَرْح، وعاينت ما شاده من بنيان البيان، فقلت لبلقيس عيني ادخلي الصّرح، وقمت من حقوقه الواجبة عليّ بما يطول فيه الشرح، وتلقّيته بالضمّ الى قلب لا يجبر منه الكسر غير الفتح، وأسمَت ناظري من طرسه في روضهِ الأُنُف، وقسمت حليّه على أعضائي فللجيد القلائد وللفرق التيجان وللأذن الشُنُف، ووردت منهله الصافي والتحفت بظله الضّافي، واجتليت من وجهه بشراً قابله الشُكر بالقلم الحافي، وعكفت منه على كعبة الفضل فلله ما نشر في استلامي وطوى في طوافي، وكلّفت قلبي الطائر جواباً فلم تقوَ القوادم وظهر الخواء في الخوافي، وقلت هذا الفنّ الذي ما له ضريب، وهذا وصل الحبيب البعيد، قد نلته برغم الرقيب القريب:
فيا عينيّ بِيتا في اعتناقٍ
…
ويا نومي قدمْتَ على السّلامهْ
وأقسم أن البيان ما نكّب عما دبّجه مولانا ونكّت، ولا أجراه الله على لسانه إلا لما سكّت البلغاء وبكّت، ولا آتاه هذه النقود إلا وقد خلّصت القلوب من رقّ غيره وفكّر، ولا وهبه الله هذه الكلم الجوامع إلا أن الأوائل أحسوا بطول رسائلهم فقطّعوها من حيث رقّت، والصحيح من حيث ركّت، فما كل كاتب يده فم ولسانه فيه قلم، ولا كل متكلم حُش بيانه تأتّم الهداة به كأنه علَم، ولا كل بليغ إذا خاطب الوليّ كلاً أو كلّم العدوّ كلَمْ، لأن مولانا حرسه الله تعالى لا يتكلّف إذا أنشا، ولا يتخلّف إذا وشّى، والسّجع أهون عنده من النفس الذي يردده أو أخف، والدرّ الذي يقذفه من رأس قلمه أكبر من الدرّ الذي في قعر البحر وأشفّ، وإذا راضَ قلمه روّض الطّروس من وقته، وإذا أفاض كلمَهُ فوّض البيان أمر مقته ومِقته، وما كلمُه إلا بحر، والقوافي أمواج، وما قلمه إلا ملك البلاغة فإذا امتطى يده ركضت به من الطّروس على حلل الديباج، فلهذا أخملت رسائله الخمائل، وتعلّمت منها الصّبا لطف الشمائل، وأخذت بآفاق البلاغة فلها قمرها الطوالع ولغيرها نجومها الأوافل، وانتقت أعالي الفضائل، وتركت للناس فضالة الأسافل:
وهذا الحقّ ليس به خفاءٌ
…
فدعني من بُنيّات الطريقِ
فأما درّه الذي خرطه الجناس في ذلك السلك فما أحقّه وأولاه بقول ابن سناء الملك:
فذا السّجعُ سجعٌ ليس في النثر مثله
…
وهذا جناسٌ ليس يُحسنُهُ الشعر
فلو رأى الميكالي نمطه العالي وتنسّم شذى غاليته العزيز الغالي لقال عطّلت هذه المحاسن حالي الحالي وكنت من قبلها ما أظن اللآلئ إلا لي، ولو ظفر الحظيري بتلك الدّرر حلّى بها تصنيفه، ولو بلغ العماد الكاتب هذه النكت رفعها على عرشه وعوّذها بآية الكرسي، ودخل دار صمته وأغلق باب الفتح القُدسي، فعينُ الله على هذه الكلم التي نفثت في العُقَد، وأيقظت جدّ هذا الفن الذي كان قد رقد، فقد أصاب الناس بالسهام، وأصبْتَ أنت بالقرطاس، وجاؤوا في كلامهم بالذاوي الذابل وجئت أنت بالغضّ اليانع الغِراس، وأبعدت أنت في مَرمى هذا الفن فقاربوا، ولكن أين الناس من هذا الجناس، وسبقت الى الغاية، ولو وقفت ما في وقوفك ساعةً من باس، وقد قيل: بُدئ الشعر بأمير وخُتم بأمير، يريدون امرأ القيس وأبا فراس، وكذا أقول بدئ بالبُستي وخُتم بمولانا، وكلاكما أبو الفتح فصحّ القياس.
وقد أثنيت على تلك الروضة ولو وفّقت لانثنيت وما أثنيت، ووقفتُ عند
قدري فما أجبت، ولكن اتّقحت وما استحيَيت، على أني لو وجدت لساناً قائلاً لقلت، فإني قد وجدت أول البيت وقد شغل وصف مثال مولانا عن شكوى حال المملوك الشاقة، وأرجو أنني أوصيها شفاها إما في الدنيا وإما في يوم الحاقة:
إن نعِشْ نلتقي وإلا فما
…
أشْغل مَن مات عن جميع الأنامْ
قلت: كأن هذه الخاتمة كانت مني فألاً عليه، فإنا لم نلتق، وحالت المنية بينه وبين الجواب، والمرجو من الحلم الكريم أن يجمعنا في دار كرامته ورحمته.
وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه ما كتبه الى ابن عمه:
تمنّاها وما عقدَ التّمائمْ
…
وشابُ وحبُها في القلب دائمْ
وحكّم لحظها فقضى عليه
…
فأين مجيره من جور حاكمْ
وطارحها الغرام به فقالتْ
…
علمتُ فقال ماذا فعلُ عالم
معلله المتيّم والغواني
…
حبالُ وعودها أبداً رمائم
أما لي في وصالك من نصيب
…
ولا لك في عذابي من مساهم
ولا لي ملجأ في الخطب إلا
…
سليلُ الملك ذو المنن الجسائم
الى ابنِ أبي الحسين الحُسنُ يُعزى
…
وثغر الجود عن جدواه باسم
هُمامٌ بالحروب له اهتمامٌ
…
بفتكٍ في العِدا لا في الغنائم
فيُعمل رأيه الماضي شباه
…
إذا نبت الأسنّة واللهاذم
ويثبت حيث مُشتجر الغوالي
…
ويمضي حيثُ لا يمضي الصوارمْ
ويأمن عنده اللاجي إليه
…
ولو حفّتْ بمهجته الضّراغم
ويقصده السليم فلا يُبالي
…
بما أعياه من سمّ الأراقمْ
وهي طويلة، وهذا القدر منها كاف.
وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة:
فقري لمعروفك المعروفِ يغنيني
…
يا مَن أرجّيه والتقصيرُ يرجيني
إن أوبَقَتْني الخطايا عن مدى شرفٍ
…
نجا بإدراكه الناجون من دوني
أو غضّ من أملي ما شاءَ من عملي
…
فإنّ لي حسنَ ظن فيك يكفيني
وأنشدني من لفظه لنفسه:
صرفت الناس عن بالي
…
فحبلُ ودادهم بالي
وحبلُ الله معتصمي
…
به علّقتُ آمالي
ومَن يسلِ الورى طُرّاً
…
فإني عنهمُ سالي
فلا وجهي لذي جاهٍ
…
ولا ميلي لذي مالِ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
عذيري من دهرٍ تصدّى معاتباً
…
لمستمنح العُتبى فأقصدَ من قصدْ
رجوتَ به وصلَ الحبيب فعندما
…
تبدّى له المعشوقُ قابله الرصَدْ
وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في قراقوش:
ظبيٌ من التُرك هضيم الحشا
…
مهفهفُ القدّ رشيقُ القوامْ
للطّرفِ من تذكاره عبرةٌ
…
والقلب شوقٌ أرّق المُستهامْ