الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده ببغداد في شهر رجب الفرد سنة ثمان وستين وست مئة.
محمد بن يوسف بن علي
ابن يوسف بن حيان، الشيخ الإمام العالم العلامة الفريد الكامل، حجة العرب، مالك أزمّة الأدب، أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجبّائي الجيّاني، بالجيم والياء آخر الحروف مشددة، وبعد الألف نون.
كان أمير المؤمنين في النحو، والشمس السافرة شتاءً في يوم الصحو، والمتصرّف في هذا العلم، فإليه الإثبات والمحو، لو عاصر أئمة البصرة لبَصرهم، وأهل الكوفة لكفَّ عنهم اتّباعهم الشواذ وحذّرهم، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريداً، وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيداً، وجعل سرحة شرحه وجْنة راقت النواظر توريدا. ملأ الزمان تصانيف، وأمال عُنق الأيام بالتواليف. تخرّج به أئمة هذا الفن، وروّق لهم في عصره منه سُلافة الدن، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير محبّب، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقعيره وهو محدّب، أو الخليل لكان بعينه قذاه، أو سيبويه لما تردّى من مسألته الزنبوريّة برداه، أو الكسائي لأعراه
حُلّة جاهه عند الرشيد وأناسه، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولد المأمون تقديم مداسه، أو الزيدي لأظهر نقصه من مكامنه، أو الأخفض لأخفى جملة من محاسنه، أو أبو عبيدة لما تركه ينصبّ لشعب الشعوبية، أو أبو عمرو لشغله بتحقيق اسمه دون التعلّق بعربية، أو السكّري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا، أو المازني لما زانه قوله:
إن مصابكم رجلا
أو قطرب لما دبّ في العربية ولا درج، أو ثعلب لاستكنّ بمكره في وكره وما خرج، أو المبرّد لأصبحت قواه مفتّرة، أو الزجاج لأمست قواريره مكسّرة، أو ابن الوزان لعدم نقده، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه، أو ابن بابشاذ لعلم أن قياسه ما اطّرد، أو ابن دريد ما بلع ريقه ولا ازدرد، أو ابن قتيبة لأضاع رَحْله، أو ابن السراج لمشّاه إذا رأى وحله، أو ابن الخشاب لأضرم فيه ناراً ولم يجد معها
نورا، أو ابن الخباز لما سجر له تنورا، أو ابن القواس لما أغرق في نزعه، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعة، أو ابن خروف لما وجد له مرعى، أو ابن إياز لما وجد لإوازّه وقعا، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريّا، أو الدبّاج لكان من حلّته الرائقة عريّا.
وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقاً وغرباً، وفريدَ هذا الفن الفذّ بُعداً وقرباً، وفيه قلت:
سلطان علم النحو أستاذنا
…
الشيخ أثير الدين حبرُ الأنام
فلا تقل زيد وعمرو فما
…
في النحو معه لسواه كلام
خدم هذا العلم مدة تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طُرقاً متشعبة الأفنانين.
ولم يزل على حاله الى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة، في يوم السبت بعد العصر، الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وصُلّي عليه بالجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر.
ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخسين وست مئة.
وقلت أنا أرثيه - رحمه الله تعالى:
مات أثير الدين شيخ الورى
…
فاستعر البارق واستعبرا
ورقّ من حزن نسيم الصّبا
…
واعتلّ في الأسحار لما سرى
وصادحات الأيك في نوحها
…
رثته في السجع على حرف را
يا عينُ جودي بالدموع التي
…
يُروى بها ما ضمّه من ثرى
واجرِ دماً فالخطب في شأنه
…
قد اقتضى أكثر مما جرى
مات إمامٌ كان في فنه
…
يُرى أماماً والورى من ورا
أمسى منادى للبلى مفرداً
…
فضمّه القبر على ما ترى
يا أسفاً كان هُدىً ظاهراً
…
فعاد في تربته مضمرا
وكان جمع الفضل في عصره
…
صحٌ فلما أن قضى كُسّرا
وعُرّف الفضل به بُرهة
…
والآن لما أن مضى نُكّرا
وكان ممنوعاً من الصرف لا
…
يطرق مَن وافاه خطب عرا
لا أفعل التفضيل ما بينه
…
وبين مَن أعرفه في الورى
لا بدلٌ عن نعته بالتقى
…
ففعله كان له مصدَرا
لم يدّغم في اللحد إلا وقد
…
فك من الصبر وثيق العُرا
بكى له زيد وعمرو فمِن
…
أمثلة النحو ومَن قد قرا
ما أعقد التسهيل من بعده
…
فكم له من عُسرة يسّرا
وجسّر الناس على خوضه
…
إذ كان في النحو قد استبحرا
من بعده قد حال تمييزُه
…
وحظّه قد رجع القهقرى
شارك مَن قد ساد في فنه
…
وكم له فن به استأثرا
دأب بني الآداب أن يغسلوا
…
بدمعهم فيه بقايا الكرى
والنحو قد سار الرّدى نحوه
…
والصّرف للتصريف قد غيّرا
واللغة الفصحى غدت بعده
…
يُلغى الذي في ضبطها قرّرا
تفسيره البحر المحيط الذي
…
يُهدي الى ورّاده الجوهرا
فوائد من فضله جمّة
…
عليه فيها نعقد الخنصرا
وكان ثبتاً نُقلُه حجةٌ
…
مثل ضياء الصبح إن أسفرا
ورَحْلة في سنّة المصطفى
…
أصدق مَن تسمع إن أخبرا
له الأسانيد التي قد علت
…
فاستغلت عنها سوامي الذُرا
ساوى بها الأحفاد أجدادهم
…
فاعجب لماض فاته مَن طرا
وشاعراً في نظمه مُفلقا
…
كم حرّر اللفظ وكم حبّرا
له معانٍ كلما خطّها
…
تستر ما يُرق في تُستَرا
أفديه من ماض لأمر الردى
…
مستقبلاً من ربّه بالقِرى
ما بات في أبيضِ أكفانه
…
إلا وأضحى سندساً أخضرا
تُصافح الحورَ له راحةٌ
…
كم تعبت في كل ما سطّرا
إن مات فالذكر له خالد
…
يحْيا به من قبل أن يُنشرا
جاد ثرىً واراه غيث إذا
…
مسّاه بالسقيا له بكّرا
وخصّه من ربّه رحمة
…
تورده في حشره الكوثرا
وكان قد قرأ القرآن على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحواً من عشرين ختمة، إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطبّاع بغرناطة، ثم قرأ السبعة الى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة.
ثم إنه قدم الإسكندرية، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي.
ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجي، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية، وبادر مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه، لأني لم أره قط إلا يُسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك. وله إقبال على الطلبة الأذكياء، وعنده تعظيم لهم، ونظم ونثر، وله الموشحات البديعة.
وهو ثبت فيما ينقله، محرر لما يقوله، عارف باللغة، ضابط لألفاظها.
وأما النحو والتصريف، فهو إمام الناس كلهم فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته.
وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج، وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألقابهم كذلك، وقيّده وحرّره، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك، وأجابه عنها.
وله التصانيف التي سارت وطارت وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودُريت، ونُسخت وما فسخت، أخملت كتب الأقدمين، وألهمت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك - رحمه الله تعالى - ورغّبهم في قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مُقفَلها. وكان يقول عن مقدمة ابن الجاجب: هذه نحو الفقهاء.
وكان التزم أن لا يقرئ أحداً إلا إن كان في كتاب سيبوية أو في التسهيل
لابن مالك أو في تصانيفه، ولما قدم من البلاد لازم الشيخ بهاء الدين رحمه الله كثيراً، وأخذ عنه كتب الأدب.
وكان شيخاً حسن العمّة، مليح الوجه، ظاهر اللون مشرَباً حمرة، منوّر الشيبة، كبير اللحية مسترسل الشعر فيها، لم تكن كثّة. عبارته فصيحة بلغة الأندلس، يعقد القاف قريباً من الكاف على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة. وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف.
وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك، ينبسط معه، ويبيت عنده في قلعة الجبل. ولما توفيت ابنته نُضار طلع الى السلطان الملك الناصر محمد، وسأل منه أن يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية، فأذن له في ذلك، سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى.
وكان أولاً يرى رأي الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي رضي الله عنه بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرر للرافعي، ومختصر المنهاج للنووي، وحفظ المنهاج إلا يسيراً، وقرأ أصول الفقه على أستاذه أبي جعفر بن الزبير، بحث عليه من الإشارة للباجي ومن المستصفى للغزالي، وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فصيلة، وعلى الشيخ علم الدين العراقي، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي. وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير، وقرأ عليه شيئاً من المنطق، وقرأ شيئاً من المنطق على بدر الدين محمد بن
سلطان البغدادي، وقرأ عليه شيئاً من الإرشاد للعميدي في الخلاف. ولكنه برع في النحو، وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه، وكان خالياً من الفلسفة والاعتزال والتجسيم، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لمّا وقف على كتاب العرش له.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصّبه للإما علي بن أبي طالب رضي الله عنه التعصّب المتين قال: حُكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة إن علياً رضي الله عنه عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق أتراه ما صدق في هذا؟ فقال: صدق، قال: فقلت له: فالذين سلّوا السيوف في وجهه، يبغضونه أو يحبونه؟ وغير ذلك.
قال: كان سيئ الظن بالناس كافة، فإذا نُقل له عن أحد خير لا يتكيف به وإذا كان شراً يتكيّف به ويبني عليه، حتى ممن هو عنده مجروح، فيقع في ذم مَن هو بألسنة العالم ممدوح، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كثير منه ألم كثير. انتهى.
قلت: أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنني ما سمعت في حقه شيئاً، نعم سمعته كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح، حتى قلت له يوماً: يا سيدي، فكيف نعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال: هو رجل
مسلم ديّن، وإلا ما كان يطير في الهواء، ويصلي الصلوات في مكة كما يدّعي فيه هؤلاء الأغمار.
وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية. وقال كمال الدين المذكور، قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى.
قلت: كان يفتخر بالبخل كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دراهمك، ويقال عنك بخيل ولا تحتج الى السُفَّل.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
رجاؤك فَلْسا قد غدا في حبائلي
…
قنيصا رجاء للنتاج من العقم
أأتعب في تحصيله وأضيعه
…
إذاً كنت معتاضاً من البر بالسقم
قلت: والذي أراه فيه أنه طال عمره وتغرّب، وورد البلاد، ولا شيء معه، وتعب حت حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرّب الناس، وحلب أشطر الدهر، ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس، يشتري له طُلْمة بايتة بفلسين، ويشتري له بفلس ربيباً وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز. وكان يعيب علي مُشتري الكتب،
ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك.
وأنشدني له بإجازة:
إن الدراهم والنساء كلاهما
…
لا تأمننّ عليهما إنسانا
ينزعن ذا اللبّ المتين عن التقى
…
فترى إساءة فعله إحسانا
وأنشدني له من أبيات:
أتى بشفيع ليس يمكن ردّه
…
دراهم بيض للجروح مراهم
تصيّرُ صعبَ الأمر أهونَ ما يُرى
…
وتقضي لُبانات الفتى وهو نائم
ومن حزمه قوله - رحمه الله تعالى:
عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة
…
فلا صرف الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها
…
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
قد قلت لما أن سمعت مباحثا
…
في الذات قررها أجلُّ مفيد
هذا أبو حيان، قلت: صدقتم
…
وبررتم هذا هو التوحيدي
وكان قد جاء يوماً الى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده، فكتب بالجص على مصراع الباب، فلما رأى ابن الوكيل ذلك قال:
قالوا أبو حيان غير مدافع
…
ملك النحاة، فقلت: بالإجماع
اسم الملوك على النقود وإنني
…
شاهدت كُنيته على المصراع
ومدحه شرف الدين بن الوحيد بقصيدة مطوّلة، أولها:
إليك أبا حيان أعملت أينقي
…
وملت الى حيث الركائب تلتقي
دعاني إليك الفضل فانقدت طائعاً
…
ولبّيت أحدوها بلفظي المصدّق
ومدحه نجم الدين إسحاق بن ألمى التركي، وسأله تكملة شرح التسهيل، وأرسلها إليه من دمشق، وأولها:
تبدّى فقلنا وجهه فلق الصبح
…
يلوح لنا من حالك الشعر في جنح
منها:
بدأت بأمر تمم الله قصده
…
وكمّله باليمن فيه وبالنُجح
وسهلت تسهيل الفوائد محسنا
…
فكُن شارحاً صدري بتكملة الشرح
ومدحه مجير الدين عمر بن اللمطي بقصيدة، أولها:
يا شيخ أهل الأدب الباهر
…
من ناظم يُلفى ومن ناثر
ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيد، أولها:
ضيف ألمّ بنا من أبرع الناس
…
لا ناقض عهد أيامي ولا ناس
عارٍ من الكِبر والأدناس ذو ترف
…
لكنه من سرابيل العلا كاس
ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين، أول الأولى:
أتراه بعد هجران يصل
…
ويرى في ثوب وصل مبتدِلْ
قمر جار على أحلامنا
…
إذ تولاها بقدّ معتدلْ
وأول الثانية:
أعذروه فكريم مَن عذَر
…
قمَرته ذات وجه كالقمَرْ
ومدحه بهاء الدين محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة، أولها:
إن الأثير أبا حيان أحيانا
…
بنشره طيّ علم مات أحيانا
ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة، أولها:
فضضتُ عن العذب النمير ختامها
…
وفتحت عن زهر الرياض كمامها
ومدحه جماعة آخرون، يطول ذكرهم.
وكتبت أنا إليه من الرحبة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
لو كنت أملك من دهري جناحين
…
لطرت لكنه فيكم جنى حَيني
يا سادة نلتُ في مصرٍ بهم شرفا
…
أرقى به شُرُفا تنأى عن العين
وإن جرى لسما كيوان ذِكر عُلا
…
أحلّني فضلهم فوق السّماكين
وليس غير أثير الدين أثّله
…
فسادَ ما شاد لي حقا بلا مَيْن
حبر ولو قلت: إن الباء رُتبتُها
…
من قبل، صدّقك الأقوام في ذين
أحيا علوماً أمات الدهر أكثرها
…
مذ جُلّدت خُلّدت ما بين دفين
يا واحد العصر ما قولي بمتّهم
…
ولا أحاشي امرأ بين الفريقين
هذي العلوم بدت من سيبويه كما
…
قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين
فدُم لها وبودي لو أكون فدى
…
لما ينالك في الأيام من شَيْن
يا سيبويه الورى في الدهر لا عجب
…
إذا الخليل غدا يفديك بالعين
يقبّل الأرض ويُنهي ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها، وأجرت الدموع دما، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها، وأربت بسحّها على السحائب، وأين دوام هذه من ديمها، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها:
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى
…
ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا
ويذكر ولاءه الذي تسجع به في الروض الحمائم، ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم، وثناؤه الذي يتضوّع كالزهر الكمائم، ويتنسم تنسّم هامات الربا إذا لبست من الربيع ملونات العمائم.
ويشهد الله على كل ما
…
قد قلته والله نعم الشهيد
فكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنه عُدم مني.
وأنشدته يوماً لنفسي:
قلت للكاتب الذي ما أراه
…
قط إلا ونقّط الدمع شكله
إن تخطّ الدموع في الخد شيئاً
…
ما يُسمّى؟ فقال: خط ابن مقله
وأنشدني هو من لفظه لنفسه:
سبق الدمعُ بالمسيل المطايا
…
إذ نوى من أحبّ عني رحله
وأجاد الخطوط في صفحة الخد
…
ولِم لا يجيد وهو ابن مقله
وأنشدني في مليح نوتي:
كلفْتُ بنوتيّ كأن قوامَه
…
إذا ينثني خوط من البان ناعم
مجاذفه في كل قلب مجاذب
…
وهزاته للعاشقين هزائم
وأنشدته أنا لنفسي:
إن نوتيّ مركبٍ نحن فيه
…
هام فيه صبّ الفؤاد جريحه
أقلع القلب عن سلويَّ لما
…
أن بدا ثغره وقد طاب ريحه
وأنشدته أنا لنفسي أيضاً:
نوتيّنا حُسنُهُ بديع
…
وفيه بدر السماء مغرى
ما حكّ برّا إلا وقلنا
…
يا ليت أنّا نحكّ برّا
فأعجباه رحمه الله وزهزه لهما.
وأنشدني هو لنفسه في مليح أحدب:
تعشّقته أحدباً كيّساً
…
يحاكي نجيباً حنين البُغام
إذا كدت أسقط من فوقه
…
تعلّقت من ظهره بالسنام
فأنشدته أنا في ذلك لنفسي:
وأحدب رحت به مغرما
…
إذ لم تشاهد مثله عيني
لا غرو أن هام فؤادي به
…
وخصره ما بين رِدفَين
وأنشدني من لفظه في مليح أعمى:
ما ضرّ حُسن الذي أهواه أن سنا
…
كريمتيه بلا شين قد احتجبا
قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا
…
لكن حسنهما الفتّان ما ذهبا
كالسيف قد زال عند صقله فغدا
…
أنكى وآلم في قلب الذي ضُربا
وأنشدته أنا لنفسي في ذلك:
ورب أعمى وجهه روضة
…
تنزُّهي فيها كثير الديون
في خدّه ورد غنينا به
…
عن نرجس ما فتّحته للعيون
وأنشدته أيضاً لنفسي في ذلك:
أيا حُسن أعمى لم يخف حدَّ طرفه
…
محبٌ غدا سكران فيه وما صحا
إذا طار خد بات يرعى خدوده
…
غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا
وكتبت إليه استدعاء، وهو: المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العلامة لسان العرب، ترجمان الأدب، جامع الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجة المقلّدين، زين المقلدين، قطب
المولّين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب، فكل ذي لب إليها شيّق، والمباحث التي أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها، وقنصت أوابدها الجامحة من مواطئ مواطنها، كشّاف مُعضلات الأوائل، سبّاق غايات قصّر عن شأوها سحبان وائل، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فَرْق فرقدها، حتى أبرز كلامه جنانَ فضل جنانُ من بعده عن الدخول إليها جبان، وأتى ببراهين وجوهٍ حورُها " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " وأبدع خمائل نظم ونثر، لا تصل الى أفنان فنونها يد جان، أثير الدين أبي حيان محمد:
لا زال ميت العلم يحييه وهل
…
عجب لذلك من أبي حيّان
حتى ينال بنو العلوم مرامهم
…
ويُحلّهم دار المُنى بأمان
إجازة كاتب هذه الأحراف ما رواه - فسح الله في مدّته - من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية والتصانيف الأدبية، نظماً ونثراً الى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها، وتباين أجناسها وأنواعها، مما تلقّاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية وغيرها من البلدان، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة، كيف ما تأدّى إليه، وإجازة ما له أدام الله إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها، وما له من نظم ونثر، إجازة خاصة، وأن يثبت بخطّه تصانيفه الى حين هذا التاريخ، وأن
يجيزه إجازة عامة لما يتجدد له من بعد ذلك على رأي مَن يراه ويجوّزه، منعماً متفضلاً إن شاء الله تعالى.
فكتب الجواب هو - رحمه الله تعالى: أعزّك الله ظننت بالإنسان جميلاً فغاليت، وأبديت من الإحسان جزيلاً وما باليت، وصفت من هو القتام يظنه الناظر سماء، والسراب يحسبه الظمآن ماء، يا بن الكرام وأنت أبصر من يشيم، أمع الروض النضير يُرعى الهشيم، أما أغنتم فواضلك وفضائلك، ومعارفك وعوارفك، عن نغبة من دأماء، وتربة من يهماء، لقد تبلّجت المهارق من نور صفحاتك، وتأرّجت الأكوان من أريج نفحاتك، ولأنت أعرف بمن يُقصد للدراية، وأنقد بمن يعتمد عليه في الرواية، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك، وتتفضل من تالدك وطارفك، وتجلو الخامل في منصة النباهة، وتنقذه من لَكْن الفهاهة، فتشيد له ذكرا، وتُعلي له قدرا، ولم يمكنه إلا إسعافك فيما طلبت، وإجابتك فيما إليه ندبت، فإن المالك لا يُعصى، والمتفضل المحسن لا يقصى.
وقد أجزت لك - أيّدك الله - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك بقراءة أو سماع ومناولة وإجازة بمشافهة
وكتابة ووجادة، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك، وجميع ما صنّفته واختصرته وجمعته وأنشأته نثراً ونظماً، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء.
فمن مروياتي: الكتاب العزيز، قرأته بقراءات السبعة على جماعة، من أعلاهم الشيخ المسند المعمر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليجي آخر من روى القرآن بالتلاوة عن أبي الجود. والكتبُ الستة، والموطّأ ومسند عبد ومسند الدارمي ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الصغير له، وسُنن الدارقطني وغير ذلك.
وأما الأجزاء فكثير جداً.
ومن كتب النحو والآداب، فأروي بالقراءة كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة والمفصّل وجُمل الزجاجي وغير ذلك. والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب وديوان المتنبي وديوان المعري.
وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة، فهم كثير، وأذكر الآن منهم جملة، فمنهم: القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمقرئ أبو جعفر أحمد بن سعد بن أحمد بن بشير الأنصاري، وإسحاق بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس، وأبو بكر بن عباس بن يحيى بن غريب البغدادي القوّاس، وصفي الدين الحسين بن أبي المنصور بن ظافر الخزرجي، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدهان، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن
محمد بن القسطلاني، ورضيّ الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي، ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني. ومحمد بن مكي بن أبي القاسم بن حامد الأصبهاني الصفار، ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير ابن الفارض، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداري بن الخليلي، ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف الأنصاري بن الخيمي، ومحمد بن عبد الله بن عمر العنسي عُرف بابن النن، وعبد الله بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد العزيز الطائي القرطبي، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخرّمي، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي، وعبد الرحيم بن يوسف بن يحيى بن يوسف بن خطيب المزة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني، وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي الصالحي الكتاني، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن منجا الخزرجي، وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسيني البهنسي المجاور، وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية، وزينتب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي.
وممن كتبت عنه من مشاهير الأدباء: أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن
أبي الفرج المالقي، وأبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن زنون المالقي، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكّي المالقي، وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي، وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق، وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياتينن الكومي التلمساني، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري، وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حمّاد بن مُحسن الصنهاجي البوصيري، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي.
وممن أخذت عنه من النحاة: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخُشني الأُبّذي، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتاني بن الضائع، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي، وأبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن محمد بن نصر الله الحلبي بن النحاس.
وممن لقيته من الظاهرية: أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشنتمري.
وجملة الذين سمعت منهم نحو من أربع مئة شخص وخمسين.
وأما الذين أجازوني فعالم كثير جداً من أهل غرناطة ومالقة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام.
وأما ما صنفته: فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم، إتحاف الأريب بما في القرآن من غريب، كتاب الإسفار الملخَّص من كتاب الصفّار شرحاً لكتاب سيبويه، كتاب التجريد لكتاب سيبويه، كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل، كتاب التنخيل الملخّص من شرح التسهيل، كتاب التذكرة، كتاب المبدع في التصريف، كتاب الموفور، كتاب التقريب، كتاب التدريب، كتاب غاية الإحسان، كتاب النكت الحسان، كتاب الشذا في مسألة كذا، كتاب الفصل في أحكام الفصل، كتاب اللمحة، كتاب الشذرة، كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء، كتاب عقد اللآلي، كتاب نكت الأمالي، كتاب النافع في قراءة نافع، الأثير في قراءة ابن كثير، المورد الغمر في قراءة أبي عمرو، الروض الباسم في قراءة عاصم، المزن الهامر في قراءة ابن عامر، الرمزة في قراءة حمزة، تقريب النائي في قراءة الكسائي، غاية المطلوب في قراءة يعقوب، المطلوب في قراءة يعقوب، النيّر الجليّ في قراءة زيد بن علي، الوهّاج في اختصار المنهاج، الأنور الأجلى في اختصار المحلّى، الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية، كتاب الإعلام بأركان الإسلام، نثر الزهر ونظر الزُهر، قطر الحبي في جواب أسئلة الذهبي، فهرست مسموعاتي، نوافث السحر في دمائث الشِّعر، تحفة النّدُس في نحاة أندلس، الأبيات الوافية في علم القافية،
جزء في الحديث، مشيخة ابن أبي منصور، كتاب الإدراك للسان الأتراك، زهو المُلك في نحو الترك، نفحة المسك في سيرة الترك، كتاب الأفعال في لسان الترك، مُنطق الخرس في لسان الفرس.
ومما لم يكمل تصنيفه، كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد، كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك، نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب رجز، مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر، خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان رجز، نور الغبش في لسان الحبش، المخبور في لسان اليخمور.
قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان.
وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف:
أنا هاوٍ لمستطيل أغنّ
…
كلما اشتدّ صارت النفس رخوه
أهمس القول وهو يجهر سبّي
…
وإذا ما انخفضت أظهر عُلوَه
فتح الوصل ثم أطبق هجرا
…
بصفير والقلبُ قلقَلَ شجوه
لان دهراً ثم اغتدى ذا انحرافٍ
…
وفشا السرّ مذ تكررت نحوه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقول لي العذولُ ولم أُطعْهُ
…
تسلّ فقد بدا للحب لحيَهْ
تخيّل أنها شانت حبيبي
…
وعندي أنها زَيْن وحِليَه
وأنشدني لنفسه أيضاً:
شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي
…
شوقٌ شديدٌ وجسمي الواهن الواهي
أسهَرْت طرفي ودلّهت الفؤاد هوىً
…
فالطرفُ والقلب مني الساهر الساهي
نبهتَ قلبي وتَنهى أن تبوح بما
…
يلقاه وا شوقه للناهب الناهي
بهرتَ كل مليح بالبهاء فما
…
في النيّرين شبيهُ الباهر الباهي
لهجتُ بالحب لما أن لهوت به
…
عن كل فويحَ اللاهج اللاهي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
راض حبيبي عارض قد بدا
…
يا حُسنَه من عارض رائض
وظن قوم أن قلبي سلا
…
والأصل لا يُعتدّ بالعارض
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تعشّقتُه شيخاً كأن مشيبه
…
على وجنتيه ياسمين على ورد
أخاد العقل يدري ما يراد من النهى
…
أمنت عليه من رقيب ومن صدِ
وقالوا: الورى قسمان في شرعة الهوى
…
لسود اللحى ناسٌ وناسٌ الى المرد
ألا إنني لو كنت أصبو لأمردٍ
…
صبوت الى هيفاء مائسة القدّ
وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً
…
فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ألا ما لها لُخْصا بقلبي عوابثا
…
أظن بها هاروتَ أصبح نافثا
إذا رام ذو وجد سلوّاً منعنه
…
وكنّ على دين التصابي بواعثا
وقيدنَ من أضحى عن الحب مُطلقا
…
وأسرعت للبلوى بمن كان رائثا
بروحي رشا من آل خاقان راحل
…
وإن كان ما بين الجوانح لابثا
غدا واحداً في الحسن للفضل ثانيا
…
وللبدر الشمس المنيرة ثالثا
وأنشدني لنفسه، ومن خطه نقلت:
أسحرٌ لتلك العين في القلب أم وخْز
…
ولينٌ لذاك الجسم في اللمس أم خزّ
وأملودُ ذاك القدّ أم أسمرٌ غدا
…
له أبداً في القلب عاشقه هزّ
فتاة كساها الحسن أفخر حُلّة
…
فصار عليها من محاسنها طرز
وأهدى إليها الغصن لينَ قوامه
…
فماس كأن الغصن خامره العز
يضوع أديم الأرض من نَشر طيّها
…
ويخضرّ من آثارها تُرْبُه الجرْز
وتختال في بُرد الشباب إذا مشت
…
فيُنهضها قدٌّ ويقعدها عجز
أصابت فؤاد الصبّ منها بنظرة
…
فلا رُقية تُجدي المصاب ولا حرز
وأنشدني إجازة في مليح أبرص، ومن خطه نقلت:
وقالوا الذي قد صرت طوع جماله
…
ونفسك لاقت في هواه نزاعَها
به وضحٌ تأباه نفس أولي النهى
…
وأفظع داء ما ينافي طباعَها
فقلت لهم لا عيب فيه يشينه
…
ولا علّة فيه يروم دفاعَها
ولكنها شمس الضحى حين قابلت
…
محاسنه ألقت عليه شعاعها
وأنشدني من لفظه لنفسه في فحّام:
وعُلّقته مسوّد عين ووفرة
…
وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد
كأن خطوط الفحم في وجناته
…
لطاخة مسك في جنيّ من الورد
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت:
سأل البدر هل تبدّى أخوه
…
قلتُ يا بدر لن يُطيق طلوعا
كيف يبدو وأنت يا بدر باد
…
أوَ بدران يطلعان جميعا؟
وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني:
عاذلي في الأهيف الآنسِ
…
لو رآه كان قد عَذَرا
رشأ قد زانه الحَوَر
…
غصنٌ من فوقه قمر
قمر من سحبه الشعر
…
ثغر في فيه أم دُرَر
جال بين الدرّ واللعسِ
…
خمرةٌ من ذاقها سكرا
رجّة بالردف أم كسل
…
ريقة بالثغر أم عسل
وردة بالخد أم خجل
…
كُحل بالعين أم كَحَل
يا لها من أعين نُعُسِ
…
جلبت لناظري سهرا
مُذ نأى عن مقلتي سني
…
ما أُذيقا لذّة الوسن
طال ما ألقاه من شجني
…
عجباً ضدان في بدني
بفؤادي جذوة القبس
…
وبعيني الماء مُنفَجرا
قد أتاني الله بالفرج
…
إذ دنا مني أبو الفرج
قمرٌ قد حلّ في المهج
…
كيف لا يخشى من الوهج
غيرُه لو صابهُ نفَسي
…
ظنّه من حره شررا
نصب العينين لي شركا
…
فانثنى والقلب قد ملكا
قمر أضحى له فلكا
…
قال لي يوماً وقد ضحكا
أنت جئت من أرض أندلسي
…
نحو مصر تعشق القمرا
وأما موشّحة ابن التلمساني، فهي:
قمر يجلو دجا الغلس
…
بهر الأبصار مُذ ظهرا
آمنٌ من شُبهة الكلف
…
ذُبت في حبّيه بالكلف
لم يزل يسعى الى تلفي
…
بركاب الدلّ والصلف
آه لولا أعين الحرس
…
نِلْت منه الوصل مقتدرا
يا أميراً جار مذ وليا
…
كيف لا ترثي لمن بليا
فبثغر منك قد جُليا
…
قد حلا طعماً وقد حلِيا
وبما أوتيتَ من كَيَس
…
جُدْ فما أبقيت مُصطَبرا
بدرُ تمّ في الجمال سني
…
ولهذا لقّبوه سَني
قد سباني لذة الوسن
…
بمحيّا باهرٍ حسن
هو خِشفي وهو مفترسي
…
فاروِ عن أعجوبتي خبرا
لك خدّ يا أبا الفرج
…
زينَ بالتوريد والضّرج
وحديثٌ عاطر الأرَج
…
كم سبى قلباً بلا حرج
لو رآك الغصن لم يمسِ
…
أو رآك البدر لاستترا
يا مُذيباً مهجتي كمَدا
…
فُقت في الحُسن البدور مدى
يا كحيلاً كحلة اعتمدا
…
عجباً أن تُبرئ الرّمدا
وبسقم الناظرين كُسي
…
جفنك السّحار وانكسرا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
إنْ كان ليلٌ داجوخاننا الإصباحْفنورها الوهّاجيُغني عن المصباح
سلافة تبدو
…
كالكوكب الأزهرْ
مزاجها شهدٌ
…
وعَرفُها عنبر
يا حبذا الوِردُ
…
منها وإن أسْكر
قلبي بها قد هاجْفما تراني صاحْعن ذلك المنهاجوعن هوى يا صاح
وبي رشا أهيفْ
…
قد لجّ في بُعدي
بدر فلا يُخسَف
…
منه سنا الخد
بلحظه المرهَف
…
يسطو على الأُسْد
كسطوة الحجّاجفي الناس والسفّاحفما ترى من ناجمن لحظه السفاح
علّل بالمسك
…
قلب رشاً أحور
منعّم المسكِ
…
ذو مبسم أعطر
ريّاه كالمسك
…
وريقه كوثرْ
غصنٌ على رجراجطاعت له الأرواحفحبّذا الآراجإن هبّت الأرواح
مهلاً أبا القاسم
…
على أبي حيان
ما إن له عاصم
…
من لحظك الفتّان
وهجرك الدائم
…
قد طال بالهيمان
فدمعه أمواجوسرُه قد لاحلكنه ما عاجولا أطاع اللاح
يا رُبّ ذي بُهتان
…
يعذل في الراح