الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن كشتغدي
الأمير ناصر الدين العزّي المصري الصّيرفي.
سمع من النجيب والمُعين الدمشقي.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
محمد بن كوندك
ناصر الدين دوادار الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى.
ما رأى الناس مثله دواداراً، ولا بلغ عظمته في أيامه كسرى ولا داراً. بلغ الغاية القصوى من الوجاهة، وتفرّد مع ذلك بالعفّة عن أموال الرّعايا والنزاهة، يتطفل نواب الشام على مكاتباته، ويفرحون إذا ظفروا بما يرد عليهم من جواباته، لأنه كان قد تمكن من أستاذه، وملك أمره باشتماله عليه واستحواذه، لا يقدر أحد من القضاة ولا الحاجب ولا أرباب المباشرات من المتولي والصاحب، ولا ناظر الجيوش ولا كاتب الأسرار، ولا مَن له حديث في هذه الدولة من الأخيار والأشرار أن ينفرد بأمر في عزل ولا ولاية ولا حكم ولا عناية دون أن يكون ذلك بأمره، أو موافقاً لما في
باطنه وسرّه. فمشت الأمور وأصلح الجمهور، وساس فأحسن السياسة. وبالغ في العظمة والرياسة، وكأن الأمر مردود الى أمره، وأمره ليس له ردٌ.
وكان في وقت يوقّع على القصص ويتجرّع الموقعون وغيرهم من ذلك الغُصَص، ودام على ذلك مدة مديدة. ثم بطل ذلك ولا فُلَّ حدّه ولا نقص عديده، الى أن أولع به حمزة التركماني فخرّب دياره، ونقّص عياره، ونفض غباره، وكسف بدره التّمام، ونكّس قامة غصنه حتى ناح عليه الحمام، فتغيّر عليه أستاذه تغيّراً شديداً، وحوّل عنه رأياً كان فيه رشيداً، فضربه بين يديه بالسّياط، ولم يعمل فيه بالاحتياط، وأخذ منه جُملة من الدّنانير، ورُدّ بعد تلك المنعة والقوة يتجشّأ بين التنانير. فأصبح تحت الثّرى بعد أن كان على الثّريا، وولاه الزمان قفاه بعدما كان قابله بالمحيّا. فذلّ من بعد تلك العزة، وسلبه الدهر ما قلّده وبزّه، وراح بعد علو المرتبة، وهو من ذوي المرتبة:
وكم حالم سرّه حِلمُهُ
…
وأدركه الروع لمّا انتبه
ولم يزل على الحال المذكور الى أن استجنّ ضريحه، وأسمعه الفناء صريخه، وعلّم منه ضريحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان قد ورد مع أستاذه من مصر هو وناصر الدين الخزندار، وضبطا بابه على أحسن ما يكون. أما هذا ناصر الدين فكان أمره خارجاً عن الحدّ، وكان عنده خبرة ومعرفة وتنفيذ للمهمات وما يتعلّق بالدولة والمباشرات والوظائف وغيرها.
عرف خُلُق أستاذه ومشى عليه، فلم يكن يجتمع على أحد في بيته إلا بأناس قلائل من الصوفية وغيرهم، ولا يعرف أحد بابه ولا يقربُه، فإن كان له شغل اجتمع به في دار السعادة، ولم يُشبع أحداً منه كلاماً، وأنشأ جماعة من الأمراء والقضاة والكتّاب والدواوين والأجناد وغيرهم من سائر الطوائف، ولم يأخذ على أحد من ذلك شيئاً. ولما غضب عليه أستاذه ضربه قدّامه بالمقارع، وأخذ منه للسلطان ثمانية عشر ألف دينار، وأخذ منه لنفسه مثلها وأكثر منها، وباع موجوده وغالب أملاكه، ومع ذلك لم يشكُ أحد عليه، ولا قال أحد إنه أخذ منه درهماً فما زاد عليه.
ولما أُُفرج عنه كان يُلزمه بالركوب والنزول في أيام المواكب، وكان يقول: قصدي بذلك حتى يرى مكانه وما كان فيه من العظمة أولاً وكيف أصبح الآن، ثم إنه جهّزه الى القدس فأقام هناك مدّة، ثم إنه أحضره الى دمشق. ولم يزل غضباناً عليه من سنة أربع وثلاثين الى أواخر سنة أربعين وسبع مئة، فأحضره ورضي عليه وخلع
عليه، وكان يركب معه في غير المواكب ويُسايره ويحادثه. ولم نرَ هذا الحال حصل لغيره، لأنه ما غضب على أحد قطّ ورضي عنه، وكان هذا الحال في حق الدّوادار مضرّاً له، لأن السلطان لما أمسك الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى شمل غضبه كلَّ من كان من جهته، واستخدم كل من كان بطالاً، وقد غضب عليه فناله بهذا أذًى، وأراد السلطان أن يعطيه إمرة عشرة فلم يقبل خوفاً من أستاذه.
وكان يتوجه في كل سنة مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق له الى باب السلطان في البريد، فيعامله السلطان بالإكرام الزائد والتعظيم.
وكان بيده في حلقة الشام إقطاع يعمل أربعين ألف درهم، وأربعة إقطاعات أو خمسة جياد بأيدي أولاده ومماليكه، وكان له على أستاذه مرتب خبز ولحم وعليق، ويعطيه وينعم عليه في كل قليل، فأقام على هذا الحال من سنة اثنتي عشرة وسبع مئة الى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكل ماله في عظمة ووجاهة، وكان إذا توجّه الى مصر وعاد يتعذر على الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وأمثاله السّلام عليه في بيته، بل يقفون له في الطريق إذا توجّه الى دار السعادة ويسلّمون عليه.
وعلى الجُملة ما رأيت أنا ولا غيري عظمةً نالها هذا ناصر الدين في دواداريته لا من قبله ولا من بعده، وبعد هذا كنت أراه يشتري اللحم ويربطه خلفه على الفرس ويتوجّه به الى بيته، فما كنت أقضّي العجب من أمره، سبحان من بيده تصاريف الأمور لا إله إلا هو، وكنتُ أرى ذلك لأنه غير بارٍ بأبيه، وكان يُؤثر إيحاش الأكابر ويشتهي إذلالَهم.