الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هوى غزلان
…
دافَعْتُ بالراح
وقلت لا سلوان
…
عن ذاك يا لاحي
سبع الوجوه والتاجهي منية الأفراحفاختر لي يا زجاجقمصال وزوج أقداح
وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية، التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه، ثم خرج منها الى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه، وأولها:
هو العِلم لا كالعلم شيء تراوده
…
لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
وهي قصيدة جيدة تزيد على المئة بيت. حُكي لي أن الشيخ أثير الدين - رحمه الله تعالى - نظمها وهو ضعيف، وتوجه إليه جماعة يعودونه، وفيهم شمس الدين بن دانيال، فأنشدهم الشيخ - رحمه الله تعالى - القصيدة المذكورة، فلما فرغت، قال ابن دانيال: يا جماعة، أخبركم أن الشيخ قد عوفي، وما بقي عليه باس، لأنه لم يبق عنده فضلة، قوموا باسم الله.
وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - قصيدته السينية التي أولها:
أهاجك ربع حائلُ الرسم دارسه
…
كوحي كتاب أضعف الخط دارسه
محمد بن يوسف بن عبد الله
شمس الدين، الشاعر الماهر الخياط الدمشقي الحنفي.
شاعر لا يُجارى، ومكثر لا يُبارى، قادر على صوغ القريض، وارتجال النظم الذي يشفى به المريض، طويل النفَس إذا نظم، مديد الباع إذا رقم، ذو قصائد قد
طوّلها، ومدائح سوّرها وهمُه وسوّلها، ولم يكن له غوص على المعاني البديعة، ولا احتفال بطريق المتأخرين التي هي عليه وعلى أمثاله منيعة. ومع ذلك فكان بين فكيه مقراض للأمراض، وكنانة نبل أنفذ من السهام في الأعراض، لا يكاد يسلم أحد من هجوه، ولا ينجو طاهر الذيل من نجوه. وكان هجوه أجودَ من مدحه، وأوقع في النفوس لكدّه فيه وكدحه، ولكنه ذاق وبال هذا وأوذي أكثر مما آذى، إلا أنه كان كثير التلاوة، يلازم الصلاة في الحضارة والبداوة، وحج غير مرة، وقرن البعرة بالدرة.
وحججت أنا وهو في عام خمسة وخمسين وسبع مئة، ولما وصلنا الى مُعان مزّق الله من الخياط عمره، وأذهب شعره وشعره، وأتاه من نايات المنايا ما بطّل زمرَه، فدفنّاه على قارعة الطريق، وانكفّ ذاك اللسان الذي كأنه مبرد وما حمل التطريق، وجعلناه سراً مودعاً من البرية في صدر، ووضعنا الشمس في الأرض ليلة البدر، فلو كان الرفّاء موجوداً لرثى الخياط وأبّنه، ونقله بلبنه الطيب الى مقبره وجبّنه.
وعلى كل حال فقد راح الى الله وأراح، وحمل كارة أهاجيه وهو كاره وقلّ من حمل كارة واستراح، والله يسامحه في يوم عَرضه، ويعطّف عليه قلب من أخذ من عِرضه، حتى إنه يسامحه ويحالله، ويصادفه فيصادقه ويخالله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في معان، ليلة الرابع عشر من المحرم سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده، فقال: في شهر رجب سنة ثلاث وتسعين وست مئة بدمشق.
كان في مبدأ حاله يتردد الى شمس الدين الصائغ، ويقرأ عليه، ويجتمع بالمجير الجوخي، ثم إنه تردد الى شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وكتب عنه كثيراً، وكان يثني عليه ويميل إليه.
ونظم في سنة عشرين وسبع مئة قصيدة جيمية مديحاً في قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وأولها:
أما ولواحظ الحدق السواج
…
لقد أصبحت منها غير ناجي
فقرّظها شهاب الدين محمود، وأثنى عليها، وكتب عليها فضلاء العصر، وانصقل نظمه وجاد، وشعره كثير يدخل في ست مجلدات.
وسافر الى الديار المصرية، ومدح أعيانها، واتصل بالأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، وكان يبيت عنده. ومدح السلطان الملك الناصر بأبيات قرأها عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فرسم له براتب في كل يوم درهمين.
وأنشدني من لفظه غالب شعره لما نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة قصيدته التائية الطنانة في الشيخ كمال الدين بن الزملكاني - رحمه الله تعالى - جعل غزلها المقدّم على المدح في وصف الخمر، وأولها:
قضى وما قُضيت منكم لُباناتُ
…
متيّم عبثتْ فيه الصبابات
نظم الشيخ شمس الدين محمد بن الخياط قصيدة أخرى في وزنها ورويّها، ومدح بها الشيخ كمال الدين أيضاً، وجاء منها في الآخر ما أنشدنيه من لفظه:
ما شان مدحي لكم ذكرُ المُدام ولا
…
أضحت جوامع لفظي وهي حانات
ولا طرقت حِمى خمّارة سحرا
…
ولا اكتست لي بكاس الراح راحات
وإما أُسكر الجُلاس من أدب
…
تدور منه على الأكياس كاسات
عن منظر الروض يُغنيني القريضُ وعن
…
رقص الزجاجات تُلهيني الجزازات
عشوت منها الى نور الكمال ولم
…
يدُر على خاطري دير ومشكاة
وكان الشيخ جمال الدين بن نباتة إذا جاء الى دار السعادة، يقال له: إن ملك الأمراء في القصر، فيحتاج أن يروح الى القصر الأبلق ماشياً، وقال في ذلك:
يا سائلي في وظيفتي عن
…
كُنه حديثي وعن معاشي
ما حال مَن لا يزال يطوي
…
مسافة القصر وهو ماشي
فقال شمس الدين جوابه، وأنشدنيه من لفظه:
يا شاعراً يخطئ المعاني
…
فيما يعاني من المعاش
أنت شبيه الحمار عندي
…
مركّب الجهل وهو ماش
وقد كان كتب ابن نباتة صداقاً، فخُلع عليه، فلبسه ودار به في البلد، فقال شمس الدين الخياط في ذلك، وأنشدنيه من لفظه:
ما خِلعة العقد على شاعرنا
…
يوم الهنا شقاء وعَنا
رأيته فيها وقد أرخى له
…
ذؤابة تُبدي عليه الحزنا
فقلت: مَن هذا الذي سواده
…
سوّده بين الورى؟ قال: أنا
نباتة كان أبي، فقلت: ما
…
أنبته الله نباتاً حسنا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
ما خلعة ابن نباتة إلا كمن
…
ألقى الرياض على الكنيف المنتن
ومنها:
واختصّ عمّته بفضل ذؤابة
…
هي في القلوب قبيحة في الأعين
فكأنها ذنب لكلب نابح
…
تحت الدجا من فرط داءٍ مُزمن
فالله يجعلها له كفن البِلى
…
ويكون غاية كل سوء يقتني
حتى يقول مسيّر في هجوه
…
هذا لعَمر أبيك شرّ مكفّن
ونظم ابن نباتة ما يُكتب على دواة فولاذ:
معنى الفضائل والندى والباس لي
…
والسيف مُشتهر بمعنى واحد
بالنفس أضرب في نضار ذائب
…
والناس تضرب في حديد بارد
فقال شمس الدين الخياط، وأنشدنيه من لفظه:
قل للذي وصف الدواة وحسنها
…
ما جئتَ عن لفظي بمعنى زائد
أسخنت عينك في نضار ذائب
…
وذبحت نفسك بالحديد البارد
وكان قد سلّطه الله عليه، كلما نظم شيئاً ناقضه فيه، فهما فرزدق وجرير عصرهما، ولولا خوف التطويل لأوردت كثيراً من ذلك.
وأنشدني من لفظه له:
قصدت مصراً من ربا جلّق
…
بهمّة تجري بتجريب
فلم أر الطرّة حتى جرت
…
دموع عيني في المزيريب
وأنشدني من لفظه له:
خلّفت بالشام حبيبي وقد
…
يممت مصراً لعَنا طارق
والأرض قد طالت فلا تبعدي
…
بالله يا مصرُ على العاشق
وأنشدني من لفظه له:
تركت لقوم طِلابَ الغِنى
…
لحبّ الغناء ولهو الطرب
وعندي من زَهرٍ فضة
…
وعندي من خندريس ذهب
قلت: أين هذا من قول النصير الحمامي:
أصبحت من أغنى الورى
…
مستبشراً بالفرح
عندي خمرٌ ذهب
…
أكتاله بالقدح
وقد ولّدت أنا من هذا معنى آخر، ونقلته الى أوراق الخريف، وقلت:
لمَ لا أكون غنياً بالخريف ولم
…
أحتج الى غيره في اللهو والطرب
وكل دوحةِ بستان إذا عبثت
…
بها الصَّبا نُثرت كوماً من الذهب
ولكن قول النصير أكتاله بالقدح غاية في الحسن.
وأنشدني شمس الدين الخياط له:
يا أهل مصر أنتم للعلا
…
كواكب الإحسان والفضل
لو لم تكونوا لي سعوداً لما
…
وافيتكم أضرب في الرمل
وأنشدني من لفظه له:
كم تُظهر الحسن البديع وتدّعي
…
وبياضُ شكلكَ في النواظر مظلمُ
هل تَصدُق الدعوى لمن في وجهه
…
بالذقن كذّبه السواد الأعظمُ
وأنشدني من لفظه له:
حتّام شخصي بين هذا الورى
…
حيّ وفضلي عندهم ميْتُ
أبني بيوت الشعر في جِلّق
…
وليس يُبنى لي بها بيت
وأنشدني من لفظه وقد أعطاه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى جائزة:
لم يُجزني القاضي على قدْر شعري
…
بل حباني مضاعف الأبيات
فلهذا أعدّها صدقات
…
من عطاياه لا من الصدقات
وأنشدني من لفظه له:
ويلاه من ظبي له وجنةٌ
…
شاماتها تلعب بالأنفس
لو لم تكن في خده جنة
…
لما اكتسى بالعارض السندسي
وأنشدني من لفظه له:
يا كعبة الحُسن التي رُميتْ لها
…
في كل قلب بالهوى جمراتُ
قد تم ميقات الصدود وقصدنا
…
لو تمّ منك لوصلنا ميقات
وأنشدني من لفظه له:
قد طال فكري في القريض الذي
…
من نفعه لست على طائِلِ
أمّرني زوراً فصرت امرأ
…
صاحب ديوان بلا حاصلِ
وأنشدني من لفظه له في الفلوس:
يا ليت شعري أي خير يُرتجى
…
للمعتفي من هذه الأزمان
لو لم يكن عُدمُ الدراهم قد بدا
…
ما كان صار الفلس بالميزان
وأنشدني له في المشمش:
حبّذا مشمش يروق لطرفي
…
منه حُسنٌ حديثه مشهور
قد بلاني بحبه وهو مثلي
…
أصفر الجسم قلبه مكسور
وأنشدني له أيضاً:
يا أيها البحر الذي في وِرده
…
رِيٌّ لقلب الحائم المتعطّش
أشكو إليك هوان شعر لم يقم
…
لي رُخصه بغلو سعر المشمش
وأنشدني له أيضاً:
يا مَن به ادرأ عن مهجتي
…
من حادث الأيام ما أختشي
قد أقبل الصيف وما في يدي
…
من درهم للتوت والمشمش
وأنشدني له أيضاً:
لوزيُّ جلّق شيء
…
يذوبُ قلبي عليه
كالسلسبيل ولكن
…
كيف السبيل إليه
وأنشدني من لفظه له ما يكتب على باب:
نحن إلفان ما افتقرنا لبُغض
…
لا ولا في اجتماعنا ما يُريب
نكتم السر بيننا في زمان
…
كاتم السر في بنيه غريب
وأنشدني من لفظه له أيضاً:
مَن ذا الذي يُنكر فضلي وقد
…
فزت من الحسن بمعنى غريب
عندي لمن يخذله دهره
…
نصر من الله وفتح قريب
وكتب هو - رحمه الله تعالى - على كتابي جنان الجناس:
سرّ الفصاحة في كتابك ظاهرٌ
…
وله ضياء الحسن عنك بديع
وكذا الثناء المحض في أثنائه
…
بنوافج الذكر الجميل يضوع
فلذاك يُحفظ في الصدور لفضله
…
وسواه يُنسى ذكره ويضيع
لله روض في جنان جناسه
…
هو للقلوب وللعيون ربيع
كم أثمرت أغصانه بفوائدٍ
…
كم طاب فيها للفؤاد ولوع
ما زال يمطره الجنان سحائباً
…
يُضحي بها القرطاس وهو مَريع
في طيّه نشر العلوم تأرجت
…
أرجاؤه فتعطّر المجموع
سِفرٌ عن الفضل المحقق سافرٌ
…
وله على القمر المنير طلوع
بيّنتَ فيه لنا الأصول فأينعت
…
لجنى العقول من الأصول فروع
وشرعتَ في حلّ الرموز وقد حلا
…
للفهم في ذاك الشروع شروع
لم يبق في علم المعاني ناطق
…
إلا وبان به لديك خضوع
فابن الأثير ولو تأثّل مجده
…
وعصى لكان لِما بنيت يُطيع
سيّرت أمثالاً لها حكم فما
…
لنجومها مثل النجوم رجوع
أعليت بُنيان البديع مشيّدا
…
ما لم يشيّد للزمان بديع
وأذبت لابن أبي الحديد جوانحا
…
لم تُطفَ منها للحريق دموع
وأدرت أفلاكاً على أمثاله
…
أضحت تروق بحسنها وتروع
وطعنت في ابن سنان عند خفاجة
…
لغة فأودت بالصدور صدوع
وأنرت ما لا نوّر المصباح في
…
علم البيان وفي سناه لموع
وتخلّف المعتز إذ زلّ ابنه
…
وبدا بمنطقه لديك خشوع
هذا كتاب قد كبتّ به العدى
…
فجنابه عن حاسديه منيع
أتعبت مَن يسري وراءك في النهى
…
ومتى تساوى ظالع وضليع
ورفعت قدر العلم حين وضعته
…
فتشرّف الموضوع والمرفوع
نثر حكته من الكواكب نثرةٌ
…
فيها لصفحة أوجِهِ ترصيع
ونظام شعر دونه الشعرى وإن
…
أمست ومنزلها عليه رفيع
شعر يروق طباقه وجناسه
…
والسبر والتقسيم والتصريع
يسمو حبيباً بالمكارم إن بدا
…
ويرى الوليد لديه وهو رضيع
وهي أطول من هذا، وهذا القدر منها كاف.
وله قصيدة أخرى نظمها على كتابي نصرة الثائر على المثل السائر.
وكتبت أنا على قصائد نظمها في قاضي القضاة جلال الدين القزويني وأولاده بدر الدين وجمال الدين وتاج الدين وصدر الدين رحمهم الله: وقفت على هذه القصائد التي تدبّجت، والمدائح التي طاب ثناؤها فتأرّجت، والقوافي التي ما لوت جيدها الى غير شاعرها ولا عرّجت. فألفيتها قيد النواظر، وتنزّهت منها في روضة أخملت الخمائل النواضر، وعلمت أنها تحفة القادم وزاد المسافر وحضرة المحاضر، لو عقل الناس تلعُّبها بالمعاني وفنونها، لعلّقوها على كعبة مجاميعهم فقد علّقت العرب دونها، قد أحكمها ناظمها رصفاً، ورقّت لفظاً، وراقت معنى وشاقت وصفاً. ومزّق بها هذا الخياط أقوال ذلك الرّفا، ونبت كل قضيب في روضها فشلّ من باعِ الشعر أكفّا:
أكرم بها من قواف
…
وبدرها وجمالِه
وصدرها إن تبدّى
…
في تاجه وجلاله
ما للكادّ التّعب ظفر بممنوحها، ولا للشكر مندوحة عن ممدوحها، وما أظنه إلا أُدخل الجنة بسلام، ولقي جلاله وكرمه وجه ذي الجلال والإكرام، فالله يمتّع الوجود برقيّ بدره درج منبره، ويشنّف الأسماع بما يتحفها لفظه من جوهر، ويجعل الفتاوى متفيأة ظل قلمه، ويديم عليه مواد نعمه، إن شاء الله تعالى.