الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخرّج له شيخنا الذهبي جزءاً، وحدّث به.
توفي رحمه الله تعالى سلخ شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة، ودفن بجبل قاسيون.
يحيى بن إسماعيل
ابن محمد بن عبد الله، القاضي الصدر الرئيس النبيل شهاب الدين ابن القاضي عماد الدين بن القاضي شرف الدين ابن الصاحب فتح الدين بن القيسراني المخزومي، تقدم ذكر والده القاضي عماد الدين، وذكر غيره من بينهم.
كان القاضي شهاب الدين قد طبع على الرئاسة، وجمع في أجزائه من السيادة والسياسة، يتجمّل في مركوبه وملبوسه، ويتحمل المضض من نكد دهره وبؤسه، لا يشكو والدهر قد عضّه بنابه، ولا يظهر الشماته، ولا يُظهر الشماته بعدو ولا يقول في شده: ليت ما بنا به، ولا يتلفظ بسوء في حق من آذاه ويقول: من أطلق لسانه فليس بنابه. تخف الجبال الراسيات لوقاره، وتتعجب السلافة من لطفه وهي في خزف الدّن وقاره، أخلاقه كنسيم الصّبا، فالخمائل منها في خمول، ومحاسنه كثيرة العدد وعلى ظهر الزمان منها حُمول، وبشرٌ يتعجب من دوامه جليسه، وتواضع يشهد بالرفعة له أنيسه.
شيمة حرةٌ وظاهرُ بشرٍ
…
راح من خلفه السماحُ يشفُّ
هذا الى كرم يضطرب موجه، ويشهد لمؤمّله بالفوز فوجه.
ولاه السلطان الملك الناصر محمد كتابة السر بالشام إكراماً للأمير سيف الدين تنكز، وتوهّم فيه التقصير، فبدا منه كل أمر معجز، فنفّذ مهمات البريد، وصان أسراره، وصال على أعاديه بكتبه التي يجهزها على الحرارة، حتى دخل في عين تنكز وملأ قلبه، وجعل إليه إيجابه وسلبه، وألقى إليه مقاليد دولته. وروى الليث عنه أسانيد صولته، فتقدم في تلك الدولة ورأس، وجنى من ثمرات الشكر مما غرس، فكان إذا جلس في صدر ديوانه كأنه كسرى في إيوانه مقدد وسؤدد، وستور من الجلالة عليه ترخى، وأطنابٌ من المهابة تُمدد:
بصفاته سجع الحمام وهزّ عط
…
فيه قضيبُ البانةِ الأملودُ
سلك المكارم والممالك عزمُهُ
…
فغدت وليس لنظمها تبديدُ
من معشر مولودهم في مهده
…
يُرجى ومن قبل الفطام يسودُ
وكان خطّه أبهى من الروض وأبهج، وسطوره في طروسه آنقُ من بحر كافور بالمسك قد تموج، قد صغت حروفها وقعدت ووضعت تيجان الحسن على رؤوسها وعقدت.
إلا أن الزمان قطع عليه اللذة، وارتجع حسنته الفذة، فأمسك السلطان تنكز، فانحل نظام السّعد، وزالت تلك المحاسن و" لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ "،
وأصابه في تلك المحنة شؤبوب، ومرّ عليه من لامع برقها ألهوب، إلا أنها كانت شدة خفيفة ومحنة عفيفة، فانقشع غيمها، وانجمع ضيمها. ثم إنه أُرسل سعده بعد فترة، ورفع على رأسه جترة، وقالت له الأيام:
لُحْ في العلا كوكباً إن لم تلُحْ قمراً
…
أو قم بها ربوةً إن لم تقُم علَما
فعاد الى توقيع الدّست، وحطّت نغمة نغمته في الدُوكاة بعد أن طلعت في الرّست.
ولم يزل على حاله الى أن انطوى بعدما تألق، وتعلّى روحه الى الجنة وتعلّق.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثاني عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية عند والده رحمه الله تعالى.
ومولده تقريباً سنة سبع مئة ومات بعلّة الاستسقاء بعدما عالج لواعجه قريباً من عشرة أشهر، وصبر على الامتناع من رؤية الماء وشربه جملة كافية.
وقلت أنا فيه:
قلت إذا استسقى الرئيس الذي
…
بالجود عمّ الغرب والشرقا
عهدي أن البحر يسقي الورى
…
مالي أرى البحر قد استسقى
وكان القاضي شهاب الدين - رحمه الله تعالى - قد ورد مع والده الى دمشق من حلب، وقد رُسم له من مصر أن يكون مع والده مُقيماً بدمشق، وأن يكون والده
موقّعاً بالدست، وأن يكون هو كاتب إنشاء، فباشر ذلك على أتمّ ما يكون من التجمّل في ملبسه ومملوكه ودوابه ومركوبه الى غير ذلك، حتى كان القاضي محيي الدين بن فضل يقول: هذا المولى شهاب الدين بن القيسراني يجمّل هذا الديوان.
وكان يكتب الرقاع مليحاً الى الغاية. ولم يزل على ذلك الى أن توفي والده رحمه الله تعالى، على ما تقدم في ترجمته، فرتّبه الأمير سيف الدين تنكز في توقيع الدست مكان والده. ولم يلبث بعد ذلك إلا قليلاً حتى كتب فيه الى السلطان وسأل له أن يكون كاتب السر بدمشق، فأجابه السلطان الى ذلك. وكان تنكز يحبه ويميل إليه ويعتمد عليه اعتماداً كثيراً، حتى إنه كان في السفر لا يُمسك قلماً ولا يكتب على شيء، لا مطالعة الى باب السلطان ولا غيرها، بل يسطّر قبل سفره ما يحتاج إليه من المطالعات وأوراق الطريق والمراسيم التي على الخزانة بالتسافير والإنعامات والمُطلقات وجميع ما يكتب الى النواب والى غيرهم ممن هو في باب السلطان، يفعل ذلك وثوقاً به.
ولم يزل كذلك الى أن أُمسك تنكز ورسم السلطان بعزل كل من هو من جهة تنكز، فأمسكه الأمير سيف الدين بشتاك، وأخذ منه تقدير عشرين ألف درهم وأفرج عنه. وأقام بعد ذلك بطّالاً الى أن توفي السلطان.
وجاء الفخري وملك دمشق، فاستخدمه في كتابة الدست بدمشق. وتوجه مع الفخري والعساكر الى الديار المصرية، وعاد الى الوظيفة المذكورة، وأقام عليها بدمشق الى أن توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق، فكتب
الأمير سيف الدين يلبغا وكان يومئذ نائب دمشق في القاضي شهاب الدين بن القيسراني وسأل من السلطان أن يكون كاتب سرّ بدمشق، فما قدّر الله له بذلك. وحضر بريدي يطلبه الى باب السلطان فتوجه الى الديار المصرية، فرسم له بأن يكون كاتب إنشاء بالقاهرة فأقام على ذلك قليلاً، ورسم له الملك الكامل بأن يكون موقع الدست قدام السلطان، فعمل ذلك مديدة. ثم إنه خرج الى دمشق على عادته موقع الدست، فأقام على ذلك الى أن مرض بعلة الاستسقاء، ومات في التاريخ المذكور، رحمه الله تعالى.
وكان شكلاً حسناً تامّ الخلق، مليح العمّة، نظيف اللباس، عطر الرائحة، محبوب الشخص، حسن الودّ، صحيح الصحبة، يملك أمر نفسه في حالتي الخير والشر، لا يظهر عليه غضب ولا كراهةُ أحد، يعامل صاحبه وعدوّه بظاهر حُسن وبشاشة، كثير الاحتمال، صابراً على أخلاق من يصحبه أو يعاشره، كثير الآداب والرئاسة، وكان أخيراً وهو كاتب السر يصوم الإثنين والخميس، ويتعبّد ويذكّر، لا يقابل أحداً بما يكرهه. لم أر مثله، صحبته مدة تزيد على ثلاث وعشرين سنة، ما رأيت منه سوءاً قط ولا ما أكرهه، فجزاه الله عن الصحبة خيراً.
وكان يحب الفقراء والصالحين، ويتودد إليهم ويقضي حوائجهم، وعمّر العمائر المليحة الغريبة العجيبة، ولم أر أحداً حاز مثل ذهنه في العمائر واستعمال الصنّاع والصبر على ما عندهم من المكاسرة والمدافعة.
وقلت أنا أرثيه، رحمه الله تعالى:
مات يحيى فكيف يحيا اللبيبُ
…
وبه كانت الحياة تطيبُ
لم يمت إنما الرئاسة ماتت
…
والمعاني تخرّمتها شعوب
كان للناس والأنام جمالاً
…
فهو للبدر في التمام نسيب
كان والله كاملاً في المعاني
…
وحماه للمعتفين رحيب
كان في جوده فريداً فأما
…
إن ذكرت الوفا فأمرٌ عجيب
يملأ العين شكله وتسرَّ النف
…
س أوصافه فما تستريب
ورئيس إن قلت فيه رئيس
…
ما له في الأنام قطّ ضريب
خُلق كالنسيم إن مرّ وَهْناً
…
في خلال الأزهار وهو رطيب
ومحيّاً لو أن بدراً رآه
…
لاعتراه بعد الطلوع مغيب
وحياء كأنه إذ يُحيّا
…
عند ردّ السلام منك مُريب
واحتمال لكل ضيم عظيم
…
حيث رأس الوليد منه يشيب
وإذا نال حظوةً من مليك
…
فلكل الأصحاب منه نصيب
هو في منصب يسامي الثريّا
…
ونداه من المنادي قريب
لم يشنْ لفظه بغيبة شخص
…
يحضر الشخص عنده أم يغيب
من سراةٍ إن سار عنهم ثناءٌ
…
مادَ منه غصنٌ وماج كثيبُ
إن مخزوم في قريش لريحا
…
نٌ شذاه يوم الفخار يطيب
جدّهم خالدٌ وخالد جدٌ
…
لهم والجناس شيء عجيب
كلهم كاتبٌ رئيسٌ كريمٌ
…
عالم فاضلٌ سريٌ نجيب
كتب السرّ عند تنكز دهراً
…
وهو ذاك الملك العظيم المهيب
فأخاف العدا وسرَّ الموالي
…
فلهذا يثني وهذا يثيب
وعلى كتبه حلاوة لفظ
…
مقتضاه البيان والتهذيب
في طروس لنا تشفّ بياضاً
…
وسطور مدادها غربيب
دبّر الملك بُرهةً ليس فيها
…
ما تراه سوءاً ولا ما تعيب
يتلقى أغراض كلِّ مهمّ
…
فترى رأيه سهاماً تصيب
وإذا جُهّز البريد بأمر
…
فيه خوف فبالأمان يؤوب
ليس إلا اللفظ الذي هو سحر
…
ولمعناه في القلوب دبيب
ولبعض الكلام رونقُ حُسنٍ
…
منه تُنسى البلوى وتُمحى الذنوب
أيها الذاهبُ الذي سار عنّا
…
وغمامُ الدموع منا يصوب
إن يكن شقّ فيك للصبح جَيب
…
فلكم شُقِّقَتْ عليك جيوب
كان دهري سِلماً فمذْ غبت عني
…
نشأت بينه وبيني حروب
كنت لا أختشي إذا اعتلّ يوماً
…
من أذى خطبه وأنت طبيب
آه وا لوعتي وطول نحيبي
…
مع علمي أن ليس يُجدي النحيب
غير أني قضيت للودّ حقاً
…
برثاءٍ له عليّ وجوب
كم أيادٍ أولَيتَنيها ونُعمى
…
ومحلّ الإحسان محْلٌ جديب
جعل الله بقعة أنت فيها
…
روضٌ عفو فهو الكريم الوهوب
وكتبت أنا إليه من الديار المصرية أهنئه بكتابة السر بالشام في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة:
كم عدو يموت أيام يحيى
…
ومحبّ في العز والسعد يحيا
هذه دولة تقول الليالي
…
لعُلاها أهلاً وسهلاً ورعيا
طالما اشتاقها الزمان بنفسٍ
…
هي للمجد والمكارم ظميا
جِمجَمَ الدهرُ مدة بسواها
…
وهو منها يُسرّ في القلب أشيا
أطلعت في سما دمشق شهابا
…
منه شمس النهار في الأفق خَزْيا
أين من يطلب المعالي وتأبى
…
من رئيس تأتي لمغناه سعيا
لو أراد الزمان يأتي بمثلٍ
…
لعلاه بين البريّة أعيا
كاتب السر سرَّ كل محبّ
…
وأعاد الجميل فينا وأحيا
بسجايا من السحائب أندى
…
وجناتٍ من الحدائق أفيا
ذو سكون وعفة ليس يشكو
…
من خُطاه وجهُ الثرى قطّ وطيا
صرّفِ الآن دهرنا يا شهاب ال
…
دين مهما أردت أمراً ونهيا
ومر السعد بالذي تشتهيه
…
فهو يأتي في الحال ما اخترت جَريا
فلك الحمدُ والمآثر إرث
…
عن كرامٍ زكوا مماتاً ومَحيا
أنت من عصبةٍ كرامٍ نماهم
…
خالدُ بن الوليد في كل عَليا
عملوا صالحاً وحازوا المعالي
…
فهم الفائزون أخرى ودُنيا
بك تزهى دمشق فامنع حماها
…
فلها من علاء في العز بُقيا
قلم في بيان كفك يسعى
…
فوق طرس أم حاك في الخط وشيا
كل سطر كأنه إذ تبدّى
…
شفةٌ بالمدادِ الأسودِ لَميا
ينثر الدرّ بل يُري السحر حقاً
…
حين يُملي عليه فكرك وحيا
فإذا ما أعملتَهُ في مهمٍّ
…
يستبيح الأعداء قتلاً وسبيا
هذه الدولة التي كنت أرجو
…
أن أرى لي بها مع السعد لُقيا
ويسر الفؤاد نيلُ الأماني
…
وأرى طعم صبره صار أرْيا
لا أراني لها الزمان انفصالاً
…
ما اشتكى عاشق من الحب نأيا
يقبّل الأرض ويهنئ نفسه والأنام، ومملكة الشام والأيام، وبيض الطروس وسُمر الأقلام وأرباب الطيالس وأصحاب الأعلام، بهذه الرتبة التي طلع في سمائها شهاباً توقّد نوره وكات سرٍّ كثرت بمعاليه في ديوان الإنشاء شموسه وبدوره، ووجدت الأقلام لها في ميدان البلاغة مجالاً، وبلغت المعالي من قربه أمانيها فلم تعدم بمن تهوى اتصالاً:
وزاد المرهفات ضياءَ عزمٍ
…
فصار على جواهرها صِقالا
وأبصرت الذوابل منه عدلاً
…
فأصبح في عواملها اعتدالا
فالله يرزقنا معاشر الأرقاء شكر هذه النعمة التي أقمر بها ليل الأمل والتحف الدهر منها برداء المحاسن واشتمل، وانتشق خمائل فضلها من كانت الأيام أخرته حتى خمل، وانتصف فيها من كانت واقعته تذكّر الناس بأيام صفّين والجمل:
وأضحى فضلها في الناس باد
…
يدار بها على الشرب العُقارُ
فهذه الأيام التي كانت بها الآمال في الضمائر أجنّة، وهذه الأوقات التي جرت إليها سوابق الأماني مُطلقات الأعنة، وهذه الدولة التي جرت في رياض حماها جداول السيوف تشقّ رياحين الأسنّة، ليس فيها ما يقال له: كمُلَت لو أن ذا كمال.
فأنتم يا بني القيسراني فضلكم مثل جدكم خالد، ونجمُ من عاندكم هابط ونجم سعودكم صاعد، وجنان الفضل ترون فيها " مُتكئين فيها على الأرائك " وتحيتكم فيها المحامد، وأيديكم تضرب من البلاغة في الذهب الذائب إذا ضرب غيركم من العي في الحديد البارد، وبنان حسانكم ينهلّ بالنّدى فهو جائد وبنانُ غيركم جامد. زينتم الوجود من عصر نور الدين الشهيد سُقي ضريحه رحمة وبرّاً، وبدأت حسنات الأيام بوجودكم من هناك وهلم جرّا، كم قد تجمل منكم منصب الصحابة بوزير، وكم جلس منكم كاتب سرّ بين يدي صاحب السرير، وكم حلّيتم بدرر إنشائكم جيد قاضٍ وعنق أمير، وكم روى الإحسان منكم عن نافع وابن كثير.
أما فضائلكم فإنها ملأت الدفاتر، وأقرّت بالتقصير عنها مآثر البواتر.
وأما تشددكم في الدين فقد تفيأ الظل من سدرة المنتهى، وبلغ غايةً لم تكن الشمس في علوّ المنزلة أختَها.
وأما مكارمكم فما عهد الناس مثلها من البرامك، ولا اجتلوا مثل أقمارها في الدياجي الحوالك. وكيف لا يجد الناس بكم صفاء الأيام وفي وجودكم لذة العيش، أم كيف لا ينشقون أرج الخزامى وبنو مخزومٍ ريحانة قريش، فالله لا يُخلي الوجود من حسناتكم التي تفيد كل بهجة وتحيي من موت الفضائل كل مهجة.
بقاؤكم عصمةُ الدنيا وعزّكم
…
سترٌ على بيضة الأيام منسدل
إن شاء الله تعالى.