الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان قاضياً مفتياً، سمع من خالد الحافظ - وكان عمه - ومن مجد الدين الإسفراييني، والمرسي، وشيخ الشيوخ وطائفة.
وأم بالشامية، وأعاد بها، وعرف بجودة النقل، وولي قضاء بعلبك، وكان حميد الأحكام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حدود عشر وسبع مئة.
ومولده قبل الأربعين وست مئة.
يوسف بن عبد الرحمن
ابن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر، الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدّثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي القضاعي الكلبي، الحلبي المولد، خاتمة الحفّاظ، ناقد الأسانيد والألفاظ.
طلب الحديث في أول سنة خمس وسبعين وست مئة، وهلمّ جرا الى آخر وقت، لا يفتر عن الطلب والاجتهاد والرواية والتسميع.
سمع من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحنبل، ثم ابن ملاعب الرّهاوي، وابن البنا، ثم ابن أبي لقمة، وابن البن، وابن مكرّم، والقزويني، ثم ابن اللتي، وابن صبّاح، وابن الزبيدي. وأعلى ما سمع بإجازة عن ابن كليب،
وابن بوش، والجمّال، وخليل بن بدر، والبوصيري، وأمثالهم، ثم المؤيّد الطوسي، وزاهر الثقفي، وعبد المعزّ الهروي. وسمع الكتب الأمهات المسندة، والكتب الستة، والمعجم الكبير، وتاريخ الخطيب، والنّسب للزبير، والسيرة والموطأ من طرق، والزهد، والمستخرج على مُسلم، والحلية والسُنن للبيهقي، ودلائل النبوة، وأشياء يطول ذكرها. ومن الأجزاء ألوفاً. ومشيخته نحو الألف.
وسمع أبا العباس بن سلامة، وابن أبي عمر، وابن علان، والشيخ محيي الدين النووي، والزواوي، والكمال عبد الرحيم، والعز الحراني، وابن الدّرجي، والقاسم الإربلي، وابن الصابوني، والرشيد العامري، ومحمد بن القواس، والفخر بن البخاري، وزينب، وابن شيبان، ومحمد بن محمد بن مناقب، وإسماعيل بن
العسقلاني، والمجد بن الخليلي، والعماد بن الشيرازي، والمحيي بن عصرون، وأبا بكر بن الأنماطي، والصّفي خليلاً، وغازياً الحلاوي، والقطب بن القسطلاني وطبقتهم، والدمياطي شرف الدين، والفاروثي، واليونيني، وابن بلبان، والشريشي، وابن دقيق العيد، والظاهري، والتقي الإسعردي، وطبقتهم. وتنازل الى طبقة سعد الدين الحارثي، وابن نفيس، وابن تيمية.
ولم يتهيّأ له السماع من ابن عبد الدائم، ولا الكرماني، ولا ابن أبي اليسر، ونحوهم. ولا أجازوا له، مع إمكان أن تكون له إجازة المرسي، والمنذري، وخطيب مردا، واليلداني، وتلك الحلبة.
وحفظ القرآن، وعُني باللغة، فبرع فيها، وأتقن النحو والتصريف.
وكان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان وحافظ العصر، وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا كان له مشروباً ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا، أو الحاكم لقال: لأمرُهُ دائم النفوذ، وكان الى حرمه يعود وعليه يعول وبه يعود، أو ابن نقطة، لأغرقته بحاره الزّخّارة، ورأى خطه المستقيم خارجاً
عن دائرته، وبدره لا يدخل معه في هذه الدّارة، أو ابن عساكر لعلم أنه ليس من أبطاله، ولا عدّه الطّلبة من أتباعه ولا رجاله.
أتقن أسماء الرجال، وحرّر صيغها، وتجاوز الغاية، ومن أول ما خطا بلغها، وكان أمره في ذلك عجباً عاجباً، وإذا أمّ مقصداً في ذلك لم يجد له دونه حاجباً، كأنما عناه السّراج الورّاق بقوله:
أين إمامٌ في الحديث مثله
…
تضربُ آباطاً إليه الإبلُ
ذاد عن السُنّة كل مفترٍ
…
به جلي الدُجا وحُلّ المُشكل
وكان في علم الرجال أوحداً
…
بحيث قال العلم: هذا الرجل
أتقنهم معرفةً يقول ذا
…
مستعملٌ وقول ذاك مهمَل
وأما اللغة، فأبو عبيدة يكون عبده، والأصمعي أصمّ عيّه من يسمع كلامه بعده.
وأما النحو، فليس لأبي علي معه حجة، ولا لابن خالويه عنده قولٌ يتوجه.
وأما التصريف فما ابن جنّي عنده ابن آدم، ولا المازني من رجاله إن صادفه، أو صادم.
ولم يزل على حاله الى أن خلت منه الربوع، وجرت الجفون عليه دماً بعد الدموع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ومولده بظاهر حلب في عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وست مئة.
ودفن بمقابر الصوفية.
وكان فيه حياءٌ وسكون، وحلم واحتمال، وقناعة واطّراح تكلّف، وترك التجمل والتودد الى الناس، مع الانجماع عنهم، وعدم الكلام إلا أن يُسأل فيجيب ويُجيد، وكلما طالت مجالسة الطالب له ظهر فضله، لا يتكثّر بفضائله، ولا يغتاب أحداً. وكان يصعد الى الصالحية ماشياً، لا يركب بغلاً ولا حماراً، وهو في عشر التسعين، ويستحمّ بالماء البارد في الشيخوخة، إلا أنه كان قد امتحن بأمر المطالب، وتتبّعها، فعثر به جماعة من الشياطين، وأكلوا معه، فكان لا يزال في فقر لأجل ذلك.
وحجّ، وسمع بالحرمين والقدس ودمشق ومصر وحلب وحماة وحمص وبعلبك، والإسكندرية وبُلبيس وقطيا، وغير ذلك. وأوذي مرة، واختفى مدة من أجل سماع تاريخ الخطيب. وأوذي مرة أخرى لأجل قراءة شيء من كتاب أفعال العباد مما يتأوّله الفضلاء المخالفون، وحبس.
ولما توفي ابن أبي الفتح حصل له من جهاته حلقة الخضر والحديث بالناصرية، فأضاءت بذلك حاله، واتسع رزقه، ثم إنه ولي دار الحديث الأشرفية بعد ابن الشُريشي سنة ثماني عشرة وسبع مئة، التزم بمذهب الشافعي، وأشهد عليه بذلك، وذكر الدّرس بالأشرفية في ثالث عشري الحجة من السنة المذكورة. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: لم يلِ هذه المدرسة من حين بنائها الى الآن، أحق بشرط
الواقف منه، وقد وليها جماعة كبار مثل ابن الصّلاح ومحيي الدين النواوي وغيرهما، لأن الواقف قال: فإن اجتمع من فيه الرواية، ومن فيه الدراية قدّم من فيه الرواية.
وأخبرني من لفظه شيخنا الذهبي، ونقلته من خطه، قال: ما رأيت أحداً في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي، وسمعته يقول في شيخنا أبي محمد الدمياطي إنه ما رأى أحفظ منه، وكان الدمياطي يقول: إنه ما رأى شيخاً أحفظ من زكي الدين عبد العظيم، وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي ابن المفضّل، ولا رأى ابن المفضّل أحفظ من الحافظ عبد الغني، ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني، إلا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر، فقد رآه، ولم يسمع منه، ولا رأى ابن عساكر والمديني، أحفظ من أبي القاسم اسماعيل بن محمد التيمي، ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر ابن ماكولا، ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبي بكر الخطيب، ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبي حازم العبدوي،
ولا رأياً أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندَه، ومعهما الحاكم. وكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة الأصفهاني. وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحيى بن زهير التُستَري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زُرعة الرازي. وأما الدارقطني فما رأى مثل نفسه، وكان الحاكم يقول: ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر الجعابي، وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة، ولا رأى ابن عُقدة، ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي، ولا رأى النسائي مثل إسحاق بن راهويه، ولا رأى أبو زرعة أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وقد رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة، ولا رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري، ولا رأى البخاري - فيما ذكر - مثل علي بن المديني، ولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل، ولا مثل يحيى بن معين، وابن راهويه، ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطّان، ولا رأى هو مثل شعبة وسفيان
ومالك، ولا رؤوا مثل أيوب السخستياني، نعم، ولا رأى مالك مثل الزُهري، ولا رأى مثل ابن المسيّب، ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة رضي الله عنه، ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين، ولا رأى مثل أبي هريرة، نعم، ولا رأى الثوري مثل منصور، ولا رأى منصور مثل إبراهيم، ولا رأى إبراهيم مثل علقمة، ولا رأى علقمة كابن مسعود، فيما زعم.
وقال شيخنا الذهبي: لم يسألني ابن دقيق العيد إلا عنه. وقال الذهبي أيضاً: وكان قد اغترّ في شبيبته، وصحب عفيف الدين التلمساني، فلما تبيّن له ضلاله هجره وتبرّأ منه. وقال الذهبي: وكان يترخّص في الأداء من غير أصول، ويُصلح كثيراً من حفظه، ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين، ويتوسّع، وكأنه يرى العمدة على إجازة المُسمع للجماعة، وله في ذلك مذاهب عجيبة، وكان يتمثّل بقول ابن مندة: يكفيك من الحديث شمّه.
وصنّف كتاب تهذيب الكمال في أربعة عشر مجلداً. كسف به الكتب
المتقدمة في هذا الشأن، وسارت به الرُكبان، واشتهر في حياته، وصنّف كتاب الأطراف للكتب الستة في ستة أسفار، وخرّج لجماعة.
قال الذهبي: وما علمته خرّج لنفسه لا عوالي ولا موافقات ولا معجماً، وكل وقت ألومه في ذلك فيسكت، وقد حدّث بكتابه التهذيب خمس مرات، وحدّث بالصحيحين مرات، وبالمسند ومعجم الطبراني وبدلائل النبوة ويكتب جمّة، وحدّث بسائر أجزائن العالية وبكثير من النازلة.
وقال الذهبي أيضاً: أعلى ما عنده مطلقاً الغيلانيات وجزء ابن عرفة وابن الفرات بإجازة.
وسمع منه الذهبي سنة أربع وتسعين، وأخذ عنه صحيح البخاري غير مرة. واستملى منه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وشيخنا ابن سيد الناس، ومحب الدين وأولاده، وشمس الدين السروجي، وابن الدمياطي وابن عبد الهادي وابنا السفاقسي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وسبط التنيسي، وخلائق. وتخرّج به جماعة كشيخنا علم الدين البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ عماد الدين بن كثير، وابن عبد الهادي، وابن العطار، وابن الفخر، وابن الجعبري، وغيرهم.
وقال شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في حقه: ووجدت بدمشق الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس
للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصراً دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمداً آثار السلف الصالح، مجتهداً فيما نيط به في حفظ السّنة من النصائح، معرضاً عن الدنيا وأشباهها، مقبلاً على طريقه التي أربى بها على أربابها، لا يبالي ما ناله من الأزل، ولا يخلط جدّه بشيء من الهزل، وكان بما يضعه بصيراً، وبتحقيق ما يأتيه جديراً، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام، وكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز، وأستفيد من حديثه الذي إذا طال لا يملل، وإن أوجز وددت أنه لم يوجز، وهو الذي حداني على رؤية الشيخ تقي الدين بن تيمية.
قلت: وكان معتدل القامة، مشرباً حمرة، قوي التركيب، متع بذهنه وبحواسه، ولم أر بعد الشيخ فتح الدين بن سيد الدين من يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها مثل الشيخ جمال الدين، ولم يستعر مني شيئاً فأعاده إلا وقد نبّه فيه على نكتة كنت محتاجاً إليها حتى في إجازة الشيخ فتح الدين بن سيد الناس لي. وفيه قلت:
درتُ على أشياخ عصري فيا
…
فخري بما نلتُ ويا عزّي
وذقتُ طعم الكل في علمهم
…
فلم أجد أحلى من المزي
وسمعتُ صحيح مسلم على البندينجي، وهو حاضر بقراءة ابن طغريل، وعدة
نسخ حاضرة صحيحة، يقابل بها فيردّ الشيخ جمال الدين رحمه الله على ابن طغريل اللفظ، فيقول ابن طغريل: ما في النسخة إلا ما قرأت، فيقول من في يده بعض تلك النسخ الصحيحة: هو عندي، كما قال الشيخ، أو هو مظفّر عليه أو مضبّب أو في الحاشية تصحيح ذلك، ولما تكرر ذلك، قلت أنا له: ما النسخة الصحيحة إلا أنت.
وقرأت عليه من لفظي ديوان خطب ابن نُباتة والأربعين النووية، وسمعت عليه من الأجزاء كثيراً، وسمع هو شيئاً من شعري بدار الحديث، وقرأت عليه كتاب الشمائل للترمذي بعدما كتبته بخطي، ولم أر في أشياخي بعد شيخنا أثير الدين في العربية مثله خصوصاً في التصريف واللغة، إلا أنه مع إتقانه لأسماء الرجال وله فيها هذا المصنف العظيم، لم يكن يعتني بتراجم العالم من الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والقراء والأطباء والأدباء والشعراء، ولا له فيها مشاركة البتّة، وإنما كان يعتني برجال الحديث لا غير، ولقد سألته مرة عن القالي بالقاف، والفالي بالفاء، فقال: لا أعرف إلا الفالي بالفاء فعلمت أنه ليس له عناية بغير رواة الحديث، وإلا فأبو علي القالي بالقاف مشهور بين صغار الأدباء، ولكن عندي من الشيخ جمال الدين فوائد وقواعد في أسماء رجال الحديث، لم آخذها إلا عنه، ولا وجدتها في كتاب، وكان أسماء الرجال الذين يجيء ذكرهم في سماعاته وطرقه يجيد الكلام في طبقاتهم وأحوالهم وقوتهم وضعفهم ولينهم، وكان في ذلك بحراً لا يشق ثبجه وعجاجاً لا ينحط قتامه.
ولما كان في سنة خمس وسبع مئة. تكلم الشافعية وغيرهم مع الشيخ تقي الدين بن تيمية وبحثوا معه في القصر الأبلق، وبحث معه صفي الدين الهندي ثم كمال الدين بن الزملكاني، وخرجوا، وانفصلت القضية، فلما كان بعد ذلك في يوم الإثنين ثاني عشري شهر رجب الفرد قرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلاً في الردّ على الجهمية من كتاب أفعال العباد تصنيف البخاري، وكانت قراءته لذلك تحت قبة النسر في المجلس المعقود لقراءة الصحيح، فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين، وقالوا: نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر الى قاضي القضاة الشافعي، فطلبه، وحبسه، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتألم لذلك، وأخرجه من الحبس بنفسه، وخرج الى القصر الأبلق، واجتمع هو وقاضي القضاة هناك وردّ عن المزي، وأثنى عليه، وغضب قاضي القضاة، وأعاد المزي الى الحبس بالقوصية، فبقي أياماً، ثم أُفرج عنه، ونادى الأفرم في دمشق أنه أي من تكلم في العقائد حلّ ماله ودمه.
وكنت قد كتبت أنا له توقيعاً بمشيخة دار الحديث النورية عوضاً عن الشيخ علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - وذلك في المحرم سنة أربعين وسبع مئة، ونسخته:
رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تزيد العلم الشريف جمالاً، وتزينه بمن يفيده كمالاً، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الجمالي في كذا ثقة بأنه الثقة، والعالم الذي لغيره المقت وله المقة، والمحدّث الذي متى فاه بما عنده بادر كل أحد بالقبول وصدقه، والحبر الذي إذا تكلم نسخ كلام من تقدم بأقواله المحققة،
والحافظ الذي اجتحف سيله ابن نقطة فأغرقه، والناقد الذي كدر على ابن معين صفوه ورنّقه، والمصنّف الذي شيب من ابن أبي شيبة مفرقه، والمسند الذي لو عاصره عبد الرزاق حرمه الرحلة إليه مما رزقه، والمتأخر الذي لا يعرف بعد الدارقطني مثله، وربما تقدمه في فنّه المحرر وسبقه.
فليباشر ما فوض إليه مباشرة يتضوّع من نشر السنة بها النشر، ويكون للحديث الشريف حفظ يدوم الى الحشر، مجتهداً في البيان للطلبة، والإعانة لهم على سلوك المعرفة، فمحجّتها بالغموض منتقبة، لأن تهذيب كماله ليس للبدر في تمامه كما له، وأطرافه سار في الأطراف، فما ينكره علماء الحديث ولا رجاله، وإتقانه للأسماء إتقان تزأر في غابة أسوده وأشباله، ومحله من الحفظ محل يعزّ على صاحب الاستيعاب مناله، وإعرابه لو عاصره أبو البقاء لم يظفر بلبابه، وتصريفه لو عاينه ابن جني ما دخل سوقه على تصنيفه الملوكي برفع حجابه، ولغته لو سمعها ابن الأعرابي ما نقل شيئاً عن أعرابه.
ولينزّل الطلبة منزل البنين في الحنوّ عليهم عند الهفوة، ولا يكن فيه قسوة المعلمين
على من في ذهنه فترة، ولم يكن من الفهم في الذروة، وليجْلُ عليهم حسن وجه الإقبال، وإذا كان المؤمنون إخوة فيوسف أحسن الإخوة، حتى يوضح لهم ما أبهم من الأسانيد المظلمة، والأسماء التي هي لتساوي صورها مبهمة، والألفاظ التي هي لولا القرائن موهمة.
ولينبّه على الصحيح إذا ورد، والحسن إذا أضاء وجهه لمن انتقد، والضعيف إذا اعتلّ متنه ولم يصح له سند، والموضوع الذي لا يعرفه إلا من امتاز برتبته وانفرد، وليحرر لهم الألفاظ إذا رواها، ويحقق مخارجها الصحيحة الفصيحة التي فاخر بها هذا اللسان العربي وباهى، ويحترز في أدائها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " عاملاً في ذلك بشرط الواقف أثابه الله فيما يبدي ويعيد، ولا يتعدّ ما قرره، فإن الله تعالى يرى عمله، وقد استفاض في الواقف أنه شهيد، والوصايا كثيرة، وعنه تصدر بالإفادة جميع وفودها، ومن أفق فضائله تتألق كواكب سعودها، وتقوى الله عز وجل ملاك أمرها، وسداد ثغرها، فلا يتعرّ منها منكبه، ولا يتعدّ عنها مركبه، والله تعالى يمدّ في أجله، ويبلّغ كلاً من الطلبة في بقائه غاية أمله.
والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.