الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأن السطور روض مريع
…
والمعاني كأنها فيها زهرُ
أنت يا بن الحداد صغت المعالي
…
لك طوقاً فيه كلامك درُّ
بك قد أشرقت دمشق وتاهت
…
فلها من سناك فجرُّ وفخر
أنت فيها بحرٌ وقد سبق القو
…
ل ضميري فقلت إنك حبرُ
كيف يُدعى بالبحر من كل بحر
…
مستمدٌ من فضله مستمرّ
فابق في نعمةٍ تفيد البرايا
…
فضلَ علمٍ يغشاه زيدٌ وعمرو
يحيى بن فضل الله
ابن المجلي بن دعجان، القاضي الكبير الرئيس محيي الدين أبو المعالي القرشي العدوي العُمري، كاتب السر السلطان بالشام، أولاً، وبمصر أخيراً.
تقدم ذكر أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب، وذِكرُ ولديه القاضي شهاب الدين أحمد، والقاضي بدر الدين محمد وذكر أخيه بدر الدين محمد بن فضل الله كلّ منهم في مكانه.
كان سعيد الحركات إذا تحرك، سديد السكنات، كأن القدر تكفّل له بحُسن العقبى وتدرّك، متعه الله تعالى بالمناصب والأولاد، والسعادة التي لها الجبال أوتاداً، فرأى في مناصبه ما لا رآه غيره، وفي أولاده من السعد ما لم يزجر به لغيرهم طيره. وكتب الخطّ الذي تودّ الرياضُ لو كانت أوراقه، والعقود لو نُظمت مثل سطره في حُسن اللباقة. ما أعتقد أنه خدم الترك مثله، ولا نبت في وادي أغراضهم إلا بانُهُ وأثله، قد درِبَ مقاصدهم وألفها، وفرّع مرامي مراميهم وعرفها، طال عمره في السعادة وخدمته في آخر عمره بالحسنى وزيادة.
وكان يرعى حقّ من خدمه، ويعلي كعب صاحبه وقدمه، ولم يكن فيه لأحد أذى، ولا رأى غيره من عينه قذى، منجمعٌ عن الناس، لا يجتمع بأحد في مآتم ولا أعراس، شُغله بخويصة نفسه، والاعتزال عن أبناء جنسه. وكان شديد الحزم، مديد الهمة والعزم:
لا يقرع السنَّ للفوات ولا
…
يعضّ حرّ البنان من ندمه
يقلّ قدرُ الأنام عنه كما
…
يصغر جنب الزمان في عظَمه
ولم يزل على حاله الى أن انهار به جُرفه، وتهدّم من عمره شُرفه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكانت جنازة عظيمة، ثم إنه نقل تابوته الى دمشق، ودفن بتربتهم التي في الصالحية في شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
وكتبت أنا الى ولده القاضي علاء الدين كاتب السر أرثيه بقصيدة وهي:
يا قاصد الفضل عُد قد مات مُحييه
…
وغاب من كان بين الناس يُبديه
وأوحشَ الدست ذاك لصّدرٍ حين مضى
…
فطالما كانت الأسرار تأويه
كم دبر الملك بالآراء فامتنعت
…
ثغوره وحماهُ من أعاديه
ورفّة السُمر والبيض الصفاح فما اح
…
تاج الشجاعُ لأن تجري مذاكيه
وكم كتابٍ له أردى الكتائب لم
…
ما بات في ساحة الديوان يُمليه
مهما نسيتُ فما أنسى توجّعه
…
لي من زماني إذ خانت لياليه
ولُطفه كلما وافيتُ مجلسَه
…
كأنما نسماتُ الروض لي فيه
يا ذاهباً ترك الأسماع من حَزَنٍ
…
تودّ لو أنها صُمّت لناعيه
ومن مضى والورى تدري محاسنه
…
حتى لقد شكر الله مساعيه
أقسمتُ ما خدم الأملاك مثلُك في
…
سرّ تبيتُ من الأعدا تُراعيه
ولا يوفّي الأمور الباهظات إذا
…
ما أظلم الرشد حقاً أنت تدريه
ربّيْت فيما مضى من دهرنا دولاً
…
من غير عجزٍ ولا كبرٍ ولايته
وكم وصلت لمن قد بات ملتجئاً
…
إليك رزقاً رآه لا يواتيه
يُجنى عليك ولم تُظهر مؤاخذةً
…
لأجل ذلك تعلو من تناويه
وما برحتَ عظيم القدر ذا شرفٍ
…
عند المليك الذي جلّت أباديه
وقد مضَيت الى الله الكريم وما
…
يضيعُ مثلك ضيفاً عند باريه
قدمت في مثل شهر الصوم حضرته
…
بُشراك بُشراك خيرٌ بتَّ تجنيه
فقِرَّ عيناً بمن خلّفتَ من ولدٍ
…
فإن حقّك كل الناس يدريه
ولم يمت من بنوه سادةً نجُبٌ
…
كلٌ على حدةٍ يحيي معاليه
لاسيما وعلاءُ الدين ثالثهم
…
يفوه بالمسك من أضحى يسمّيه
كفاية ووقار في رسوخ نهىً
…
فما أرى أحداً في ذا يوفّيه
أما الكتابةُ فاسأل كلَّ يانعة
…
من الحدائق إن كانت تحاكيه
أو العبارةُ فاسأل كل بارقة
…
من الدياجر إن كانت تجاريه
أو الترسّل فاسأل كل هاطلة
…
من السحائب إن كانت تباريه
أو الخلائق فاسأل كل نافحةٍ
…
من النواسم إن كانت تضاهيه
نظمٌ كأن سلاف الدنّ شعشعها
…
فينا ضُحىً وأدارتها قوافيه
وكل سجع لو أن البحر يعرف ما
…
يأتي به لاستحتْ منه لآليه
يا من سردت معانيه وأقسمُ ما
…
تدري الليالي له مثلاً فتحويه
اصبر على فقد مولى كلُّ ذي أدب
…
إن كان يُنصفُ لا ترقا مآقيه
وسلّم الأمر في هذا لخالقه
…
تنلْ من الله ما تغدو تُرجّيه
فأنت أولى بصبر القلب في حزنٍ
…
ما غير فضلك فينا من يُعانيه
ولم أر فيمن عاصرته من كتب النسخ وخرّج التخاريج والحواشي أحلى ولا أظرف ولا آنق من القاضي محيي الدين بن فضل الله ومن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، نعم والقاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا شهاب الدين محمود، ولكن القاضي محيي الدين رعشت يده في آخر عمره، وارتجت كتابته أخيراً، ورأيت بخطه المثل السائر، والوشي المرقوم وهما في غاية الحُسن.
وأول ما كتب الإنشاء بدمشق في أيام أخيه القاضي شرف الدين عبد الوهاب سنة إحدى وستين وست مئة، ثم إنه جهّزه الى حمص، فأقام بها سنتين، ونُقل الى دمشق، فأقام مدة، ثم أعيد الى حمص وأقام بها قريباً من خمس سنين، ثم إنه نقل الى دمشق، ولما توجه أخوه الى كتابة السر بمصر وأقام بها الى أيام السلطان حسام الدين لاجين حصل للقاضي شرف الدين استرخاء، فجهّز السلطان أحضر القاضي محيي الدين سنة سبع وتسعين وست مئة، فأقام بمصر ينوب عن أخيه تسعة أشهر، ثم إنه طلب العود الى دمشق، فأعيد إليها.
ولم يزل بدمشق كاتب سر الى أن حضر السلطان من الكرك الى دمشق، وتوجه الى مصر سنة تسع وسبع مئة وهو معه، وعاد الى دمشق على وظيفته الى أن حضر أخوه القاضي شرف الدين عوضه بدمشق، ثم إنه عُطّل من المباشرة مدة، وأُخذ منه مبلغ مئة ألف درهم، وبقي مدة بلا خدمة، ثم رسم له أن يكون موقّعاً في الدست قدام الأمير سيف الدين تنكز، فلبث بعد ذلك الى أن باشر صحابة ديوان الإنشاء بعد القاضي شمس الدين ابن الشهاب محمود في رابع عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وأقام على ذلك الى أن طلبه السلطان الملك الناصر الى مصر، وولاه كتابة السر بها لما بطُلتْ حركة القاضي علاء الدين بن الأثير، وطُلب معه القاضي شهاب الدين، وولده، والقاضي شرف الدين أبو بكر حفيد شهاب الدين محمود، فوصلوا الى القاهرة في تاسع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأعيد شرف الدين الى كتابة سرّ دمشق عوضاً عن محيي الدين، وأقام بالقاهرة مدة الى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان شرف الدين قد طلع مع تنكز الى مصر، فرُسم لشرف الدين أن يكون كاتب السرّ بمصر، وأن يتوجه القاضي محيي الدين وأولاده مع تنكز الى دمشق، وذلك في نصف شعبان من السنة المذكورة، ولم يلبث شرف الدين في المنصب إلا ريثما حجّ السلطان وعاد معه، فرسم لشرف الدين بعوده الى كتابة سر دمشق، وطُلب القاضي محيي الدين وأولاده الى مصر ثانياً، واستمر القاضي محيي الدين على ذلك الى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فزاد ضعفه، وكبُرت سنّه، فطلب من السلطان أن يعود الى دمشق ليموت بها، فرسم له بالتوجه الى دمشق، وألزم ولده القاضي شهاب الدين بالتوجه معه، وكُتب له توقيع عظيم في قطع الثلاثين بأن يستمر على صحابة الديوان بالممالك الإسلامية، وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة من بالباب فمن دونه