الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
92 -
قال اللَّه تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
(66)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: لما نزلت: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال:(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال: فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في نزول هذه الآية. وقد أورد الطبري والقرطبي وابن كثير هذا الحديث على تفاوت بينهم في سياقه طولاً وقصرًا.
قال البغوي: (كان هذا يوم بدر فرض اللَّه على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين فخفف اللَّه عنهم فنزل: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) اهـ.
وقال ابن العربي: (قال قوم: كان هذا يوم بدر ثم نسخ، وهذا خطأ من قائله لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاثمائة ونيِّفًا، والكفار كانوا تسعمائة ونيِّفًا فكان للواحد ثلاثة، وأما هذه المقابلة وهي الواحد بالعشرة فلم ينقل أن المسلمين صافُّوا المشركين عليها قط، ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولاً،
وعلله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه وهو الثواب، وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه ثم نسخ ذلك) اهـ.
قال ابن عاشور: (هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدة. قال في الكشاف: (وذلك بعد مدة طويلة). ولعله بعد نزول جميع سورة الأنفال، ولعلها وضعت في هذا الموضع لأنها نزلت مفردة غير متصلة بآيات سورة أخرى، فجعل لها هذا الموضع لأنه أنسب بها لتكون متصلة بالآية التي نسخت هي حكمَها، ولم أرَ من عيَّن زمن نزولها ولا شك أنه كان قبل فتح مكة فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً محضاً لأنها آية مستقلة) اهـ.
قال ابن حجر: (قوله: (شق ذلك على المسلمين) زاد الإسماعيلي من طريق سفيان ابن أبي شيبة عن جرير (جهد الناس ذلك وشق عليهم).
قوله: (فجاء التخفيف) في رواية الإسماعيلي: فنزلت الآية الأخرى - وزاد - ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين، ولا قوم من مثلهم) اهـ.
والظاهر - واللَّه أعلم - أن قول البغوي كان هذا يوم بدر فرض اللَّه على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين قولٌ صحيح فقد تقدم في السبب السابق أن سورة الأنفال نزلت في بدر.
وأن قول ابن العربي: لم ينقل أن المسلمين صافُّوا المشركين عليها قط، ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولاً، أن هذا صحيح.
وأما قول ابن عاشور: أنها نزلت بعد الآية التي قبلها بمدة، ونقله عن صاحب الكشاف (وذلك بعد مدة طويلة) فلا أدري من أين أتى بهذا؟ وعلى أيِّ شيء يعتمد؟
ثم هو بعد سطرين فقط يقول: ولم أرَ من عيَّن زمن نزولها، هذا تردد يستغرب عليه.
أما قول ابن حجر في رواية الإسماعيلي: (جهد الناس ذلك وشق عليهم، إلى قوله: فنزلت الآية الأخرى) فهذا صحيح، وهو نظير قولهم
لما نزل: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) بعد أن اشتد عليهم: أي رسول اللَّه كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها
…
إلى أن قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل اللَّه في إثرها:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) ونظير ذلك أمرهم بتقديم الصدقة عند مناجاة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم لما رأى تبارك وتعالى شفقة المؤمنين ومشقة الصدقات عليهم عند كل مناجاة سهل الأمر عليهم ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة.
فإن قال قائل: ما قولك في قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) فالضعف يظهر عند التطبيق، والتخفيف بعده، وأنت صححت قول ابن العربي في أن هذا لم يقع؟
فالجواب: أن الضعف يظهر بالقول كما يظهر بالفعل، وفي القصة الأولى أظهر الصحابة ضعفهم بأقوالهم فقالوا:(وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها).
وإذا كان الأمر كذلك فإني لا أرى ما يمنع أن يكون ثبات الواحد للعشرة من هذا الباب فلما شق على المسلمين فرضُ ذلك عليهم نسخه اللَّه بقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا).
ولعل مما يؤيد قولي: قوله: (شق ذلك على المسلمين)، وقوله:(جهد الناس ذلك وشق عليهم) فإن هذا يشير إلى أن التخفيف جاء سريعاً. ولم يتأخر كما اختاره الزمخشري، وهذا من رحمة اللَّه بهذه الأمة التي رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على غيرهم ممن سبقهم. بل روح الشريعة وقلبها، وبها اليسر والسماحة ورفع الخرج، فالحمد للَّه أولاً وآخراً، وظاهرًا، وباطناً.
* النتيجة:
أن سبب نزول قوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) أنه قد شق على المسلمين
ثبات الواحد منهم لعشرة من الكافرين، والذي دعاني لاختيار هذا مع أنه ليس لي سلف أتشبَّث به من المفسرين، أن روايات الحديث تشير إليه، وكذلك بعض الأمثلة المشابهة في كتاب الله، والتي ذكرت اثنين منها، مع صحة إسناده، وارتباطه بحدث معين، وموافقته للفظ الآية والله أعلم.
* * * * *