الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأركان التي تعرف بها أسباب النزول
وبعد تعريف سبب النزول وشرحه تبين لي أنه يرتكز على أربعة أركان ينضبط باجتماعها، ويختلُّ باختلالها أو بعضها وهي:
أولاً: الحدث الجديد، فلا بد من تصورِ أمرٍ جديدٍ قد وقع سواءٌ أكان قولاً أم فعلاً، والغالب الكثير من الأسباب أن يقع ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إني لم أجد إلا ستة أسباب، كان الحدث فيها قبل البعثة ومع هذا فقد أنزل اللَّه بشأنها قرآناً.
والسبب في ذلك، - والله أعلم - أنها كانت تتجدد بعد رسالته صلى الله عليه وسلم إما سنوياً، وإما أقل من ذلك، فلما كانت تتجدد أصبحت كالحدث الجديد، وإليك الأسباب:
1 -
أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
فالحرج استمر حتى بعد الإسلام، ولهذا سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان كالحدث الجديد.
ب - أخرج البخاري ومسلم عن البراء رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا، لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبل بابه فكأنه عُيِّرَ بذلك فنزلت:(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
وفي رواية للبخاري والنَّسَائِي عنه رضي الله عنه قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
والدليل على تجدد الفعل هنا أن الآية نزلت عقب تعييره لما دخل البيت من بابه فدل على وقوعه في زمن الرسالة، بل بعد الهجرة لأنها نزلت في الأنصار.
جـ - أخرج مسلم والبخاري والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كانت الحمس لا يخرجون من مزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات. قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل اللَّه عز وجل فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من مزدلفة يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رجعوا إلى عرفات.
وفي رواية للشيخين عنها رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى:(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
وجه تجدد الفعل هنا: أن وقوفهم في مزدلفة استمر حتى حج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة فأمره اللَّه أن يأتي عرفات ثم يفيض منها.
د - أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أُطلقك فتبيني مني، ولا آويك
أبداً. قالت: وكيف ذاك؟ قال: أُطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن:(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ولم يكن طلق.
هـ - أخرج البخاري وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك.
فقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
…
) الآية، هذا النداء لم يقع لهم إلا بعد الرسالة لأنهم قبلها لم يكونوا من أهل الإيمان، ولو لم يكن هذا الفعل فيهم لكان نهيهم عنه لغواً ينزه عنه القرآن.
و أخرج مسلم والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول: من يعيرني تِطوَافاً؟ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
فما بدأ منه فلا أُحِلُّه
فنزلت هذه الآية: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وبما تقدم يمكن أن أقول: إن السبب المصطلح عليه ينقسم إلى قسمين من حيث النشأة:
الأول: أن ينشأ السبب سواء أكان فعلاً أم قولاً بعد الرسالة، وهذا الغالب.
الثاني: أن يكون السبب موجودًا قبل الرسالة لكنه يتجدد بعدها فيكون كالجديد أصلاً.
ثانياً: الموافقة بين اللفظين، لفظ الآية، ولفظ الحديث فلا بد أن يكون
بينهما قدر مشترك في الألفاظ والمعاني، ولهذا يقال: السؤال معاد في الجواب وذلك لما بينهما من الصلة، فالسؤال سبب الجواب، وكذلك الحديث سبب لنزول الآية، وإذا كان بينهما توافق في الألفاظ فلا بد أن يتوافقا في المعاني، وأسباب النزول مع الآيات تشهد بهذا.
ثالثاً: سياق الآيات وأعني به الآيات التي تسبق موضع النزول وتتبعه، فهذه الآيات لا بد أن تكون في موضوعها وخطابها غير مخالفة للسبب في أصله وخطابه فلو كان سياق الآيات في أهل الكتاب ما صح أن يكون السبب في آيةٍ منه نازلاً في المشركين وكذلك أصل الموضوع فلو كان السياق القرآني في موضوع يخالف موضوع السبب قطعنا بأنه ليس بينهما صلة، وإن كان الحديث صحيحًا صريحاً في النزول.
رابعاً: مراعاة التاريخ بين السبب والنزول، وقد لاحظت من تتبعي للأسباب أن السبب لا يتأخر عن النزول إلا لحكمة إلهية وفي أمثلة معروفة، فإذا وقعت المباعدة بينهما علمنا أنها ليست مما نحن فيه، وسواءٌ أكانت المباعدة الزمنية بين مكي ومدني أو بين المدني المتقدم أوائل الهجرة والمدني النازل في أواخرها.
هذه أركان السبب كما بدت لي فمن حفظها ورعاها فهو حري أن يصيب ولا يخطئ في تحديد السبب من غيره، ومن تركها وأهملها فقد أضاع المفتاح الذي يفتح بابها.
وثمَّ أمران آخران ليسا كهذه الأركان في المنزلة وإن كانا مؤثرين وهما: صحة الإسناد والتعبير بالنزول.
فأما صحة الحديث فهي قرينة قوية في صحة السبب وثبوته، ومع هذا فمراسيل التابعين الذين تلقوا التفسير عن كبار الصحابة كانت ولا زالت تحظى بالقبول من العلماء، والاحتجاج بها في المعاني والأسباب.
وأما التعبير بالنزول فلا ريب أنه ينفي التردد، وبجرئ القلب على الإقدام، والحكم بالسببية، فوجوده قرينة قوية في الدلالة على الأسباب، والله الموفق للصواب.