الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
39 -
قال الله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: لما انصرف المشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمدًا قتلتموه ولا الكواعب أردفتم وبئس ما صنعتم، ارجعوا فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد وبنو أبي عتبة فأنزل اللَّه تعالى:(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع، فأخذ أهُبَّةَ القتال والتجارة فلم يجدوا بها أحدًا وتسوقوا فأنزل اللَّه تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء عن عكرمة في سبب نزول قوله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) .. الآية وبهذا قال مجاهد أيضًا، لكن هذا مخالف لقول جمهور المفسرين وغيرهم من العلماء ولهذا قال ابن عطية:(وشذ مجاهد رحمه الله فقال: إن هذه الآية من قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى قوله (فَضْلٍ عَظِيمٍ) إنما نزلت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: نعم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشًا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وصمموا حتى
أتوا بدراً فلم يجدوا عدواً ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أُدما وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيداً وربحوا في تجارتهم فذلك قوله تعالى: (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) أي فضل في تلك التجارة، والصواب ما قاله الجمهور أن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد) اهـ.
وقال القرطبي: (وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا: إن هذه الآية من قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى قوله (عَظِيمٍ) إنما نزلت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى) ثم ذكر ما تقدم عن ابن عطية.
وقد ساق ابن القيم رحمه الله ما جرى سياقًا جميلاً مرتبًا فقال: (ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال فشق ذلك عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن هم جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأُناجزنّهم فيها). قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: موعدكبم الموسمُ ببدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا نعم قد فعلنا) قال أبو سفيان: (فذلكم الموعد) ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكتهم وحدَّهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال:(لا يخرج معنا إلا من شهد القتال) فقال له عبد اللَّه بن أبي: أركب معك؟ قال: (لا) فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعًا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد اللَّه وقال: يا رسول اللَّه إني أحب ألا تشهد مشهدًا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على
بناته فأذن لي أسيرُ معك فأذن له فسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد) وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه، قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله. وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال: ما أُرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأَكَمَة. فقال أبو سفيان: واللَّه لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة، فقال: هل لك أن تبلِّغ محمدًا رسالة، وأُوقر لك راحلتك زبيبًا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمدًا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا:(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174).
فتبين بما ذكره ابن عطية والقرطبي، شذوذ ما ذكراه عن مجاهد وعكرمة رحمهما اللَّه تعالى، من أن السبب خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى.
وتبين بما ذكره ابن القيم أن ذلك حصل عند خروجهم إلى حمراء الأسد، وإن كان قد ذكر أن أبا سفيان قد ناداهم فقال: موعدكم الموسم ببدر، وهو ما ذكره عكرمة أيضًا في الحديث الذي معنا، لكن عكرمة جعله سبب النزول، وابن القيم وغيره جعلوه موعداً، وسبب النزول خروجهم إلى حمراء الأسد. واللَّه أعلم.
فإن قيل: ما الدليل الصحيح على هذا الترجيح؟
فالجواب: أن الدليل ما تقدم في حديث عائشة عند البخاري في استجابتهم لِلَّهِ والرسول وسياق الآيات واحد لا يختلف في خروجهم ثم تخويفهم ثم توكلهم على الله ثم انقلابهم بالنعمة والفضل.
* النتيجة:
أن الآية الكريمة نزلت لما استجابوا وخرجوا للقتال بعد تحذيرهم وتخويفهم منه فلم يفت ذلك في عزيمتهم بل زادهم إيمانًا بتوكلهم على الله وكانت العاقبة السارة لهم حيث انقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء بل واتبعوا رضوان الله واللَّه عظيم الفضل والإحسان حيث قادهم إلى مواقع فضله ورحمته في خروجهم إلى حمراء الأسد، وإنما اخترت هذا لدلالة السياق القرآني عليه والموافقة بين تاريخ النزول وزمن القصة. واللَّه أعلم.
* * * * *