المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيفوائد معرفة أسباب النزول - المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة - جـ ١

[خالد المزيني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ أهمية الموضوع:

- ‌ أسباب اختيار الموضوع:

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ خطة البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأولمكانة أسباب النزول وأهميتها

- ‌المبحث الثانيفوائد معرفة أسباب النزول

- ‌المبحث الثالثنشأة علم أسباب النزول

- ‌المبحث الرابعمصادر أسباب النزول

- ‌ المصدر الأول: كتب السنة:

- ‌1 - الموطأ للإمام مالك

- ‌2 - مسند الإمام أحمد بن حنبل

- ‌3 - المسند الجامع للدارمي

- ‌4 - صحيح البخاري

- ‌5 - صحيح مسلم

- ‌6 - سنن أبي داود:

- ‌7 - سنن الترمذي:

- ‌8 - سنن النَّسَائِي

- ‌9 - سنن ابن ماجه:

- ‌ المصدر الثاني: كتب التفسير:

- ‌1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري:

- ‌2 - تفسير ابن أبي حاتم:

- ‌3 - تفسير الثعلبي:

- ‌4 - تفسير البغوي:

- ‌5 - تفسير ابن كثير:

- ‌6 - الدر المنثور للسيوطي:

- ‌ ثالثاً: المصادر المستقلة:

- ‌1 - أسباب النزول للواحدي:

- ‌2 - لباب النقول في أسباب النزول:

- ‌المبحث الخامسبواعث الخطأ في أسباب النزول

- ‌قواعد في أسباب النزول وضوابط الترجيح فيها

- ‌الفصل الأولقواعد في أسباب النزول

- ‌المبحث الأولتعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء

- ‌سبب النزول في الاصطلاح

- ‌الأركان التي تعرف بها أسباب النزول

- ‌المبحث الثانيأسباب النزول من حيث صيغتها

- ‌المبحث الثالثتعدد النازل والسبب واحد

- ‌المبحث الرابعتعدد السبب والنازل واحد

- ‌المبحث الخامسعموم اللفظ وخصوص السبب

- ‌المبحث السادستكرر النزول

- ‌الفصل الثانيضوابط الترجيح في أسباب النزول

- ‌المبحث الأولالترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف

- ‌المبحث الثانيالترجيح بتقديم السبب الموافق لِلفظ الآية على غيره

- ‌المبحث الثالثالترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره

- ‌المبحث الرابعالترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه

- ‌المبحث الخامسالترجيح بدلالة السياق القرآني

- ‌المبحث السادسالترجيح بدلالة الوقائع التاريخية

- ‌سُورَةُ البَقَرَة

- ‌(97)

- ‌(115)

- ‌(125)

- ‌(142)

- ‌(143)

- ‌(144)

- ‌(158)

- ‌(187)

- ‌(189)

- ‌(195)

- ‌(196)

- ‌(197)

- ‌(198)

- ‌(199)

- ‌(219)

- ‌(220)

- ‌(222)

- ‌(223)

- ‌(228)

- ‌(229)

- ‌(231)

- ‌(232)

- ‌(238)

- ‌(256)

- ‌(267)

- ‌(272)

- ‌(284)

- ‌(285)

- ‌(286)

- ‌سورة آل عمران

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(77)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(122)

- ‌(128)

- ‌(161)

- ‌(165)

- ‌(169)

- ‌(172)

- ‌(174)

- ‌(186)

- ‌(188)

- ‌(195)

- ‌(199)

- ‌سورة النساء

- ‌(3)

- ‌(6)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(19)

- ‌(24)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(43)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(59)

- ‌(65)

- ‌(77)

- ‌(83)

- ‌(88)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(95)

- ‌(97)

- ‌(102)

- ‌(105)

- ‌(127)

- ‌(128)

- ‌(176)

- ‌سورة المائدة

- ‌6

- ‌(33)

- ‌(39)

- ‌(41)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(90)

- ‌(91)

- ‌(93)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(106)

- ‌(107)

- ‌(108)

- ‌سورة الأنعام

- ‌(33)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(118)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(121)

- ‌(160)

- ‌سورة الأعراف

- ‌(31)

- ‌(175)

- ‌سورة الأنفال

- ‌(1)

- ‌(9)

- ‌(19)

- ‌(30)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(34)

- ‌(66)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌سورة التوبة

- ‌(19)

- ‌(34)

- ‌(58)

- ‌(79)

- ‌(84)

- ‌(85)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(108)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(117)

- ‌(118)

- ‌(119)

الفصل: ‌المبحث الثانيفوائد معرفة أسباب النزول

‌المبحث الثاني

فوائد معرفة أسباب النزول

لمعرفة أسباب النزول فوائد عديدة تناول ذكرها طائفة من العلماء المحققين أوجزها في الآتي:

الفائدة الأولى: أن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية.

قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها). اهـ.

وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن (21). اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رُجع إلى سبب يمينه، وما هيجها وأثارها). اهـ.

وقال الشاطبي مقرراً هذا المعنى: (إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب

ص: 26

حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال). اهـ.

ومن آيات القرآن التي كان لسبب النزول أثر في فهم معناها ما يلي: -

1 -

أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت وأنه صلى أو صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، قال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبل مكة فداروا كما هم قِبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قِبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللَّه:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)، فسبب النزول بيّن أن المراد بالإيمان هنا الصلاة، وليس الإقرار والاعتراف المتضمن للقبول والإذعان، ولولا سبب النزول ما كنا لِنقف على المعنى الصحيح للآية.

2 -

أخرج البخاري ومسلم عن البراء رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا، لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قِبَل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت:(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا). فسبب النزول بيَّن أن المراد بالإتيان هو الدخول

ص: 27

وليس مجرد المجيء، كما أفاد أن المراد بالبيوت بيوتهم وليست بيوتَ غيرهم، ولولا وجود سبب النزول ما تبين هذان المعنيان من لفظ الآية المجرد.

3 -

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) قالت: هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها، ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء. فسبب النزول هنا بيَّن الصلة في الآية بين الأمر بالقسط في اليتامى، وبين نكاح ما طاب من النساء، ولولا وجود السبب لم تتبين الصلة.

الفائدة الثانية: أن العلم بسبب النزول يرفع الإشكال، ويحسم النزاع قال الشاطبي: (إن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشُّبه والإشكالات، ومُورِد للنصوص الظاهرة مُورَد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي. قال: خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، فقال ابن عبَّاسٍ: يا أمير المؤمنين إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن، ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فماذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عبَّاسٍ، ونظر عمر فيما قال، فعرفه فأرسل إليه، فقال: أعد عليَّ ما قلت، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه، وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.

فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعًا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟

قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عبَّاسٍ عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.

ص: 28

ثم ذكر أمثلة حتى انتهى إلى قوله: وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فُقد ذكر السبب، لم يُعرف من المنزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات.

وقد قال ابن مسعود في خطبة خطبها: واللَّه لقد علم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب اللَّه، وقال في حديث آخر: والذي لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب اللَّه إلا أنا أعلم أين أُنزلت؟ ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أُنزلت؟ ولو أعلم أحداً أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه.

وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالماً بالقرآن.

وعن الحسن أنه قال: ما أنزل اللَّه آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيم أُنزلت وما أراد بها؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب). اهـ باختصار.

ومن آيات القرآن التي كان لسبب النزول أثر في دفع الإشكال عنها ما يلي:

1 -

أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة رضي الله عنها أرأيت قول اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قُديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل اللَّه تعالى:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).

ص: 29

فسبب النزول هنا دفع الإشكال الذي وقع في نفس عروة حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبًا فبينت له أم المؤمنين رضي الله عنها أن الآية إنما أُنزلت لرفع الحرج عمن امتنع من السعي بينهما، بسبب ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والله أعلم.

2 -

أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.

فسبب النزول هنا بيَّن أن الأمر ليس كما ظنه مروان، بل الآية نزلت بسبب اليهود حين كتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألهم عنه، وأخبروه بغيره وفرحوا بكتمانهم إياه ما سألهم عنه، واللَّه أعلم.

3 -

أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي، ألا إن الخمر قد حُرِّمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قُتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا).

فمعنى هذه الآية أشكل على قدامة بن مظعون رضي الله عنه حيث فهم منها جواز شرب الخمر قال الشاطبي:

(وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟

ص: 30

قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، قال: واللَّه لو شربتُ كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال: لأن اللَّه يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ) فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اللَّه اجتنبت ما حرم الله، وفي رواية فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب اللَّه. فقال عمر: وأيَّ كتاب اللَّه تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن اللَّه يقول في كتابه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

) الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأُحداً، والخندق، والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عبَّاسٍ: إن هؤلاء الآيات أُنزلن عذراً للماضين، وحجةً على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا اللَّه قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجةً على الباقين لأن الله يقول:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا فإن اللَّه قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت). اهـ.

فقدامة بن مظعون رضي الله عنه لما جهل سبب نزول الآية استدل بها على جواز شرب الخمر فوقع في الإشكال، والصحابة رضي الله عنهم لعلمهم بسبب النزول أبطلوا استدلاله بالآية على شرب الخمر.

الفائدة الثالثة: أن معرفة سبب النزول تبين الحكمة الداعية إلى تشريع الحكم.

ص: 31

قال الزركشي: (وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته - يعني العلم بأسباب النزول - لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد:

منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم). اهـ.

قال الزرقاني مبينًا فائدة العلم بحكمة التشريع: (وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام اللَّه، والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام، ومن أجلها جاء هذا التنزيل، وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفًا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان، لا على الاستبداد، والتحكم، والطغيان؛ خصوصًا إذا لاحظ سيرَ ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدًا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه). اهـ.

ومن الأمثلة التي يبين فيها السببُ الحكمة الداعية إلى تشريع الأحكام ما يلي:

ص: 32

1 -

أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مختفٍ بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).

فالآية خلت من ذكر الحكمة الداعية إلى التشريع، بينما السبب نص عليها، وهي كف المشركين عن سب القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به.

2 -

أخرج مسلم وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أنه سُئل عن المتلاعنين أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله نعم إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال: يا رسول اللَّه أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك

الحديث.

فآيات اللعان خلت من ذكر الحكمة الداعية إلى التشريع، لكن السبب بيّنها، ذلك أن الزوج هنا بيْن أمرين أحلاهما مرّ، فإن تكلم فحد القذف أمامه، وإن سكت سكت على أمر عظيم كما قال. ولن يطيق هذا مؤمن فكانت مشروعيةُ اللعان مخرجاً من حد القذف، أو السكوت على الريبة، واللَّه أعلم.

3 -

أخرج مسلم وأحمد والبخاري عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه، لم

ص: 33

يؤذن لأحد منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأُذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا حوله نساؤه، واجمًا، ساكتًا، قال: لأقولن شيئًا أُضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:(هن حولي كما ترى يسألنني النفقة)، فقام أبو بكر لعائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فقلن: واللَّه لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرًا ثم نزلت عليه هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) - حتى بلغ (أَجْرًا عَظِيمًا).

فسبب النزول بيَّن الحكمة الباعثة على تخييرهن بهذه الآية، وهي سؤالهن النفقة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أما الآية فلم تتناول الحكمة بالحديث عنها، والله أعلم.

الفائدة الرابعة: أن يخصص الحكم بالسبب الذي نزل من أجله.

قال الزركشي: (ومنها: تخصيص الحكم به - أي بالسبب - عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب). اهـ.

وتخصيص الحكم بالسبب لا ينافي العموم، لكنّ القائلين به يقولون: أخذنا ذلك العموم من القياس، أي قياس الحوادث المشابهة على الحوادث الواقعة في العهد النبوي، ولم نأخذ العموم من طريق اللفظ العام؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه، وكل سبب نزول يصح أن يكون مثالاً لهذا عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.

الفائدة الخامسة: دفع توهم الحصر.

قال الزركشي: (قال الشافعي في معنى قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا

) الآية: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم اللَّه، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلاً

ص: 34

منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض: المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهل لغير اللَّه به، ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل). اهـ.

الفائدة السادسة: بيان أخصية السبب بالحكم.

قال الطوفي: (أي أن السبب أخص بالحكم من غيره من صوره لأن اللفظ ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعًا به فيه فيمتنع تخصيصه بالاجتهاد). اهـ بتصرف.

الفائدة السابعة: معرفة التاريخ.

قال الطوفي: (معرفة تاريخ الحكم بمعرفة سببه، مثل أن يقال: قذف هلال بن أمية امرأته في سنة كذا فنزلت آية اللعان فيعرف تاريخها بذلك، وفي معرفة التاريخ فائدة معرفة الناسخ من المنسوخ). اهـ.

الفائدة الثامنة: قال الطوفي: (ومنها توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيكثر ثواب المصنفين، كالذين صنفوا أسباب نزول القرآن، والمجتهدين بسعة محل اجتهادهم). اهـ.

الفائدة التاسعة: التأسي والاقتداء بما وقع للسلف من حوادث في الصبر على المكاره واحتمال الأقدار المؤلمة.

قال الطوفي: (ومنها: التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم، فيخف حكم المكاره على الناس، كمن زنت زوجته فلاعنها، فهو يتأسى بما جرى لهلال بن أُمية، وعويمر العجلاني في ذلك، ويقول: هؤلاء خير مني، وقد جرى لهم هذا فلي أُسوة بهم). اهـ.

الفائدة العاشرة: تعيين المبهم.

قال السيوطي: (ومنها معرفة اسم النازل فيه الآية وتعيين المبهم فيها). اهـ.

ص: 35

قال الزرقاني: (معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأُ المريب). اهـ.

وسأذكر بعض الأمثلة الدالة على هذا فأقول:

1 -

أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا

)، فقد فسر السفهاء هنا بأنهم اليهود.

2 -

أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: ألا ترى إلى هذا المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا؟

قال: أنتم خير منه فنزلت: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51).

3 -

أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل اللَّه فينا شيئاً من القرآن إلا أن اللَّه أنزل عذري).

الفائدة الحادية عشر: تيسير الفهم والحفظ.

قال الزرقاني: (تيسير الحفظ وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات،

ص: 36

والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء، وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها فى الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس). اهـ.

هذه أبرز الفوائد الناشئة عن معرفة أسباب النزول، وأهمها الثلاثة الأول، واللَّه أعلم.

* * *

ص: 37