الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
تعدد السبب والنازل واحد
المراد هنا أن تتعدد الأسباب ويكون النازل آيةً أو آيات في موضع واحد، وقد ذكر المؤلفون في أسباب النزول، وعلوم القرآن عددا من الأمثلة على ذلك، لكنها لا تخلو من مقال. ولا تسلم من نقد، سيما أن هذه الأمثلة مكررة ينقلها اللاحق عن السابق.
وسأذكر هنا الأمثلة التي تبينت لي بعد دراستي لأسباب النزول:
1 -
قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).
أخرج البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي رضي الله عنه فنزلت هذه الآية:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحًا شديداً، ونزلت:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
وأخرج البخاري أيضاً عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله:(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
فالسبب تعدد هنا وهو الجوع والجهد، مع خيانة بعضهم أنفسهم في إتيان النساء مع أن النازل واحد.
ب - قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189).
أخرج البخاري ومسلم عن البراء رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكانه عُيِّر بذلك فنزلت:(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
فالآية نزلت على سببين:
أحدهما: سؤالهم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، وجواب اللَّه لهم.
الثاني: دخولهم لبيوتهم من ظهورها حال إحرامهم، فبين اللَّه أن ذلك ليس من البر.
جـ - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43).
أخرج أبو داود والترمذي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمهم عليٌّ في المغرب فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فخلط فيها فنزلت: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ).
وأخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واضعٌ رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل اللَّه آية التيمم فتيمموا فقال أُسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
فهذان سببان نزلت الآية بشأنهما، وهما الصلاة حال السكر، والتيمم عند عدم الماء.
د - قال اللَّه تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
…
) إلى آخر السورة.
هذه السورة نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية كما دلت على ذلك الأحاديث، وأقوال المفسرين، وقد تناولت عدداً من القضايا كانت سبباً لنزول بعض مقاطعها ومن ذلك:
مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال حين أُشيع أن عثمان قد قتل فكان ذلك سببًا لنزول قول اللَّه تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
…
) الآية.
ومن ذلك: كف اللَّه أيدي المشركين عن المؤمنين حين همت طائفة منهم بالعدوان عليهم فأنزل اللَّه: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).
إلى غير ذلك من الأسباب المتعددة التي تناولتها السورة بالحديث عنها واللَّه أعلم.
وهكذا نجد أنه بالإمكان أن تتعدد الأسباب وينزل في ذلك آية واحدة أو آيات متعددة في موضع واحد وليس ثمةَ ما يمنع من ذلك.
* * *