الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول في الاصطلاح
من منهج العلماء في مؤلفاتهم وضع التعريفات لبعض المصطلحات العلمية، لأن التعريفات حدود تدل على الشيء، وتمنع غيره من الدخول فيه، ومن الطبيعي أن يكون لسبب النزول حدود وضوابط، يُعرف بها السبب، ويتميز عن غيره سيما إذا أدركنا أن أسباب النزول نشأت مع نزول القرآن.
ومن الملفت للنظر أنه لا يوجد تعريف واضح لهذا المصطلح عند المتقدمين، ولعل هذا يعود إلى عدم عنايتهم بالدراسات النظرية لعلم أسباب النزول فقد كان همهم منصبًّا على ذكر الأحاديث وتطريقها شأنهم شأن المؤلفين في تلك العصور.
ونظرًا لهذا فإني سأذكر هنا بعض التعريفات المتداولة في كتب المتأخرين ثم ما ترجح لديَّ في تعريف سبب النزول، ثم أقوم بشرحه مع التمثيل مستغنيًا بذلك عن الاستدراك المباشر على هذه التعريفات.
ولعل أقرب من عرف سبب النزول - فيما أعلم - هو السيوطي حيث قال: (والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه). اهـ.
وقال الزرقاني: (سبب النزول هو ما نزلت الآية، أو الآيات متحدثةً عنه، أو مبينة لحكمه أيام وقوعه). اهـ.
وقال القطان: (ولذا نعرف سبب النزول بما يأتي: هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال). اهـ.
أما التعريف الذي خلصت إليه بعد التتبع والاستقراء فهو:
(كل قول أو فعل نزل بشأنه قرآن عند وقوعه.
وإنما اخترت التعبير عن السبب: بالقول والفعل لأن أعمال المكلفين لا تعدو ثلاثة: النية والقول والفعل.
فالنية المجردة عن معمولها لا يترتب عليها أثرها، ولهذا لا صلة لها بأسباب النزول ولا بغيرها من سائر الأحكام.
فلم يبق إلا الأقوال والأفعال، وهذان يتناولان جميع أحوال المرء الظاهرة، وعليها يترتب الأثر في الدنيا والآخرة.
وقولي: (كل قول): هذا يتناول السؤال، والدعاء، والتعجب، والعرض، والتمني والخبر، والطلب، وغير ذلك.
وسواءً أكان ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم من أصحابه أم من المنافقين، أم من اليهود، أم من المشركين.
ولم أرَ من نبّه إلى أن قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو قول الشهداء، أو قول الجن يكون سبباً لنزول الآية مع وجود الأدلة على ذلك.
بل من كتب في هذا إنما يذكر سؤالاً وجهه أحد الحاضرين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية مع أن الأسئلة لا تمثل إلا نسبة يسيرة من الأقوال.
وقولي: (أو فعلٍ) أي كل فعل، ويتناول ذلك الأفعال في العبادات والعادات والمعاملات في السفر والحضر، والسلم والحرب، والأمن والخوف.
وسواءٌ أكان ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم من أصحابه أم من
المنافقين، أم من اليهود، أم من المشركين.
وأول من وقفت على قوله في إشارة إلى أن فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد يكون سبباً للنزول هو الرومي حيث قال: (والحادثة التي ينزل القرآن لأجلها قد تكون من الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث في سبب نزول عبس
…
).
وقولي: (نزل) احترازاً من المتلو والمقروءِ، فلو قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية عند حدث ما، لما كان هذا من أسباب النزول، بل كان هذا من باب الاستشهاد بالآية على الحدث.
مثاله ما روى الشيخان عن علي بن أبي طالب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمةَ بنت النبي عليه الصلاة والسلام ليلةً، فقال:(ألا تصليان) فقلت: يا رسول اللَّه، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مولٍ، يضرب فخذه وهو يقول:(وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).
وقولي: (بشأنه) أي بسببه ولأجله، وقد اقتضت حكمة اللَّه البالغة ربط الأسباب بالمسبَبَات، ورتب على وجودها أثرها، فمن الآيات ما لا ينزل من السماء حتى يقع السبب في الأرض، ومنها ما ليس له سبب حاضر، فليس النزول موقوفاً على السبب دوماً، بل يكون أحياناً به، وأحيانًا أخرى بغيره وهذا أكثر.
وقولي: (قرآن) هذا يتناول السورة وبعضها، والآية وبعضها، وسواءٌ أكان
النازل مستقلاً بالمعنى، كما في أكثر الآيات النازلة، أو لا يستقل بالمعنى كقوله تعالى:(مِنَ الْفَجْرِ) ضمن قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وقوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ضمن قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، فإن هذا يتناوله لفظ القرآن.
وقولي: (عند وقوعه) وجه التعبير ب (عند) لأمرين:
الأول: أنها تدل على الزمن والدليل على هذا ما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
ومثله ما روى البخاري عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: ما ترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند وفاته درهماً، ولا دينارًا، ولا عبداً، ولا أَمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة.
الثاني: أنها تدل على المقاربة لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
ومثله ما روى البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال ومن بلغت صدقتُه بنتَ لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل
منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين).
وبهذه الأمثلة تتبين دلالة (عند) على الزمن والمقاربة كما قاله ابن هشام والذي دعاني لاستعمال الظرف الدال على المقاربة دون التحديد أن لديَّ سببين تأخر النزول فيهما وهما قصة الإفك في أم المؤمنين رضي الله عنها حيث تأخر نزول براءتها شهراً، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم حيث تخلفوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في خروجه إلى غزوة تبوك فأرجأ اللَّه التوبة عليهم خمسين ليلةً.
ولو عبرتُ بقولهم: زمن وقوعه، أو أيام وقوعه فربما فُهم من هذا المبادرة والمباشرة وهذا ما لا أُريده ولا أَعنيه.
فالمقاربة المستفادة من الظرف نسبية فمن الآيات ما قرب نزوله من سببه كثيراً ومنها ما بَعُدَ قليلاً ومنها ما بين ذلك.
وسأذكر بعض الأمثلة الدالة على التفاوت في زمن النزول على سبيل الاختصار.
فمن الآيات التي نزلت مباشرة: -
1 -
قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فما فرغ ابن أم مكتوم من شكايته حتى نزل الوحي، وإن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه.
2 -
آية الروح، فما فرغ اليهود من السؤال حتى نزل قوله تعالى:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
ومن الآيات التي تأخر نزولها يسيراً: -
1 -
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على أحد من المنافقين بعد صلاته على ابن أُبي.
2 -
قضية نزول الحجاب، ومكثهم في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتحدثون حتى أحرجوه فأنزل اللَّه الآية.
ومن الآيات التي تأخر نزولها كثيراً: قضية الإفك، وكعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.
ومن الأسباب ما يكون زمن نزوله بين ذلك وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية واللَّه أعلم.
* * *