الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف
عناية العلماء بأسباب نزول القرآن خاصةً تبعٌ لعنايتهم بمباحث السنّة النبوية عامة، ذلك أن أسباب النزول أحاديث وقعت في العصر النبوي فنزل القرآن بسببها، وحينئذٍ يكون شأنها كشأن سائر الأحاديث سواء بسواء.
ومن صور ذلك: العناية بدراسة أسانيدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وقد بذل العلماء لأجل ذلك جهوداً مضنية عظيمة، وأوقاتاً ثمينةً من أعمارهم وألّفوا المؤلفات المختصرة والمطولة في التاريخ، والطبقات، والجرح والتعديل، وارتحلوا لأجل ذلك شرقاً وغرباً، طلباً للحديث، تحملاً وأداءً، سماعاً وإسماعاً، ووضعوا الأسانيد، وقعّدوا القواعد التي لم يجرِ لها نظير في التاريخ، كل ذلك وغيره طلباً لحفظ سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وصيانة لها من الضعيف والدخيل.
وكانت نتيجة ذلك إعمالَ تلك القواعد في النصوص الشرعية، وتطبيقها عليها، وصولاً إلى خلاصة ذلك وهي معرفة أحكام اللَّه على المكلفين.
ولئن كان هذا هو الأصل في الموضوع، فإن نظرةً في مناهج المحدثين تنبئك بأن هذا ليس مطرداً دوماً، إذ اعتمد العلماء أحاديث ضعيفة في الأحكام، ورتبوا عليها القول بالحلال والحرام.
ومثلهم المفسرون فاستدلالهم بالأحاديث والآثار الضعيفة في إثبات المعاني، وأسباب النزول لا يخفى على من نظر فيه.
ولعل سبب سلوكهم هذا المنهج مع الأحاديث والآثار الضعيفة نظراً منهم، ومراعاةً لما يحتف بها من قرائن الترجيح المتعددة.
وقد شجعني هذا على الاعتقاد بأن بعض الأحاديث التي تناولتها بالبحث
والدراسة، وإن كانت ضعيفةً في أسانيدها إلا أنها صالحة لأن تكون أسباب نزول، للقرائن التي تؤيدها كمطابقتها لِلفظ الآية، وسياق القرآن وأقوال المفسرين، وتعدد مخارج الحديث وشواهده.
وسأذكر من أقوال العلماء ما يدل على أن صحة الإسناد ليست شرطاً ثابتًا لقبول الحديث والاحتجاج به، بل إذا احتف به ما يقويه كان ذلك كافيًا في قبوله، والاعتماد عليه.
وقال الزركشي: وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول أو آية من كتاب اللَّه تعالى فيحمله ذلك على قبول الحديث، والعمل به، واعتقاد صحته، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب اللَّه تعالى وسائر أصول الشريعة.
قال ابن حجر: (وقد صرح أبو الحسن بن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب بأن هذا القسم - يعني الضعيف والمنقطع - لا يحتج به كله، بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن، وهذا حسن قوي رايق ما أظن منصفاً يأباه واللَّه الموفق).
وقال بعده بيسير: (والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل). اهـ بتصرف يسير.
وقال اللكنوي: (قال أبو الحسن بن الحضّار المالكي: قد يعلم الفقيه صحة الحديث - إذا لم يكن في سنده كذاب - بموافقة آية من كتاب اللَّه، أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به). اهـ.
ونقل عن السيوطي أنه اختار ذلك فقال: (المقبول ما تلقاه العلماء بالقبول، أو اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم، أو وافق آية من القرآن،
أو بعض أصول الشريعة، حيث لم يكن في سنده كذاب على ما ذكره ابن الحصار). اهـ باختصار.
وقد نقل اللكنوي نصوصًا كثيرة عن العلماء في هذا الباب تدل على ما تقدم، ولا ريب أن هذا يوجب للقلب طمأنينة وراحة في سلوك هذا المسلك والركون إليه.
ومع هذا فلا يعني الكلام المتقدم إهمال صحة الإسناد، وعدم اعتباره، بل إذا اجتمعت ضوابط الترجيح مع صحة الإسناد كان الحديث هو المقدم في سبب النزول.
وسأذكر من أقوال العلماء ما يبين رعايتهم لصحة الإسناد في إثبات الأسباب: -
أولاً: البغوي ففي نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ
…
) الآية. ذكر حديث البراء عند مسلم في قضية اليهودي الذي زنى، ثم ذكر قضية القبيلتين من اليهود وحال الدية بينهما فقال:(والأول أصح لأن الآية في الرجم).
ثانياً: ابن العربي ففي نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
…
) الآية.
فقد ذكر ابن العربي ستة أسباب لنزول الآية ثم قال: (هذه الروايات ضعيفة إلا الأولى - يعني بها قصة زينب - والسادسة - يعني بها حديث أنس عن عمر في موافقته لله). اهـ.
ثالثاً: ابن كثير ففي قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
…
) الآية.
لما ذكر حديث خباب رضي الله عنه قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي،
وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدًا في ناسٍ من أصحابه
…
الحديث.
قال ابن كثير: (وهذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر). اهـ.
رابعاً: ابن حجر العسقلاني ففي قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (قال: وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي ثم ساق حديث ابن عبَّاسٍ
…
ثم قال: ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح).
وسأذكر أمثلة تناولتها بالدراسة يتبين فيها ترجيح الصحيح على الضعيف.
1 -
قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94).
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) قال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، فأخذوا غنيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله:(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تلك الغنيمة.
فهذا الحديث هو سبب نزول الآية لصحة إسناده وليس ما رواه أحمد من حديث عبد اللَّه بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى إِضَم فخرجت في نفر من المسلمين
…
الحديث.
فإن هذا الحديث ضعيف لا يقارب حديث ابن عبَّاسٍ في صحة الإسناد.
2 -
قال الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128).
أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة رضي الله عنها: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) قالت: الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلٍ فنزلت هذه الآية في ذلك.
فهذا الحديث هو سبب نزولها لصحة سنده وليس ما رواه الترمذي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. فهذا الحديث ضعيف لا يحتج به. والله أعلم.
3 -
قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102).
فقد أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً) قال: فما أتى على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أشدُّ منه، قال: غطوا رؤوسهم ولهم حنين قال: فقام عمر فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً، قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: (أبوك فلان) فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
فهذا الحديث هو سبب نزول الآية لصحة سنده، وليس سببها ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (وَللَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قالوا: يا رسول اللَّه، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت. قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: (لا، ولو قلت نعم لوجبت) فأنزل اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). فإن هذا الحديث ضعيف لا يقارب حديث أنس في الصحة.
4 -
قال اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1).
أخرج أبو داود والنَّسَائِي من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم بدر من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح اللَّه عليهم قال المشيخة: كنا ردءاً لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنا فأنزل اللَّه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
…
) الآية.
فهذا الحديث هو سبب نزولها لصحة سنده وليس سببها ما أخرجه أحمد عن عبادة بن الصامت فهذا ضعيف لا يثبت كما قاله البخاري رحمه الله.
5 -
قال اللَّه تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
…
الآية.
وقد أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن المسيب رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي طالب:(يا عمِّ قل لا إله إلا اللَّه كلمةً أشهد لك بها عند اللَّه) فقال أبو جهل وعبد اللَّه بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا اللَّه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله فيه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
…
) الآية.
فهذا الحديث هو سبب نزول الآية لصحة إسناده، وليس ما رواه أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أوَلم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) - إلى قوله -: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) قال: لما مات، فهذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على النزول لضعف إسناده.
* * *