الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
(158)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 -
أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئًا أن لا يطوف بهما؟. فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قُدَيْدٍ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) زاد سفيان وأبو معاوية عن هشام: ما أتم اللَّه حج امرئ ولا
عمرته لم يطف بين الصفا والمروة.
وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يُهلُّ لمناة، ومناةُ صنم بين مكة والمدينة قالوا: يا نبي اللَّه كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة.
ولمسلم عنها رضي الله عنها قالت: إنما أُنزل هذا في أُناس من الأنصار كانوا إذا أَهلّوا أهلّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له فأنزل الله هذه الآية.
ولمسلم عنها رضي الله عنها أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة وإنهم سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن
ذلك حين أسلموا فأنزل اللَّه في ذلك: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ .. ).
فمن خلال الروايات المتقدمة يتبين أن سبب امتناعهم من السعي بين الصفا والمروة هو تعظيم مناة وطائفة أخرى كان امتناعها عن السعي بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية ودليلها.
2 -
ما أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللَّه: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) وللبخاري في رواية: سُئل أنس عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
وفي رواية لمسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع رجالاً من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية فأنزل اللَّه الآية، وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأن اللَّه ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر السعي بين الصفا والمروة.
3 -
ودليل ذلك ما أخرج البخاري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجال من أهل العلم: أن اللَّه تعالى لما ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول اللَّه! كنا نطوف بالصفا والمروة وإن اللَّه أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل اللَّه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ).
ولمسلم عنه قال: وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد جمهور المفسريين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزول الآية، وخلاصة هذه الروايات أن الآية أُنزلت لرفع الحرج عن المطوِّفين بين الصفا والمروة، وقد تعددت دوافع الحرج والامتناع حسبما أفادته الروايات:
فطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما تعظيماً لمناة.
وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية.
وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأن الله ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر السعي بينهما.
وعندي - والله أعلم - أنه يمكن ردُّ الدافع الأخير إلى سابقيه وجعله نتيجةً لهما وأثراً عنهما.
وبيان ذلك: أن يُقال إن الامتناع إما أن يكون تعظيماً لمناة وإما لأن الطواف بينهما من أمر الجاهلية وأئاً كان الدافع فإن القوم قد أحجموا عن الطواف بينهما حتى أنزل اللَّه قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فقالوا حينئذٍ: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
ومن خلال ما تقدم يبقى الدافع الأول وهو تعظيم مناة خالٍ من الاشتباه والالتباس والروايات فيه صريحة واضحة في الامتناع عن الطواف بين الصفا والمروة حيث جاء فيها:
بيان الحرج: (فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة).
نفي الوقوع وبيان العلة: (كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة).
نفي الحل: (كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة).
أن هذا الفعل قديم موروث: (وكان ذلك سنةً في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة).
أما الدافع الثاني للامتناع عن الطواف بينهما فلأنه من أمر الجاهلية كما حدّث أنس بذلك لما قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية.
وفي رواية: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية.
ولم يبين أنس رضي الله عنه كيف كانا من شعائر الجاهلية، لكن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يُقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية قالت: فأنزل اللَّه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) .. قالت: فطافوا.
لكن قال القاضي عياض: (هذا خطأ والصواب ما جاء في الروايات الأُخر في الباب (يهلون لمناة) وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط لجهة البحر) اهـ.
قلت: وقول القاضي مؤيد بما روى زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: (وكان صنمان من نحاس يُقال لهما إساف ونائلة فطاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وطفتُ معه فلما مررت مسحتُ به
…
الحديث).
فقول زيد: فلما مررت مسحت به يدل على أنهما في المسجد إذ لو كانا على شط البحر لم يتمكن من المسح بهما.
وأخرج الطبري عن الشعبي: أن وثنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إسافًا ووثنًا على المروة يسمى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل اللَّه إنهما من الشعائر.
وقال ابن كثير: يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم
…
بمفضي السيول من إساف ونائل
وبهذا التقرير يسلم الدافع الثاني من الاعتراض والرد فهل إلى الجمع بينهما من سبيل؟
الحافظ ابن حجر كأنه يميل إلى ترجيح رواية إساف ونائلة فقال بعد أن ذكر كلامًا، (فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية وتقدمها على رواية غيره) اهـ.
وتارةً أخرى جعل المسألة محتملة فقال: (ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين: منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهري أي (بسبب تعظيم مناة) واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعًا من أفعال الجاهلية فيجمع بين الروايتين بهذا) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن ما ذكره الحافظ احتمالاً هو المتعين لأنه يقتضي الجمع بين النصوص، ولا ريب أن إعمال الدليلين أولى من تعطيل أحدهما.
ثم إن ترك الطواف بينهما تعظيمًا لمناة رواتها أكثر وأشهر وأصح فكيف تترك ويقدم عليها غيرها.
وفي الروايات ما يدل على الجمع بينهما: وجه ذلك أن أنساً رضي الله عنه لما قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية، مع أن أنساً أنصاري، فليس كل الأنصار يدعون السعي بينهما تعظيمًا لمناة بل منهم من كان يفعل ذلك ومنهم من يرى أنهما من شعائر الجاهلية بسبب الصنمين عليهما وبهذا يتحقق الجمع بينهما واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الآية نزلت لرفع الحرج عن المطوفين بين الصفا والمروة لأن بعضهم كان قد امتنع عن السعي بينهما تعظيماً لمناة وبعضهم كان سبب امتناعه أنهما من شعائر الجاهلية لوجود الصنمين عليهما، فنزلت الآية إذناً من الله بالسعي بينهما. وإخباراً أنهما من شعائر اللَّه. وذلك لصحة أسانيد الأحاديث الواردة، وتصريحها بالنزول، واحتجاج المفسرين بها واللَّه أعلم.
* * * * *