المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامسعموم اللفظ وخصوص السبب - المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة - جـ ١

[خالد المزيني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ أهمية الموضوع:

- ‌ أسباب اختيار الموضوع:

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ خطة البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأولمكانة أسباب النزول وأهميتها

- ‌المبحث الثانيفوائد معرفة أسباب النزول

- ‌المبحث الثالثنشأة علم أسباب النزول

- ‌المبحث الرابعمصادر أسباب النزول

- ‌ المصدر الأول: كتب السنة:

- ‌1 - الموطأ للإمام مالك

- ‌2 - مسند الإمام أحمد بن حنبل

- ‌3 - المسند الجامع للدارمي

- ‌4 - صحيح البخاري

- ‌5 - صحيح مسلم

- ‌6 - سنن أبي داود:

- ‌7 - سنن الترمذي:

- ‌8 - سنن النَّسَائِي

- ‌9 - سنن ابن ماجه:

- ‌ المصدر الثاني: كتب التفسير:

- ‌1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري:

- ‌2 - تفسير ابن أبي حاتم:

- ‌3 - تفسير الثعلبي:

- ‌4 - تفسير البغوي:

- ‌5 - تفسير ابن كثير:

- ‌6 - الدر المنثور للسيوطي:

- ‌ ثالثاً: المصادر المستقلة:

- ‌1 - أسباب النزول للواحدي:

- ‌2 - لباب النقول في أسباب النزول:

- ‌المبحث الخامسبواعث الخطأ في أسباب النزول

- ‌قواعد في أسباب النزول وضوابط الترجيح فيها

- ‌الفصل الأولقواعد في أسباب النزول

- ‌المبحث الأولتعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء

- ‌سبب النزول في الاصطلاح

- ‌الأركان التي تعرف بها أسباب النزول

- ‌المبحث الثانيأسباب النزول من حيث صيغتها

- ‌المبحث الثالثتعدد النازل والسبب واحد

- ‌المبحث الرابعتعدد السبب والنازل واحد

- ‌المبحث الخامسعموم اللفظ وخصوص السبب

- ‌المبحث السادستكرر النزول

- ‌الفصل الثانيضوابط الترجيح في أسباب النزول

- ‌المبحث الأولالترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف

- ‌المبحث الثانيالترجيح بتقديم السبب الموافق لِلفظ الآية على غيره

- ‌المبحث الثالثالترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره

- ‌المبحث الرابعالترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه

- ‌المبحث الخامسالترجيح بدلالة السياق القرآني

- ‌المبحث السادسالترجيح بدلالة الوقائع التاريخية

- ‌سُورَةُ البَقَرَة

- ‌(97)

- ‌(115)

- ‌(125)

- ‌(142)

- ‌(143)

- ‌(144)

- ‌(158)

- ‌(187)

- ‌(189)

- ‌(195)

- ‌(196)

- ‌(197)

- ‌(198)

- ‌(199)

- ‌(219)

- ‌(220)

- ‌(222)

- ‌(223)

- ‌(228)

- ‌(229)

- ‌(231)

- ‌(232)

- ‌(238)

- ‌(256)

- ‌(267)

- ‌(272)

- ‌(284)

- ‌(285)

- ‌(286)

- ‌سورة آل عمران

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(77)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(122)

- ‌(128)

- ‌(161)

- ‌(165)

- ‌(169)

- ‌(172)

- ‌(174)

- ‌(186)

- ‌(188)

- ‌(195)

- ‌(199)

- ‌سورة النساء

- ‌(3)

- ‌(6)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(19)

- ‌(24)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(43)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(59)

- ‌(65)

- ‌(77)

- ‌(83)

- ‌(88)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(95)

- ‌(97)

- ‌(102)

- ‌(105)

- ‌(127)

- ‌(128)

- ‌(176)

- ‌سورة المائدة

- ‌6

- ‌(33)

- ‌(39)

- ‌(41)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(90)

- ‌(91)

- ‌(93)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(106)

- ‌(107)

- ‌(108)

- ‌سورة الأنعام

- ‌(33)

- ‌(51)

- ‌(52)

- ‌(118)

- ‌(119)

- ‌(120)

- ‌(121)

- ‌(160)

- ‌سورة الأعراف

- ‌(31)

- ‌(175)

- ‌سورة الأنفال

- ‌(1)

- ‌(9)

- ‌(19)

- ‌(30)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(34)

- ‌(66)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌سورة التوبة

- ‌(19)

- ‌(34)

- ‌(58)

- ‌(79)

- ‌(84)

- ‌(85)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(108)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(117)

- ‌(118)

- ‌(119)

الفصل: ‌المبحث الخامسعموم اللفظ وخصوص السبب

‌المبحث الخامس

عموم اللفظ وخصوص السبب

هذا المبحث أساسه ومصدره من المباحث الأصولية الهامة والمؤثرة في التطبيقات العملية للأحكام الشرعية، ونظراً لصلته الوثيقة بالنصوص الشرعية بوجه عام، فسيكون لزاماً أن يرتبط بأسباب النزول على نحو خاص، ويكون من المباحث الرئيسة في هذا الموضوع.

وقبل الشروع في المقصود أود التعريف باللفظ العام والسبب الخاص فأقول:

اللفظ العام: هو لفظ وضع وضعاً واحداً لكثير فير محصور مستغرق جميع ما يصلح له.

مثال ذلك: لفظ المحسنين في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وقد احتُرز بقوله: (وضع وضعاً واحداً) عن المشترك، كالعين مثلاً تطلق على العين المعهودة، والجاسوس، والماء.

وبقوله: (لكثير) عما لم يوضع للكثير كزيد وعمرو.

وبقوله: (غير محصور): عن أسماء العدد فإن المائة مثلاً وضعت وضعاً واحدًا للكثير، لكن الكثير محصور.

وبقوله: (مستغرق جميع ما يصلح له) عن الجمع المنكر الذي تدل القرينة على أنه غير عام، فإن هذا يكون واسطةٌ بين العام والخاص، نحو رأيت رجالاً، فإن من المعلوم أن جميع الرجال غير مرئي.

ص: 128

أما السبب الخاص: فالمراد به السبب الداعي إلى الخطاب أي سبب الورود.

- وقد ذكر بعض أهل العلم أن القسمة العقلية لأحوال اللفظ مع السبب في العموم والخصوص لا تجاوز أربعة أحوال وهي:

1 -

أن يكون السبب عاماً، واللفظ النازل عليه خاصاً.

2 -

أن يكون كلٌّ من السبب واللفظ النازل عليه عاماً.

3 -

أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه خاصاً.

4 -

أن يكون السبب خاصًا واللفظ النازل عليه عاماً.

وسأنظر فيما يمكن قبوله أو رده من هذه الأحوال وفقا لما بين يديّ من الأسباب وأقوال العلماء.

فأما الحال الأولى: وهي أن يكون السبب عامًا واللفظ النازل عليه خاصاً فهذا لا وجود له في أسباب النزول، وقد قال أبو شهبة:

(وهذا القسم وإن صح عقلاً لكنه لا يجوز بلاغةً لعدم وجود التطابق بين السبب الذي هو بمنزلة السؤال، واللفظ النازل عليه الذي هو بمنزلة الجواب له فيكون بمنزلة من يقول هل للمسلمين أن يفعلوا كذا؟ فيجاب بأن لفلان أن يفعل كذا، ويترك حال الباقين، ومن ثمَّ لم يقع هذا في الكلام البليغ كالقرآن والسنة). اهـ.

قلت: هذا يأتي في الكلام المعتاد وقد قال الطوفي:

(ولو سأله جميع نسائه الطلاق، فقال فلانة طالق، اختص الطلاق بها وإن عمَّ السبب). اهـ.

لكن العموم في السبب هنا ليس مطلقًا، بل هو نسبي لاختصاصه بنسائه فقط.

وأما الحال الثانية: وهي أن يكون كلٌّ من السبب واللفظ النازل عليه

ص: 129

عاماً، فقد ذكر هذا بعض المؤلفين في علوم القرآن واستدلوا له بأدلة منها:

1 -

الآيات النازلة في غزوة بدر، والآيات النازلة في غزوة أحد من سورة آل عمران.

2 -

قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ).

3 -

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

4 -

قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ).

ففي آية المحيض سأل المسلمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن معاملة الحائض.

وفي الثانية سألوه عن كيفية توزيع الأنفال، وفي الثالثة سألوه عن معاملة يتامى النساء المسلمات في النكاح.

فالسائلون جماعة من المسلمين وليس واحداً، فمن ثمَّ كان السؤال عاماً.

وعندي - والله أعلم - أن هذا ليس دقيقاً، وفي نفسي منه شىء، ويعكر عليه أمران:

الأول: أن الأُصوليين وهم أصحاب الشأن لم يذكروا أن السبب يكون عاماً - حسب اطلاعي - وهذا يوجب الشك فيما ذكره غيرهم.

الثاني: ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: مرضت فجاءني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعودني، وأبو بكر وهما ماشيان، فأتاني وقد أُغمي عليَّ، فتوضأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه عليَّ، فأفقت، فقلت: يا رسول اللَّه، كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟ قال: فما أجابَنِي بشيء حتى نزلت آية الميراث.

وآية الميراث هي قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ

).

وجه الدلالة من الحديث على المقصود أن يقال:

ص: 130

إن المستفتي عن ذلك واحد وهو جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما وحينئذٍ فالأمر لا يخلو من حالين:

الأولى: أن تقولوا إن السبب خاص وليس عامًا لأن السائل واحد وهو جابر فيقال لكم: ما الفرق إذن بين قوله: يسألونك، وقوله: يستفتونك، لأن طريقتكم تقتضي أن الأول سبب عام، والثاني سبب خاص؟

الثانية: أن تقولوا إن السبب عام إذ لا فرق بين يسألونك ويستفتونك، وحينئذٍ يقال لكم كيف جعلتم هذا سبباً عاماً مع أن السائل واحد وهو جابر رضي الله عنه؟

وهذا المثال بيِّن في التعكير على ما ذكروه من خصوص السبب وعمومه والله أعلم.

أما الحال الثالثة: وهي أن يكون كلٌ من السبب واللفظ النازل عليه خاصاً فهذا واقع، والأمثلة عليه من أسباب النزول كثيرة ومنها:

1 -

أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد كسرت رباعية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشُج في وجهه، قال: فجعل الدم يسيل على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول:(كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله؟ قال: فأنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).

فالسبب واللفظ كلاهما خاص هنا.

2 -

أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ قال: فما أتى على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أشدُّ منه، قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين، قال: فقام عمر فقال: رضينا باللَّه رباً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبياً، قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

ص: 131

فالسبب خاص فيمن سأل، واللفظ خاص بعهد النبوة لأنه زمن نزول القرآن.

3 -

أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما مات عبد اللَّه بن أُبي بن سلول، دُعي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وثبتُ إليه فقلت: يا رسول اللَّه أَتصلي على ابن أُبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ أُعدد عليه قوله، فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:(أخِّر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها) قال: فصلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) - إلى قوله -: (وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ).

فالسبب خاص بصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذا المنافق، واللفظ خاص به أيضًا، لأن النفاق المانع من الصلاة على صاحبه لا يُعلم إلا من قِبَل اللَّه عز وجل.

4 -

أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل فماذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا، قال: فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) - إلى قوله -: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).

فالسبب خاص بالصحابة المتحدثين واللفظ خاص بالصحابة رضي الله عنهم.

5 -

أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه في قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي، وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله الآية التي في:(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (لَا تُحَرِّكْ بِهِ

ص: 132

لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) فإن علينا أن نجمعه في صدرك

فذكر الحديث وفيه: وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده اللَّه.

فالسبب واللفظ كلاهما خاص برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وأما الحال الرابعة: وهي أن يكون اللفظ عاماً والسبب خاصاً فهذه الحال لبُّ المبحث وخلاصته، والغاية منه، ونظراً لهذا فسوف أتوسع قليلاً في ذكر أقوال العلماء وحججهم في هذه المسألة سواءً أكانوا من الأُصوليين أم غيرهم فأقول:

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

الأول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا يَسقط عموم اللفظ بالسبب الذي ورد عليه وإلى هذا ذهب أكثر العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد وهو المذهب المعتبر عند المحققين من الفقهاء والأُصوليين وعزاه ابن الحاجب إلى الجمهور واستدلوا بما يلي:

أولاً: أن هذا اللفظ الوارد على سبب خاص، لو عري عن السبب كان عاماً؛ لأن دلالة العموم لفظية لا لعدم السبب، وإذا كانت دلالة العموم مستفادة من لفظه، فإن ورود اللفظ مع وجود السبب كوروده مع عدم السبب، فيكون مقتضيًا للعموم مع وجود السبب كما كان مقتضياً له مع عدمه.

ثانياً: أن الحجة في لفظ الشارع لا في السبب، وإذا كان الأمر كذلك وجب مراعاة اللفظ عمومًا وخصوصًا كما لو ورد ابتداءً على غير سبب، فلو سألت امرأة زوجها الطلاق فقال كل نسائي طوالق عمهن الطلاق مع خصوص السبب، ولو سأله جميعُ نسائه الطلاق فقال: فلانة طالق اختص الطلاق بها وإن عم السبب.

ثالثاً: لو كان ورود اللفظ العام على سبب خاص يسقط العموم لكان المانع للعموم وجودَ السبب وهذا ممتنع لوجهين:

الأول: أن الأصل عدم منع السبب للعموم ومن ادعى ذلك فعليه الدليل.

ص: 133

الثاني: أن أكثر العمومات وردت بناء على أسباب خاصة، وقد عمم الصحابة أحكامها ولم يقصروها على أسباب ورودها، ولم ينكر ذلك عليهم فكان إجماعًا على التعميم ولو كان السبب مانعًا من اقتضاء اللفظ للعموم، لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل.

رابعاً: اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يقصر على سببه كالخطاب الوارد في مكان وزمان فإنه لا يقصر عليهما.

خامساً: أن تخصيص اللفظ العام الوارد على سبب خاص بسببه الخاص يعني إلغاء الزيادة التي تكلم بها، وإذا قيل بعمومه كان ذلك اعتبارًا لها، واعتبار الزيادة أولى من إلغائها.

القول الثاني: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فيسقط عموم اللفظ بالسبب الذي ورد عليه، وقد نقل هذا المذهب عن مالك والشافعي وأحمد، وأبي ثور، والمزني وغيرهم وقال به جمع كثير من أهل العلم واستدلوا بما يلي:

أولاً: أن المراد بهذا اللفظ بيان حكم السبب فقط، ولولا ذلك لما أخَّر بيان الحكم إلى زمن وقوع الواقعة لأنه ممتنع، وإذا كان المقصود بيان حكم السبب فقط وجب قصر اللفظ عليه.

وأُجيب عن هذا بجوابين:

أحدهما: أن وقوع الواقعة في هذا الوقت أمر تقتضيه حكمة الله التي استأثر بعلمها دون غيره، فربما تفوت المصلحة، ولا يتأتى انقياد العباد لو تقدم الوقوع أو تأخر.

الثاني: أنه يلزم منه أن تكون العمومات الواردة على أسباب خاصة كآية الظهار واللعان مختصةً بأسبابها لأنه أخر البيان إلى وقوع الواقعة وذلك خلاف الإجماع.

ثانياً: لو كان اللفظ العام الوارد على سبب خاص مقصوداً به العموم لجاز تخصيص السبب وإخراجه عن العموم بالاجتهاد كما يجوز تخصيص غيره من الصور الداخلة تحت العموم بالاجتهاد ضرورة تساوي نسبة العموم إلى جميع الصور الداخلة تحته.

ص: 134

وأُجيب بمنع الملازمة بين قصد العموم باللفظ وجواز تخصيص السبب بالاجتهاد؛ لأن اللفظ ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعاً به فيه فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره من الصور، فإن الخلاف جارٍ في كونه بيانًا لها أو لا، فكان تناوله لها مظنوناً، فلذلك جاز إخراجها عن عموم اللفظ بالتخصيص بالاجتهاد.

ثالثاً: لولا اختصاص الحكم بسببه لما نقل الراوي السبب؛ لأن نقله على هذا التقدير يكون عديم الفائدة، لكن لما نقل الرواة أسباب الأحكام، وحافظوا على نقلها دل ذلك على اختصاص الحكم بالسبب.

وأجيب بأنا لا نسلم أن نقل السبب لا فائدة له بل له فوائد:

منها: بيان أخصية السبب بالحكم، أي أن السبب أخص بالحكم من غيره من صوره فيمتنع تخصيصه على ما سبق فيه.

ومنها: معرفة تاريخ الحكم بمعرفة سببه، وفي معرفة التاريخ فائدة معرفة الناسخ من المنسوخ.

ومنها: توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها.

ومنها: التأسي بوقائع السلف، وما جرى لهم، فيخف حكم المكاره على الناس.

رابعاً: أن العام الوارد على سبب خاص، جواب له، والأصل في جواب السؤال أن يكون مطابقاً له، فلو كان هذا العام مراداً به العموم لم يكن مطابقًا، بل يصير ابتداء كلام فدل ذلك على أنه مراد به الاختصاص بسببه.

وأجيب: بأنه إن أُريد بمطابقة الجواب للسؤال الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد. وإن أُريد بها أن يكون الجواب مساوياً للسؤال فلا يكون بياناً لغير ما سُئل عنه فلا نسلم أنها الأصل. ولهذا لما سأل اللَّه موسى بقوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى)، فقد كان يكفي في الإجابة قوله:(هِيَ عَصَايَ) ولو كان الاقتصار على نفس المسؤول عنه هو الأصل لكان بيان موسى عليه السلام لذلك على خلاف الأصل.

ص: 135

ومثل ذلك سؤاله عليه الصلاة والسلام عن الوضوء بماء البحر فأجابهم وزادهم بحلِّ ميتته.

وبما تقدم من أدلة القولين فقد تبين أن أسعد القولين بالصواب قول من قال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لسلامة الأدلة وخلوها من معارض صحيح.

ولا يعني الخلاف في المسألة أن الأحكام النازلة بسبب حوادث خاصة أنها تختص بمن نزلت بسببهم، بل هي عامة لهم ولغيرهم حتى على قول من يرى أن العبرة بخصوص السبب لكن الفرق بين القولين أن من يرى أن العبرة بعموم اللفظ يقول أخذنا هذا العموم عن طريق اللفظ العام.

أما من يرى أن العبرة بخصوص السبب فيقولون لم نأخذ العموم في هذه الأحكام من طريق اللفظ العام؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه، ولكن أخذنا ذلك العموم من القياس، أي قياس الحوادث المشابهة لما حدث لعويمر، وهلال، وأَوس على ما حدث لهؤلاء والله أعلم.

وبعد ذكر قول الأُصوليين في المسألة سأذكر ما وقفت عليه من أقوال العلماء في اعتبارهم لعموم اللفظ دون خصوص السبب. فأقول:

قال الطبري مقرراً هذه القاعدة: (وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب ويكون الحكم بها عاماً في كل ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه) اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصاً كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت) فذكر كلامًا

حتى قال: (فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص

ص: 136

بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم، ولا عاقل على الإطلاق.

والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ). اهـ.

وقال أيضاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ووجهه ظاهر الخطاب، فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه، إذ لا موجب لخصوصه، وليس هو مختصاً بنفس السبب بالاتفاق، لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم داخل في العموم، وليس هو من السبب، ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصرعلى سببه).

وقال ابن كثير في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ

) الآية: (قلت: والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص، والأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء). اهـ.

وقال السيوطي: (اختلف أهل الأصول هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ والأصح عندنا الأول، وقد نزلت آيات في أسباب واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها). اهـ.

وقال السعدي: (العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وهذه قاعدة نافعة جدًا بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير، وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير ويقع الغلط والارتباك، وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم). اهـ.

ص: 137

وقال الشنقيطي: (فما الدليل في ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟

فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل بما معناه هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ فأجاب بما معناه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ثم ساق حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قبلةً فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزلت عليه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) قال الرجل: ألي هذه؟ قال: (لمن عمل بها من أمتي)، وفي رواية في الصحيح قال: الجميع أمتي كلهم).

فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت فى خصوصه آية عامة اللفظ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي هذه؟ ومعنى ذلك: هل النص خاص بي لأني سبب وروده؟ أو هو على عموم لفظه؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (لجميع أُمتي) معناه أن العبرة بعموم لفظ: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) لا بخصوص السبب والعلم عند اللَّه تعالى). اهـ.

وبعد هذا التقرير من اعتبار عموم الألفاظ دون خصوص الأسباب سأذكر عددًا من الأمثلة تناولتها بالدراسة تدل على ذلك. ومنها:

1 -

أخرج البخاري وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول اللَّه لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

2 -

أخرج البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل

ص: 138

صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً (فلما) حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحاً شديدًا، ونزلت:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).

3 -

أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: وقف عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال:(يؤذيك هوامك) قلت: نعمِ قال: (فاحلق رأسك) قال: فيَّ نزلت هذه الآية: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ

) إلى آخرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرَق بين ستة أو انسك بما تيسر).

4 -

أخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنها نزلت فيه: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) قال: زوجت أُختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلاً لا بأس، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل اللَّه هذه الآية:(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول اللَّه قال: (فزوجها إياه).

5 -

أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتل أبوهما معك في أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال قال: فقال:

ص: 139

(يقضي اللَّه في ذلك) قال: فنزلت آية الميراث فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال:(أعطِ ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك).

وآية الميراث هي قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ

) الآية.

بقي أن يُقال جاء عن أبي أيوب الأنصاري، وابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما يدل على أنهما يريان أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

فأما أبو أيوب فقد أخرج الترمذي وأبو داود والنَّسَائِي عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا سبحان اللَّه، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري، فقال: يا أيها الناس إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز اللَّه الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن اللَّه قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل اللَّه على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا:(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

والجواب أن يقال: لا دلالة في الحديث على اعتبار خصوص السبب دون عموم اللفظ لأن أبا أيوب رضي الله عنه كان يرى الاقتحام في صفوف الأعداء مأذوناً به شرعاً لأنه كان يشاهد ذلك من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليهم وإذا أُذن فيه شرعاً فلن تنهى الآية عنه، وأما ما عدا ذلك من صور إلقاء النفس إلى التهلكة فإن الآية تتناولها، ولا تختص بمن نزلت فيه وهم الأنصار واللَّه أعلم.

وأما ابن عبَّاسٍ فقد أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون. فقال ابن

ص: 140

عباس: مالكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.

والجواب عن هذا أن يقال: لا دلالة في الحديث على اعتبار خصوص السبب دون عموم اللفظ ولعل هذا يتبين بتقسيم القضية إلى صورتين:

الأولى: أن يفرح المرء بما أتى من فعل لا معصية فيه، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، من غير أن يقع منه كتمان شيء أو كذب على أحد فهذا لا تتناوله الآية كما قاله ابن عبَّاسٍ لأن صاحبه لم يقع منه عمل.

غاية الأمر: أنه أحب أن يحمد بما لم يفعل، وهذه طبيعة النفس البشرية، وهذا هو الذي قصده مروان، ويدل على ذلك قوله:(لنعذبن أجمعون)، ولا يخفى أنه ليس كل الناس يكتمون ويكذبون، فتبين أن مراده ما تقدم.

الثانية: أن يفعل المرء عين ما فعل اليهود من الكذب والكتمان فهذا ما يتناوله نص الآية، ولا فرق بين أن يقع الفعل من اليهود أو من غيرهم، وهذه الصورة لم يسأل عنها مروان لأنه لا يُستغرب أن يعذَّب من هذا حاله، وإنما كان استغرابه أن يُعذَّب على فعلٍ يقع من الجميع، ولا ذنب فيه.

* * *

ص: 141