الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التوبة
94 -
قال اِلة تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(19)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنتُ عند منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أُبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أَسقي الحاج. وقال آخر: ما أُبالي أن لا أَعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل اللَّه أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل اللَّه عز وجل: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وغيره معه عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي، وابن عاشور.
قال الطبري: (أجعلتم أيها القوم سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن اللَّه تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملاً، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافراً ولتوحيده جاحداً. إلى أن قال: الذين آمنوا باللَّه: صدقوا بتوحيده من المشركين وهاجروا دور قومهم وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده، من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم باللَّه مشركون) اهـ.
وقال السعدي: الما اختلف بعض المسلمين، أو بعض المسلمين وبعض المشركين في تفضيل عمارة المسجد الحرام بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج على الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله أخبر الله تعالى بالتفاوت بينهما فذكر كلامًا إلى أن قال: فالجهاد والإيمان باللَّه، أفضل من سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال.
وأما الجهاد في سبيل اللَّه فهو ذروة سنام الدين، وبه يحفظ الدين الإسلامي ويتسع وينصر الحق ويخذل الباطل.
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فهي وإن كانت أعمالاً صالحةً فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد نلذلك قال:(لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) اهـ محل الشاهد.
وقال ابن عاشور: (وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري والواحدي عن النعمان بن بشير
…
ثم ساق الحديث الذي معنا) اهـ.
وقد قال القرطبي المحدث: (أما حديث النعمان هذا فمشكل على مساق الآية فإنه يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال، وحينئذٍ لا يصلح أن يكون قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ
…
) إلى قوله: (لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) نزل جواباً لذلك، فإن أولئك المسلمين لم
يختلفوا في أن الإيمان مع الجهاد أفضل من مجرد السقاية والعمارة وإنما اختلفوا في أي الأعمال أفضل بعد الإسلام وقد نصّوا على ذلك في الحديث وأيضاً: فلا يليق أن يقال لهم في هذا الذي اختلفوا فيه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وأيضاً: فإن الآيات التي قبل هذه الآية من قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ .. ) تدل على أن الخطاب مع المشركين فتعين الإشكال، فلينظر في التخلص منه، ويمكن أن يتخلص منه بأن يقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله: فأنزل اللَّه الآية وإِنَّمَا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عمر الآية حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذٍ وإِنَّمَا استدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر فاستفتى لهم فتلا عليه ما كان قد أُنزل عليه في المشركين لا أنها نزلت في هؤلاء) اهـ.
وقد نقل القرطبي المفسر عنه الحجة الأولى وجوابه الذي ذكره، وقد سبقهما إلى هذا الطبري كما يفهم من كلامه، لكنه لم يذكر حجةً وسأتناول حجج القرطبي بالمناقشة:
أما حجته الأولى: فخلاصتها أن المسلمين اختلفوا في الأفضل بعد الإسلام، أما الآية فلا تتفق مع اختلافهم على حد قوله؛ لأنها جردت السقاية والعمارة من الإيمان وقرنت الجهاد بالإيمان، إذن فالإشكال والجواب مختلفان.
والجواب: أن الجهاد لا يُتصور بدون الإيمان، فكيف يجاهد من لم يؤمن، وأما العمارة والسقاية فتقعان بدون الإيمان والدليل وجودهما في الواقع على عهده صلى الله عليه وسلم وعدم ذكر الإيمان مع السقاية والعمارة في الآية ليس ذكرًا للعدم، وإِنَّمَا حكايةً للواقع والممكن.
أما حجته الثانية: فلأن الله ختم الآية بقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا لا يناسب المتحدثين.
فالجواب: وما يدريك فلعل الله اطلع على قلوب أولئك فعلم من بعضهم ميلاً إلى السقاية والعمارة مع الرغبة في الدعة والسلامة لا أنه كان يخفى عليهم
جميعاً شأن الجهاد وقد قال اللَّه تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24).
وهذه الآية لم يفصل بينها وبين الآيات التي معنا إلا آيةً واحدة ليست منها بل هي منفصلة.
أَوَليس بعض الصحابة قد هموا بالإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نُهوا أن يُلقوا بأيديهم إلى التهلكة؟
ثم أليس من الخطأ التسويةُ بين مجاهد يبذل نفسه ومهجته وماله لِلَّهِ لا يدري هل يرجع من ذلك بشيء، وبين مقيم بين أهله يعمر ويسقي لا يخاف شيئاً من ذلك؟
أما حجته الثالثة: فقال إن سياق الآيات في المشركين.
والجواب: أن سياق الآيات كلها في المؤمنين باستثناء قوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ)، فكيف يقال إن السياق في المشركين.
ثم إن سورة التوبة من آخر القرآن نزولاً في المدينة فكيف اختلفوا مع المسلمين؟ وأين كان هذا؟
وأيضاً فإن الله قال: (أَجَعَلْتُمْ) فهل يعهد في القرآن أن يخاطب اللَّه المشركين على هذا النحو لأن الأمر حسبما ذكره المفسرون أن المشركين هم الذين افتخروا بالسقاية والعمارة، والمؤمنين بالإيمان والجهاد، فمقتضى هذا أن يتوجه الخطاب للمشركين.
ثم هل للمشركين قدر أو قيمة يستحقون بها العناية الإلهية ببيان الفاضل من المفضول لهم؟
وأيضاً قول الله عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، ألا يدل أفعل التفضيل على وجود مفضل ومفضل عليه، فالمفضل المؤمن المجاهد، والمفضل عليه المؤمن الذي يعمر ويسقي، ولو كان المفضل عليه مشركاً لم يكن فيه أدنى فضل.
وليس إشكالنا مع القرطبي أن بعض الرواة قد وهم فبدلاً من أن يقول: فقرأ قال: فأنزل، فهذا أمر ممكن وقد سلكتُ هذا المسلك في البحث أحياناً لكن عند وجود القرائن والدلائل عليه.
ثم هنا لنا أن نسأل ونقول أين إسنادكم على ما ذكرتم، وإن كان فهل ينهض ويقارب إسناد مسلم أو يماثله؟
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة الحديث الذي رواه النعمان بن بشير لصحة إسناده وتصريحه بالنزول، واتفاقه مع لفظ الآية وسياق القرآن، والنظر الصحيح واللَّه أعلم.
* * * * *