الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي اللُّغَات
من عَادَة الْأُصُولِيِّينَ التَّعَرُّض لمباحث اللُّغَات فِي كتبهمْ وَذَلِكَ لِأَن هَذِه المباحث هِيَ كالمدخل إِلَى أصُول الْفِقْه من جِهَة أَنه أحد مُفْرَدَات مادته وَهِي الْكَلَام والعربية وتصور الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَذَلِكَ أَن لمباحث اللُّغَات مدخلًا كَبِيرا لمن يُرِيد دُخُول أَبْوَاب الْفِقْه والاطلاع على حقائقها فأصول الْفِقْه متوقفة على معرفَة اللُّغَة لوُرُود الْكتاب وَالسّنة بهَا اللَّذين هما أصُول الْفِقْه وأدلته فَمن لَا يعرف اللُّغَة لَا يُمكنهُ اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام من الْكتاب وَالسّنة
إِذا علمت هَذَا فَاعْلَم أَن اللُّغَة إِنَّمَا هِيَ الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على الْمعَانِي النفسية يَعْنِي أَن الْمُتَكَلّم يتَصَوَّر فِي نَفسه نِسْبَة شَيْء لشَيْء بعد تصور مُفْرَدَات مركب يدل على النِّسْبَة بَينهمَا كَمَا يتَصَوَّر الْعلم ثمَّ يتَصَوَّر نَفعه ثمَّ يضم إِلَى ذَلِك نِسْبَة الْمَوْضُوع إِلَى الْمَحْمُول أَو نِسْبَة الْمسند إِلَى الْمسند إِلَيْهِ ثمَّ يعبر عَن تِلْكَ النِّسْبَة بِلِسَانِهِ فَيَقُول الْعلم نَافِع فَتلك الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على هَذَا الْمَعْنى هِيَ اللُّغَة وَأَنت خَبِير بِأَن التَّصَوُّر لَا يخْتَلف حَتَّى يُقَال لَهُ تصور هندي أَو عَرَبِيّ أَو فَارسي وَإِنَّمَا الَّذِي يخْتَلف وَيُسمى بأسماء هُوَ اللَّفْظ الْمعبر بِهِ عَمَّا فِي الضَّمِير والتصور وَسبب ذَلِك الِاخْتِلَاف إِنَّمَا هُوَ
اخْتِلَاف أمزجة الْأَلْسِنَة وَعلة اخْتِلَاف أمزجة الْأَلْسِنَة وَسَببه اخْتِلَاف الأهوية وطبائع الْأَمْكِنَة فَإِذا غلب الْبرد مثلا على مَكَان برد هواؤه وطبع الْبرد التكثيف والتثقيل لِأَن العنصرين الباردين وهما المَاء وَالْأَرْض ثقيلان كثيفان وَالْمَاء أشدهما بردا وَالْأَرْض أشدهما كَثَافَة فيغلب الثّقل على أَلْسِنَة أهل ذَلِك الْقطر فيثقل النُّطْق على ألسنتهم ثمَّ يضعون الْأَلْفَاظ الْمَخْصُوصَة للمعاني الْمَخْصُوصَة فَيَجِيء النُّطْق بهَا ثقيلا كالعجمي والتركي وَغَيرهمَا وَإِذا غلب الْحر على مَكَان سخن هواؤه وطبع الْحَرَارَة التجفيف والتحليل والتلطف فتغلب الخفة على أَلْسِنَة أهل ذَلِك الْمَكَان فيخف النُّطْق على ألسنتهم ثمَّ يضعون الْأَلْفَاظ الْمَخْصُوصَة للمعاني الْمَخْصُوصَة فَيَجِيء النُّطْق بهَا خَفِيفا سَمحا سهلا كاللغة الْعَرَبيَّة فَلهَذَا كَانَت أفْصح اللُّغَات وأحسنها وَأَشْرَفهَا وَحصل الإعجاز والتحدي بِكَلَام الله تَعَالَى النَّازِل بهَا دون كَلَامه النَّازِل بغَيْرهَا مَعَ أَنه قد كَانَ فِي قدرَة الله سُبْحَانَهُ أَن يعجز أهل كل لِسَان بِمَا نزله من كَلَامه بذلك اللِّسَان وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا المتقدمون من الْأَطِبَّاء فِي فلسفة الطِّبّ
وَاعْلَم أَن الْمُخْتَار أَن اللُّغَة بَعْضهَا حَاصِل بالتوقيف والتعليم وَبَعضهَا حَاصِل بالاصطلاح
وَقَوله تَعَالَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} الْبَقَرَة 31 مَعْنَاهُ وَالله أعلم أَنه علمه مَا احْتَاجَ مِنْهَا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} الْبَقَرَة 31 وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مُسَمّى محسوس وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه كَانَ ثمَّ أَشْيَاء محسوسة علم الله تَعَالَى آدم أَي ألهمه أسمائها وَلم يلهمها الْمَلَائِكَة وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَن يكون آدم تعلم جَمِيع لُغَات الْبشر من عَهده إِلَى آخر الدوران
وتنقسم اللُّغَة إِلَى أَسمَاء الْأَعْلَام كزيد وخَالِد وَإِلَى أَسمَاء الصِّفَات كعالم وقادر وَهَذِه لاتثبت بِالْقِيَاسِ اتِّفَاقًا وَإِلَى أَسمَاء الْأَجْنَاس والأنواع الَّتِي وضعت لمعان فِي مسمياتها تَدور مَعهَا وجودا وعدما وَهَذَا النَّوْع من اللُّغَة يَصح الْقيَاس عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْخمرِ فَإِن اسْمه يَدُور مَعَ التخمير وجودا وعدما فَإِنَّهُ يَصح إِطْلَاق اسْمه على كل مَا خامر الْعقل قِيَاسا بعلة المخامرة فَحَيْثُ فهم الْجَامِع بَين شَيْئَيْنِ جَازَ تَسْمِيَة الْفَرْع باسم الأَصْل قِيَاسا وَمن هُنَا أَخذ الْفُقَهَاء أصلا فرعوا عَلَيْهِ فروعا مِنْهَا أَن اللائط يحد قِيَاسا على الزَّانِي بِجَامِع الْإِيلَاج الْمحرم وشارب النَّبِيذ يحد قِيَاسا على شَارِب الْخمر بِجَامِع السكر والتخمير ونباش الْقُبُور يحد قِيَاسا على سَارِق أَمْوَال الْأَحْيَاء بِجَامِع أَخذ المَال خُفْيَة عِنْد من يَقُول بذلك وَهَذَا كُله مَبْنِيّ على قَاعِدَة إِثْبَات اللُّغَة بِالْقِيَاسِ وَالَّذين قَالُوا لَا قِيَاس فِي اللُّغَة كبعض الْحَنَفِيَّة قَالُوا لَا حد فِي ذَلِك
فَائِدَة أولع كثير من أهل عصرنا بسؤال حَاصله أَن من تقدم على نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين إِنَّمَا كَانَ مَبْعُوثًا لِقَوْمِهِ خَاصَّة فَلذَلِك بعث بلسانهم وَنَبِينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مَبْعُوث لجَمِيع الْخلق فَلم لم يبْعَث بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَة وَلم يبْعَث إِلَّا بِلِسَان بَعضهم وهم الْعَرَب وَالْجَوَاب أَنه لَو بعث بِلِسَان جَمِيعهم وَأنزل الْقُرْآن عَلَيْهِ كَذَلِك لَكَانَ كلَاما خَارِجا عَن الْمَعْهُود وَيبعد بل يَسْتَحِيل أَن ترد كل كلمة من الْقُرْآن مكررة بِكُل الْأَلْسِنَة مَعَ أَنَّهَا لَا تنضبط وتتجدد مَعَ تجدّد الْأَزْمَان كَمَا تَجَدَّدَتْ اللُّغَة الفرنسوية والإنكليزية وَغَيرهمَا وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك تعين الْبَعْض وَكَانَ لِسَان الْعَرَب أَحَق لِأَنَّهُ أوسع وأفصح وَلِأَنَّهُ لِسَان المخاطبين وَإِن كَانَ الحكم