المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران

[ابن بدران]

فهرس الكتاب

- ‌العقد الأول

- ‌رَوْضَة فِي كَلِمَات للْإِمَام فِي مسَائِل من أصُول الدّين

- ‌شذرة أَيْضا فِي كَلَامه فِي الْأُصُول

- ‌العقد الثَّانِي

- ‌فِي السَّبَب الَّذِي لأَجله اخْتَار كثير من كبار الْعلمَاء مَذْهَب الإِمَام أَحْمد على مَذْهَب غَيره

- ‌العقد الثَّالِث

- ‌فِي ذكر أصُول مذْهبه فِي استنباط الْفُرُوع وَبَيَان طَرِيقَته فِي ذَلِك

- ‌العقد الرَّابِع

- ‌فِي مسالك كبار أَصْحَابه فِي تَرْتِيب مذْهبه واستنباطه من فتياه وَالرِّوَايَات عَنهُ وتصرفهم فِي ذَلِك الْإِرْث المحمدي الأحمدي

- ‌شذرة فِي بَيَان طَريقَة الْأَصْحَاب فِي فهم كَلَام الإِمَام أَحْمد وَطَرِيق تصرفهم فِي الرِّوَايَات عَنهُ

- ‌فصل

- ‌فصل أَرَاك أَيهَا النَّاظر قد علمت عَمَّا رقمناه آنِفا

- ‌فصل

- ‌فصل فِي قَول الشَّافِعِي رضي الله عنه إِذا وجدْتُم فِي كتابي خلاف سنة

- ‌العقد الْخَامِس

- ‌فِي الْأُصُول الْفِقْهِيَّة الَّتِي دونهَا الْأَصْحَاب

- ‌مُقَدّمَة

- ‌بسط هَذَا الْإِجْمَال

- ‌فصل فِي التَّكْلِيف

- ‌فصل فِي أَحْكَام التَّكْلِيف

- ‌فصل فِي مَسْأَلَة مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌تَتِمَّة

- ‌فَائِدَة

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل فِي خطاب الْوَضع

- ‌تَنْبِيه

- ‌فَائِدَة

- ‌فصل فِي اللُّغَات

- ‌فصل اعْلَم أَن الْأَسْمَاء على أَرْبَعَة أضْرب

- ‌فصل فِي الْأُصُول

- ‌الْكتاب الْعَزِيز الَّذِي هُوَ أصل الْأُصُول

- ‌فصل فِي شذرات من مبَاحث السّنة

- ‌تَتِمَّة

- ‌بَاب النّسخ

- ‌تَنْبِيه

- ‌فَائِدَتَانِ

- ‌الْأَوَامِر والنواهي

- ‌فصل وَأما النَّهْي

- ‌فَوَائِد

- ‌الْعُمُوم وَالْخُصُوص

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل

- ‌خَاتِمَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي الْمُطلق والمقيد

- ‌فصل الْمُجْمل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم

- ‌الأَصْل الثَّالِث الْإِجْمَاع

- ‌الأَصْل الرَّابِع من الْأُصُول الْمُتَّفق عَلَيْهَا اسْتِصْحَاب الْحَال

- ‌الْأُصُول الْمُخْتَلف فِيهَا

- ‌الأَصْل الْخَامِس الْقيَاس

- ‌فصل

- ‌فصل فِي شَرَائِط أَرْكَان الْقيَاس ومصححاتها

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي الأسئلة الْوَارِدَة على الْقيَاس

- ‌فصل

- ‌عقد نضيد فِي الِاجْتِهَاد والتقليد

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل

- ‌عقد نَفِيس فِي تَرْتِيب الْأَدِلَّة وَالتَّرْجِيح

- ‌فصل

- ‌تَنْبِيه

- ‌العقد السَّادِس

- ‌فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ المؤلفون فِي فقه الإِمَام أَحْمد مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُبْتَدِي وأبرز الْأَسْمَاء الَّتِي تذكر فِي مصنفاتهم

- ‌العقد السَّابِع

- ‌فِي ذكر الْكتب الْمَشْهُورَة فِي الْمَذْهَب وَبَيَان طَريقَة بَعْضهَا وَمَا عَلَيْهِ من التعليقات والحواشي حسب الْإِمْكَان

- ‌الْمُغنِي ومختصرالخرقي

- ‌الْمُسْتَوْعب

- ‌الْكَافِي

- ‌الْعُمْدَة

- ‌مُخْتَصر ابْن تَمِيم

- ‌رُؤُوس الْمسَائِل

- ‌الْهِدَايَة

- ‌التَّذْكِرَة

- ‌الْمُحَرر

- ‌الْمقنع

- ‌الْفُرُوع

- ‌مغنى ذَوي الأفهام عَن الْكتب الْكَثِيرَة فِي الْأَحْكَام

- ‌مُنْتَهى الإرادات فِي جمع الْمقنع مَعَ التَّنْقِيح وزيادات

- ‌الْإِقْنَاع لطَالب الِانْتِفَاع

- ‌دَلِيل الطَّالِب

- ‌غَايَة الْمُنْتَهى

- ‌عُمْدَة الرَّاغِب

- ‌كَافِي الْمُبْتَدِي وأخصر المختصرات ومختصر الإفادات

- ‌الرعايتان

- ‌مُخْتَصر الشَّرْح الْكَبِير والإنصاف

- ‌العقد الثَّامِن

- ‌فِي أَقسَام الْفِقْه عِنْد أَصْحَابنَا وَمَا ألف فِي هَذَا النَّوْع وَفِي هَذَا العقد دُرَر

- ‌فصل وَأما مَا اتَّصل بِنَا خَبره من كتب التَّفْسِير لِأَصْحَابِنَا

- ‌فصل

- ‌فرائد فَوَائِد

- ‌لطائف قَوَاعِد

- ‌رد الْعَجز على الصَّدْر

الفصل: ‌في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره

‌العقد الثَّانِي

‌فِي السَّبَب الَّذِي لأَجله اخْتَار كثير من كبار الْعلمَاء مَذْهَب الإِمَام أَحْمد على مَذْهَب غَيره

هَذَا العقد لَهُ مدْخل عَظِيم لمن يُرِيد التمذهب بِمذهب أَحْمد وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الدَّاخِل على بَصِيرَة فِي شَيْء أَعقل من الدَّاخِل فِيهِ على غير بَصِيرَة وَأبْعد عَن التعصب والتقليد الْمَحْض وكل إِنْسَان يخْتَار لمطعمه وملبسه وحوائجه الضرورية فلإن يخْتَار ويحتاط لدينِهِ أولى وَلما كَانَ الْمُقَلّد لَا رَأْي لَهُ وَلَا تَرْجِيح وَإِنَّمَا نصِيبه من الْعلم أَن يَقُول قَالُوا فَقُلْنَا أثبتنا لَهُ هَذَا العقد ليزين بِهِ ونصبنا لَهُ هَذَا السّلم أملا بِأَنَّهُ إِن ترك التعصب الذميم وَالْجهل الْمركب ارْتقى قَلِيلا إِلَى دَرَجَات أَوَائِل الْعلم ولاح لَهُ لمعان من نور الْهدى فيجره اخْتِيَار الْمَذْهَب إِلَى اخْتِيَار بعض الْفُرُوع بِالدَّلِيلِ والبرهان فَيكون حِينَئِذٍ من المفلحين ويتزحزح عَن نَار الْغَفْلَة والتقليد الْأَعْمَى المذموم على لِسَان كل عَاقل لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد

وَإِلَيْك بَيَان مَا نوهنا بِهِ وأشرنا إِلَيْهِ

قَالَ الإِمَام الْحَافِظ أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن ابْن الْجَوْزِيّ أحد الْمُجْتَهدين فِي مَذْهَب أَحْمد فِي كتاب المناقب فِي الْبَاب السَّابِع وَالتسْعين مِنْهُ اعْلَم وفقك الله أَنه مِمَّا يتَبَيَّن الصَّوَاب فِي الْأُمُور

ص: 103

المشتبهة لمن أعرض عَن الْهوى والتفت عَن العصبية وَقصد الْحق بطريقه وَلم ينظر فِي أَسمَاء الرِّجَال وَلَا فِي صيتهم فَذَلِك الَّذِي ينجلي لَهُ غامض المشتبه فَأَما من مَال بِهِ الْهوى فعسير تقويمه

وَاعْلَم أننا نَظرنَا فِي أَدِلَّة الشَّرْع وأصول الْفِقْه وسبرنا أَحْوَال الْأَعْلَام الْمُجْتَهدين فَرَأَيْنَا هَذَا الرجل يَعْنِي الإِمَام أَحْمد أوفرهم حظا من تِلْكَ الْعُلُوم فَإِنَّهُ كَانَ من الحافظين لكتاب الله عز وجل وقرأه على أساطين أهل زَمَانه وَكَانَ لَا يمِيل شَيْئا فِي الْقُرْآن ويروي قَوْله صلى الله عليه وسلم أنزل الْقُرْآن فخما ففخموه

وَكَانَ لَا يدغم شَيْئا فِي الْقُرْآن إِلَّا اتخذتم وبابه كَأبي عمر ويمد مدا متوسطا وَكَانَ رضي الله عنه من المصنفين فِي فنون عُلُوم الْقُرْآن من التَّفْسِير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر فِي الْقُرْآن وجوابات الْقُرْآن والمسند وَهُوَ ثَلَاثُونَ ألف حَدِيث وَكَانَ يَقُول لِابْنِهِ عبد الله احتفظ بِهَذَا الْمسند فَإِنَّهُ سَيكون للنَّاس إِمَامًا

والتاريخ وَحَدِيث شُعْبَة والمناسك الْكَبِير وَالصَّغِير وَأَشْيَاء أخر

وَقَالَ عبد الله قَرَأَ علينا أبي الْمسند وَمَا سَمعه مِنْهُ غَيرنَا وَقَالَ لنا هَذَا كتاب قد جمعته وانتقيته من أَكثر من سَبْعمِائة ألف حَدِيث فَمَا اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيهِ من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فَإِن وجدتموه فِيهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحجَّة

قَالَ

ص: 104

ابْن الْجَوْزِيّ وَأما النَّقْل فقد سلم الْكل لَهُ بِانْفِرَادِهِ فِيهِ بِمَا لم ينْفَرد بِهِ سواهُ من الْأَئِمَّة من كَثْرَة محفوظه مِنْهُ وَمَعْرِفَة صَحِيحَة من سقيمه وفنون علومه وَقد ثَبت أَنه لَيْسَ فِي الْأَئِمَّة الْأَعْلَام قبله من لَهُ حَظّ فِي الحَدِيث كحظ مَالك وَمن أَرَادَ مقَام معرفَة أَحْمد فِي ذَلِك من مقَام مَالك فَلْينْظر فرق مَا بَين الْمسند والموطأ

وَقَالَ ابْنه عبد الله سَمِعت أَبَا زرْعَة يَقُول كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يحفظ ألف ألف حَدِيث بتكرير الْألف مرَّتَيْنِ فَقيل لَهُ وَمَا يدْريك قَالَ ذاكرته فَأخذت عَلَيْهِ الْأَبْوَاب

وَقيل لأبي زرْعَة من رَأَيْت من الْمَشَايِخ الْمُحدثين أحفظ فَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل حزمت كتبه فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ فبلغت اثْنَي عشر حملا وعزل مَا كَانَ على ظهر كتاب مِنْهَا حَدِيث فلَان وَفِي بَطنهَا حَدثنَا فلَان وكل ذَلِك كَانَ يحفظه أَحْمد عَن ظهر قلبه

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَقد كَانَ أَحْمد يذكر الْجرْح وَالتَّعْدِيل من حفظه إِذا سُئِلَ عَنهُ كَمَا يقْرَأ الْفَاتِحَة وَمن نظر فِي كتاب الْعِلَل لأبي بكر الْخلال عرف ذَلِك وَلم يكن هَذَا لأحد من بَقِيَّة الْأَئِمَّة

وَكَذَلِكَ انْفِرَاده فِي علم النَّقْل بفتاوى الصَّحَابَة وقضاياهم وإجماعهم وَاخْتِلَافهمْ لَا تنَازع فِي ذَلِك

وَأما علم الْعَرَبيَّة فقد قَالَ أَحْمد كتب من الْعَرَبيَّة أَكثر مِمَّا كتب أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ

وَأما الْقيَاس فَلهُ من الاستنباط مَا يطول شَرحه قَالَ أَبُو الْقَاسِم ابْن الْجبلي

ص: 105

أَكثر النَّاس يظنون أَن أَحْمد إِنَّمَا كَانَ أَكثر ذكره لموْضِع الْمحبَّة وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل إِذا سُئِلَ عَن الْمَسْأَلَة كَانَ علم الدُّنْيَا بَين عَيْنَيْهِ

وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أدْركْت ثَلَاثَة لن يرى النَّاس مثلهم أبدا وتعجز النِّسَاء أَن يلدن مثلهم رَأَيْت أَبَا عبيد الْقَاسِم ابْن سَلام فَمَا مثلته إِلَّا بجبل نفح فِيهِ روح وَرَأَيْت بشر بن الْحَارِث فَمَا شبهته إِلَّا بِرَجُل عجن من قرنه إِلَى قدمه عقلا وَرَأَيْت أَحْمد بن حَنْبَل فرأيته كَأَن الله جمع لَهُ علم الْأَوَّلين والآخرين من كل صنف يَقُول مَا شَاءَ ويمسك مَا شَاءَ

وَقَالَ أَحْمد بن سعيد الرَّازِيّ مَا رَأَيْت أسود رَأس أحفظ لحَدِيث رَسُول الله وَلَا أعلم بفقهه ومعانيه من أَحْمد

قَالَ الْخلال كَانَ أَحْمد قد كتب كتب الرَّأْي وحفظها ثمَّ لم يلْتَفت إِلَيْهَا وَكَانَ إِذا تكلم فِي الْفِقْه تكلم كَلَام رجل قد انتقد الْعُلُوم فَتكلم عَن معرفَة قَالَ الإِمَام أَبُو الْوَفَاء عَليّ بن عقيل الْحَنْبَلِيّ الْبَغْدَادِيّ وَمن عَجِيب مَا نَسْمَعهُ عَن هَؤُلَاءِ الْجُهَّال أَنهم يَقُولُونَ أَحْمد لَيْسَ بفقيه لكنه مُحدث وَهَذَا غَايَة الْجَهْل لِأَنَّهُ قد خرج عَنهُ اختيارات بناها على الْأَحَادِيث بِنَاء لَا يعرفهُ أَكْثَرهم وَخرج عَنهُ من دَقِيق الْفِقْه مَا لَيْسَ نرَاهُ لأحد مِنْهُم وَانْفَرَدَ بِمَا سلموه لَهُ من الْحِفْظ وشاركهم وَرُبمَا زَاد على كبارهم ثمَّ ذكر ابْن عقيل مسَائِل دقيقة مِمَّا استنبطه الإِمَام ثمَّ قَالَ وَمِمَّا وجدنَا من فقه الإِمَام أَحْمد ودقة علمه أَنه

ص: 106

سُئِلَ عَن رجل نذر أَن يطوف بِالْبَيْتِ على أَربع قَالَ يطوف طوافين وَلَا يطوف على أَربع فانظروا إِلَى هَذَا الْفِقْه كَأَنَّهُ نظر إِلَى الْمَشْي على أَربع فَرَآهُ مثله وخروجا عَن صُورَة الْحَيَوَان النَّاطِق إِلَى التَّشْبِيه بالبهائم فصانه وصان الْبَيْت وَالْمَسْجِد عَن الشُّهْرَة وَلم يبطل حكم الْقَضِيَّة فِي الْمَشْي على الْيَدَيْنِ بل أبدلها بِالرجلَيْنِ اللَّتَان هما آلَة الْمَشْي

ثمَّ ذكر مسَائِل من هَذَا الْقَبِيل ثمَّ قَالَ وَلَقَد كَانَت نَوَادِر أَحْمد نَوَادِر بَالِغَة فِي الْفَهم إِلَى أقْصَى طبقَة قَالَ وَمن هَذَا فقهه واختياراته لَا يحسن بالمنصف أَن يغض مِنْهُ فِي هَذَا الْعلم وَمَا يقْصد هَذَا إِلَّا مُبْتَدع قد تمزق فُؤَاده من خمول كَلمته وانتشار علم أَحْمد حَتَّى إِن أَكثر الْعلمَاء يَقُولُونَ أُصَلِّي أصل أَحْمد وفرعي فرع فلَان فحسبك مِمَّن يرضى بِهِ فِي الْأُصُول قدوة

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ إِن أَحْمد ضم إِلَى مَا لَدَيْهِ من الْعلم مَا عجز عَنهُ الْقَوْم من الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَقُوَّة الْوَرع وَلم ينْقل عَن أحد من الْأَئِمَّة أَنه امْتنع من قبُول أوقاف السلاطين وهدايا الإخوان كامتناعه وَلَوْلَا خدش وُجُوه فضائلهم رضي الله عنهم لذكرنا عَنْهُم مَا قبلوا ورخصوا بِأَخْذِهِ

وَقد عقد ابْن الْجَوْزِيّ فِي مناقبه بَابا خَاصّا فِي بَيَان زهده فِي الْمُبَاحَات ثمَّ إِنَّه ضم إِلَى ذَلِك الصَّبْر على الامتحان وبذل المهجة فِي نصْرَة الْحق وَلم يكن ذَلِك لغيره وَقد أخرج أَبُو نعيم الْحَافِظ عَن الشَّافِعِي رضي الله عنه أَنه قَالَ قَالَ لي مُحَمَّد بن الْحسن صاحبنا أعلم أم صَاحبكُم قلت تُرِيدُ المكابرة أم الْإِنْصَاف قَالَ بل الْإِنْصَاف فَقلت لَهُ فَمَا الْحجَّة عنْدكُمْ قَالَ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس قَالَ قلت أنْشدك الله صاحبنا أعلم بِكِتَاب الله أم صَاحبكُم فَقَالَ إِذا أنشدتني بِاللَّه فصاحبكم قلت فصاحبنا أعلم

ص: 107

بِسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أم صَاحبكُم قَالَ صَاحبكُم قلت فصاحبكم أعلم بأقاويل أَصْحَاب رَسُول الله أم صَاحبكُم قَالَ صَاحبكُم قلت فَبَقيَ شَيْء غير الْقيَاس قَالَ لَا قلت فَنحْن ندعي الْقيَاس أَكثر مِمَّا تَدعُونَهُ وَإِنَّمَا يُقَاس على الْأُصُول فَيعرف الْقيَاس قَالَ وَيُرِيد بصاحبكم مَالِكًا قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فقد كفانا الشَّافِعِي رضي الله عنه بِهَذِهِ الْحِكَايَة المناظرة لأَصْحَاب أبي حنيفَة وَقد عرف فضل صاحبنا على مَالك فَإِنَّهُ حصل مَا حصله مَالك وَزَاد عَلَيْهِ كثيرا وَقد ذكرنَا شَاهد هَذَا بِاعْتِبَار الْمسند مَعَ الْمُوَطَّأ وَقد كَانَ الشَّافِعِي عَالما بفنون الْعُلُوم إِلَّا أَنه سلم لِأَحْمَد علم النَّقْل الَّذِي عَلَيْهِ مدَار الْفِقْه

وَقد روى ابْن الْجَوْزِيّ عَن عبد الله بن أَحْمد قَالَ سَمِعت أبي يَقُول قَالَ لي الشَّافِعِي أَنْتُم أعلم بِالْحَدِيثِ منا فَإِذا صَحَّ الحَدِيث فَقولُوا لنا حَتَّى نَذْهَب إِلَيْهِ

وَأخرج هَذِه الْحِكَايَة الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم الْحَافِظ

وروى الطَّبَرَانِيّ أَن أَحْمد كَانَ يَقُول اسْتَفَادَ منا الشَّافِعِي مَا لم نستفد مِنْهُ وَأخرج الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر عَن الْحسن بن الرّبيع أَنه قَالَ أَحْمد إِمَام الدُّنْيَا وَقَالَ لَوْلَا أَحْمد لأحدثوا فِي الدّين وَقَالَ إِن لِأَحْمَد أعظم منَّة على جَمِيع الْمُسلمين وَحقّ على كل مُسلم أَن يسْتَغْفر لَهُ قلت وَقد ذكرنَا كثيرا من مناقبه فِي كتَابنَا تَهْذِيب تَارِيخ ابْن عَسَاكِر قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ قلت فَهَذَا بَيَان طَرِيق الْمُجْتَهدين من أَصْحَاب أَحْمد لقُوَّة علمه وفضله الَّذِي حث على اتِّبَاعه عَامَّة المتبعين يَعْنِي بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة فَأَما الْمُجْتَهد من أَصْحَابه فَإِنَّهُ تتبع دَلِيله من غير تَقْلِيد لَهُ وَلِهَذَا يمِيل إِلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ

ص: 108

دون الْأُخْرَى وَرُبمَا اخْتَار مَا لَيْسَ فِي الْمَذْهَب أصلا لِأَنَّهُ تَابع للدليل وَإِنَّمَا ينْسب هَذَا إِلَى مذْهبه لميله لعُمُوم أَقْوَاله ثمَّ قَالَ فَإِن قَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة إِن أَبَا حنيفَة قد لَقِي الصَّحَابَة فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا إِن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ لم يلق أَبُو حنيفَة أحدا من الصَّحَابَة وَقَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب رأى أنس بن مَالك

وَالثَّانِي إِن سعيد بن الْمسيب وَغَيره وَمن التَّابِعين لقوا الصَّحَابَة فَإِن كَانَ الْفضل باللقي فَلم لم يقدموهم عَلَيْهِ وَإِن قَالَ أَصْحَاب مَالك إِن مَالِكًا لَقِي التَّابِعين قُلْنَا هَذَا يُوجب تَقْدِيم التَّابِعين لرؤيتهم الصَّحَابَة وَإِن قَالَ الشَّافِعِيَّة إِن الشَّافِعِي نسبه أقرب إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من غَيره قُلْنَا النّسَب لَا يُوجب التَّقْدِيم فِي الْعلم فَإِن الْحسن وَابْن سِيرِين وَعَطَاء وَطَاوُس وَعِكْرِمَة وَمَكْحُول وَغَيرهم بل عُمُوم التَّابِعين كَانُوا من الموَالِي وتقدموا على خلق كثير من أهل الشّرف بِالنّسَبِ لِأَن تقدمهم كَانَ بِكَثْرَة الْعلم لَا بِقرب النّسَب وَقد أَخذ النَّاس بقول ابْن مَسْعُود وَزيد مَا لم يَأْخُذُوا بقول ابْن عَبَّاس قلت وَهَذَا بَاب وَاسع جدا

ص: 109

وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ من هَذَا كثيرا ثمَّ قَالَ هَذَا قدر الِانْتِصَار لاختيارنا لمَذْهَب أَحْمد وَرَحْمَة الله على الْكل وَلِلنَّاسِ فِيمَا يعشقون مَذَاهِب

وَكَانَ الإِمَام أَبُو الْوَفَاء عَليّ بن عقيل الْبَغْدَادِيّ يَقُول هَذَا الْمَذْهَب يَعْنِي مَذْهَب أَحْمد إِنَّمَا ظلمه أَصْحَابه لِأَن أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ إِذا برع أَحْمد مِنْهُم فِي الْعلم تولى الْقَضَاء وَغَيره من الولايات فَكَانَت الْولَايَة سَببا لتدريسه واشتغاله بِالْعلمِ

فَأَما أَصْحَاب أَحْمد فَإِنَّهُ قل فيهم من يعلم بِطرف من الْعلم إِلَّا ويخرجه ذَلِك إِلَى التَّعَبُّد والتزهد لغَلَبَة الْخَيْر على الْقَوْم فينقطعون عَن التشاغل بِالْعلمِ انْتهى

وَهَذَا غَايَة مَا وَقع اختيارنا عَلَيْهِ من القَوْل فِي هَذَا الْمَوْضُوع ليعلم المتبع لمَذْهَب مَا لأي معنى اتبعهُ ولأي برهَان اخْتَارَهُ دون غَيره فَلَا يكون مُتبعا للهوى والتقليد الْأَعْمَى الضار والتعصب الذميم وَالله الْمُسْتَعَان

تَنْبِيه لَا يذهب بك الْوَهم مِمَّا قدمنَا إِلَى أَن الَّذين اخْتَارُوا مَذْهَب أَحْمد وقدموه على غَيره من الْأَئِمَّة وهم من كبار أَصْحَابه أَنهم اخْتَارُوا تَقْلِيده على تَقْلِيد غَيره فِي الْفُرُوع فَإِن مثل هَؤُلَاءِ يَأْبَى ذَلِك مسلكهم فِي كتبهمْ ومصنفاتهم بل المُرَاد بِاخْتِيَار

ص: 110

مذْهبه إِنَّمَا هُوَ السلوك على طَريقَة أُصُوله فِي استنباط الْأَحْكَام وَإِن شِئْت قل السلوك فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد مسلكه دون مَسْلَك غَيره على الطَّرِيقَة الَّتِي سنبينها فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله وَأما التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع فَإِنَّهُ يترفع عَنهُ كل من لَهُ ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدَّلِيل ومعرفته وَمَا التَّقْلِيد إِلَّا للضعفاء الجامدين الَّذين لَا يفرقون بَين الغث والسمين وَكَيف يظنّ بِمثل أَحْمد بن جَعْفَر ابْن الْمُنَادِي وَأبي بكر النجاد وَمُحَمّد بن الْحسن أَبُو بكر الْآجُرِيّ وَالْحسن بن حَامِد وَالْقَاضِي أبي يعلى مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن خلف بن الفرا وَأبي الْوَفَاء عَليّ بن عقيل الْبَغْدَادِيّ وَأبي الْخطاب مَحْفُوظ بن أَحْمد الكلوذاني وَعلي بن عبيد الله الزاغواني

وموفق الدّين عبد الله بن قدامَة الْمَقْدِسِي

وَشَيخ الْإِسْلَام الْمجد ابْن تَيْمِية وحفيده الإِمَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن تَيْمِية

والمحقق شمس الدّين مُحَمَّد بن الْقيم وَغَيرهم أَنهم مقلدون فِي الْفُرُوع وكتبهم الممتلئة بالأدلة طبقت الْآفَاق ومداركهم ومسالكهم سَارَتْ بمدحها الركْبَان وكتبهم مَلَأت قلب كل منصف من الْإِيمَان والإيقان فَتنبه أَيهَا الألمعي وَلَا تكن من المقلدين الغافلين

ص: 111