المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل اعلم أن الأسماء على أربعة أضرب - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران

[ابن بدران]

فهرس الكتاب

- ‌العقد الأول

- ‌رَوْضَة فِي كَلِمَات للْإِمَام فِي مسَائِل من أصُول الدّين

- ‌شذرة أَيْضا فِي كَلَامه فِي الْأُصُول

- ‌العقد الثَّانِي

- ‌فِي السَّبَب الَّذِي لأَجله اخْتَار كثير من كبار الْعلمَاء مَذْهَب الإِمَام أَحْمد على مَذْهَب غَيره

- ‌العقد الثَّالِث

- ‌فِي ذكر أصُول مذْهبه فِي استنباط الْفُرُوع وَبَيَان طَرِيقَته فِي ذَلِك

- ‌العقد الرَّابِع

- ‌فِي مسالك كبار أَصْحَابه فِي تَرْتِيب مذْهبه واستنباطه من فتياه وَالرِّوَايَات عَنهُ وتصرفهم فِي ذَلِك الْإِرْث المحمدي الأحمدي

- ‌شذرة فِي بَيَان طَريقَة الْأَصْحَاب فِي فهم كَلَام الإِمَام أَحْمد وَطَرِيق تصرفهم فِي الرِّوَايَات عَنهُ

- ‌فصل

- ‌فصل أَرَاك أَيهَا النَّاظر قد علمت عَمَّا رقمناه آنِفا

- ‌فصل

- ‌فصل فِي قَول الشَّافِعِي رضي الله عنه إِذا وجدْتُم فِي كتابي خلاف سنة

- ‌العقد الْخَامِس

- ‌فِي الْأُصُول الْفِقْهِيَّة الَّتِي دونهَا الْأَصْحَاب

- ‌مُقَدّمَة

- ‌بسط هَذَا الْإِجْمَال

- ‌فصل فِي التَّكْلِيف

- ‌فصل فِي أَحْكَام التَّكْلِيف

- ‌فصل فِي مَسْأَلَة مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌تَتِمَّة

- ‌فَائِدَة

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل فِي خطاب الْوَضع

- ‌تَنْبِيه

- ‌فَائِدَة

- ‌فصل فِي اللُّغَات

- ‌فصل اعْلَم أَن الْأَسْمَاء على أَرْبَعَة أضْرب

- ‌فصل فِي الْأُصُول

- ‌الْكتاب الْعَزِيز الَّذِي هُوَ أصل الْأُصُول

- ‌فصل فِي شذرات من مبَاحث السّنة

- ‌تَتِمَّة

- ‌بَاب النّسخ

- ‌تَنْبِيه

- ‌فَائِدَتَانِ

- ‌الْأَوَامِر والنواهي

- ‌فصل وَأما النَّهْي

- ‌فَوَائِد

- ‌الْعُمُوم وَالْخُصُوص

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل

- ‌خَاتِمَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي الْمُطلق والمقيد

- ‌فصل الْمُجْمل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم

- ‌الأَصْل الثَّالِث الْإِجْمَاع

- ‌الأَصْل الرَّابِع من الْأُصُول الْمُتَّفق عَلَيْهَا اسْتِصْحَاب الْحَال

- ‌الْأُصُول الْمُخْتَلف فِيهَا

- ‌الأَصْل الْخَامِس الْقيَاس

- ‌فصل

- ‌فصل فِي شَرَائِط أَرْكَان الْقيَاس ومصححاتها

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي الأسئلة الْوَارِدَة على الْقيَاس

- ‌فصل

- ‌عقد نضيد فِي الِاجْتِهَاد والتقليد

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل

- ‌تَنْبِيه

- ‌فصل

- ‌عقد نَفِيس فِي تَرْتِيب الْأَدِلَّة وَالتَّرْجِيح

- ‌فصل

- ‌تَنْبِيه

- ‌العقد السَّادِس

- ‌فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ المؤلفون فِي فقه الإِمَام أَحْمد مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُبْتَدِي وأبرز الْأَسْمَاء الَّتِي تذكر فِي مصنفاتهم

- ‌العقد السَّابِع

- ‌فِي ذكر الْكتب الْمَشْهُورَة فِي الْمَذْهَب وَبَيَان طَريقَة بَعْضهَا وَمَا عَلَيْهِ من التعليقات والحواشي حسب الْإِمْكَان

- ‌الْمُغنِي ومختصرالخرقي

- ‌الْمُسْتَوْعب

- ‌الْكَافِي

- ‌الْعُمْدَة

- ‌مُخْتَصر ابْن تَمِيم

- ‌رُؤُوس الْمسَائِل

- ‌الْهِدَايَة

- ‌التَّذْكِرَة

- ‌الْمُحَرر

- ‌الْمقنع

- ‌الْفُرُوع

- ‌مغنى ذَوي الأفهام عَن الْكتب الْكَثِيرَة فِي الْأَحْكَام

- ‌مُنْتَهى الإرادات فِي جمع الْمقنع مَعَ التَّنْقِيح وزيادات

- ‌الْإِقْنَاع لطَالب الِانْتِفَاع

- ‌دَلِيل الطَّالِب

- ‌غَايَة الْمُنْتَهى

- ‌عُمْدَة الرَّاغِب

- ‌كَافِي الْمُبْتَدِي وأخصر المختصرات ومختصر الإفادات

- ‌الرعايتان

- ‌مُخْتَصر الشَّرْح الْكَبِير والإنصاف

- ‌العقد الثَّامِن

- ‌فِي أَقسَام الْفِقْه عِنْد أَصْحَابنَا وَمَا ألف فِي هَذَا النَّوْع وَفِي هَذَا العقد دُرَر

- ‌فصل وَأما مَا اتَّصل بِنَا خَبره من كتب التَّفْسِير لِأَصْحَابِنَا

- ‌فصل

- ‌فرائد فَوَائِد

- ‌لطائف قَوَاعِد

- ‌رد الْعَجز على الصَّدْر

الفصل: ‌فصل اعلم أن الأسماء على أربعة أضرب

عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم وَأَيْضًا فَإِن الدول من قبل وَإِلَى عهدنا اصْطَلحُوا على جعل اللُّغَة الرسمية فِيمَا بَينهم لُغَة وَاحِدَة ليسهل التخاطب بهَا فِيمَا بَينهم واختاروا أَن تكون أخف من غَيرهَا على لسانهم كَمَا جعل دوَل زمننا اللُّغَة الفرنسوية هِيَ اللُّغَة الرسمية فِيمَا بَينهم

وكل دولة حكمت ذَا ألسن مُخْتَلفَة تجْعَل لغتها رسمية فِيمَا بَينهم وَهَذَا قانون طبيعي فِي الْعمرَان

وَلما بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمِيع الْأُمَم على اخْتِلَاف ألسنتهم اقْتَضَت حكمته أَن يعلم الْخلق ذَلِك القانون الطبيعي فَأنْزل كِتَابه بلغَة نبيه الَّتِي هِيَ أفْصح اللُّغَات وأوسعها وأدخلها فِي الإعجاز ليجعل اللُّغَة الْعَرَبيَّة لُغَة رسمية لجَمِيع الْأُمَم الَّتِي أوجب عَلَيْهَا الْإِيمَان بذلك النَّبِي الْكَرِيم وليحصل الْوِفَاق لأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي اللِّسَان كَمَا وَجب عَلَيْهِم الْوِفَاق فِي الْقُلُوب وَفِي التَّوْحِيد وَفِي جَمِيع المعتقدات فَليعلم ذَلِك وَالله الْمُوفق

‌فصل اعْلَم أَن الْأَسْمَاء على أَرْبَعَة أضْرب

وضيعية وعرفية وشرعية ومجاز مُطلق فَأَما الوضعية فَهِيَ الثَّابِتَة بِالْوَضْعِ وَهُوَ تَخْصِيص الْوَاضِع لفظا باسم بِحَيْثُ إِذا أطلق ذَلِك اللَّفْظ فهم مِنْهُ ذَلِك الْمُسَمّى كَمَا أَنه مَتى أطلق لفظ الْأسد فهم مِنْهُ حد الْحَيَوَان الْخَاص المفترس

والعرفي مَا خص عرفا بِبَعْض مسمياته الَّتِي وضع لَهَا فِي أصل اللُّغَة عِنْد ابْتِدَاء وَضعهَا كَلَفْظِ الدَّابَّة الَّذِي هُوَ فِي أصل الْوَضع لكل مَا دب لاشتقاقه من الدبيب ثمَّ خص فِي عرف الِاسْتِعْمَال بذوات الْأَرْبَع وَإِن كَانَ بِاعْتِبَار الأَصْل يتَنَاوَل الطَّائِر لوُجُود الدبيب مِنْهُ

ص: 173

وَمِنْه مَا شاع أَي اشْتهر اسْتِعْمَاله فِي غير مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل كالغائط فَهُوَ فِي أصل الْوَضع اسْم للمطمئن أَي المنخفض من الأَرْض ثمَّ اشْتهر اسْتِعْمَاله عرفا فِي الْخَارِج المستقذر من الْإِنْسَان وكالرواية الَّتِي هِيَ فِي الأَصْل اسْم للبعير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ ثمَّ اشْتهر اسْتِعْمَالهَا فِي المزادة الَّتِي هِيَ وعَاء المَاء وَهَذَا اللَّفْظ الْعرفِيّ هُوَ مجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى الوضعي الَّذِي هُوَ الْمَوْضُوع الأول وَحَقِيقَة فِيمَا خص بِهِ فِي الْعرف لاشتهاره فِيهِ

والشرعية مَا نَقله الشَّرْع أَي خرج بهَا الشَّارِع عَن وضع أهل اللُّغَة ثمَّ وَضعهَا بِإِزَاءِ معنى شَرْعِي كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَقيل إِن الشَّارِع أبقى فِي الصَّلَاة معنى الدُّعَاء ثمَّ ضم إِلَيْهِ شُرُوطًا كَالْوضُوءِ وَالْوَقْت والسترة وَغير ذَلِك وَهَذِه الْأَلْفَاظ عِنْد إِطْلَاقهَا تصرف إِلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ لِأَن الشَّارِع مُبين للشَّرْع لَا للغة وَكَذَا فِي كَلَام الْفُقَهَاء وَمَتى ورد اللَّفْظ وَجب حمله على الْحَقِيقَة فِي بَابه لُغَة أَو شرعا أَو عرفا وَلَا يحمل على الْمجَاز إِلَّا بِدَلِيل يمْنَع حمله على الْحَقِيقَة من معَارض قَاطع أَو عرف مَشْهُور كمن قَالَ رَأَيْت راوية فَإِن إِرَادَة المزادة مِنْهُ ظَاهِرَة بِالْعرْفِ الْمَشْهُور

وَأما الْمجَاز الْمُطلق فَهُوَ اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي غير مَوْضُوع أول على وَجه يَصح فاللفظ الْمُسْتَعْمل جنس يعم الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَفِي غير مَوْضُوع أول فصل مخرج للْحَقِيقَة وَذَلِكَ كاستعمال لفظ الْأسد فِي الرجل الشجاع فَإِنَّهُ غير مَوْضُوع للأسد الأول إِذْ مَوْضُوعه الأول هُوَ السَّبع

ص: 174

وَقَوْلنَا على وَجه يَصح نُرِيد بِهِ شَرط الْمجَاز وَهُوَ أَنه لَا بُد لَهُ من علاقَة مَعَ قرينَة مَانِعَة من إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والعلاقة بِكَسْر الْعين هِيَ مَا ينْتَقل الذِّهْن بواسطته عَن الْمجَاز إِلَى الْحَقِيقَة وَذَلِكَ كالشجاعة الَّتِي ينْتَقل الذِّهْن بواسطتها عَن الرجل الشجاع إِذا أطلقنا عَلَيْهِ لفظ أَسد إِلَى السَّبع المفترس إِذْ لَوْلَا هَذِه العلاقة وَهِي صفة الشجَاعَة لما صَحَّ التَّجَوُّز وَلما انْتقل الذِّهْن إِلَى السَّبع المفترس عِنْد إِطْلَاق لفظ الْأسد على الرجل الشجاع وَلَو كَانَ لفظ الْأسد عَلَيْهِ علمية ارتجالا

ص: 175

وَالْمُعْتَبر فِي العلاقة أَن تكون ظَاهِرَة يسْرع الْفَهم إِلَيْهَا عِنْد إِطْلَاق لفظ الْمجَاز حرصا على سرعَة التفاهم وحذرا من إبطائه لِأَن ذَلِك عكس مَقْصُود الْوَاضِع والمتجوز والمخاطبين فِيمَا بَينهم كإطلاق لفظ الْأسد على الشجاع بِجَامِع الشجَاعَة وَهِي صفة ظَاهِرَة لَا كإطلاق لفظ الْأسد على الْحَيَوَان الأبجر لخفاء صفة البجر فِي الْأسد فَإِنَّهُ لَا يكَاد يعلمهَا فِيهِ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس بِخِلَاف الشجَاعَة فَإِنَّهُ لَا يجهلها إِلَّا الْقَلِيل النَّادِر

وَاعْلَم أَن للمجاز علاقات كَثِيرَة وَهِي وَإِن كَانَ اسْتِيفَاء الْكَلَام عَلَيْهَا مَحَله علم الْبَيَان وَذَلِكَ الْعلم مَشْهُور بَين أهل الْعلم فِي زمننا أَكثر من شهرة علم الْأُصُول إِلَّا أننا لَا بُد لنا من ذكر جمل مِنْهَا لاستدعاء الْمقَام لَهَا فَنَقُول يتجوز بِالسَّبَبِ عَن الْمُسَبّب نَحْو قَول الْقَائِل فعلت هَذَا لأبلو مَا فِي ضميرك أَي أعرفهُ تجوز بالابتلاء عَن الْعرْفَان لِأَن الِابْتِلَاء سَببه إِذْ من ابتلى شَيْئا عرفه

وأصناف السَّبَب أَرْبَعَة قابلي وصوري وفاعلي وغائي وكل وَاحِد مِنْهُمَا يتجوز بِهِ عَن سَببه

مِثَال الأول وَهُوَ تَسْمِيَة الشَّيْء باسم قابله قَوْلهم سَالَ الْوَادي وَالْأَصْل سَالَ المَاء فِي الْوَادي لَكِن لما كَانَ الْوَادي سَببا قَابلا لسيلان المَاء فِيهِ صَار المَاء من حَيْثُ القابلية كالسبب لَهُ فَوضع الْوَادي مَوضِع

وَمِثَال الثَّانِي وَهُوَ تَسْمِيَة الشَّيْء باسم صورته هَذِه صُورَة الْأَمر وَالْحَال أَي حَقِيقَته

وَمِثَال الثَّالِث وَهُوَ تَسْمِيَة الشَّيْء باسم فَاعله حَقِيقَة أَو ظنا قَوْلهم فِي الْكتاب الْجَامِع لنَوْع علمه هُوَ شيخ جَالس على الْكُرْسِيّ أَو على الرف لِأَن الشَّيْخ أَعنِي المُصَنّف هُوَ فَاعل الْكتاب

وَقَوْلهمْ

ص: 176

للمطر سَمَاء لِأَن السَّمَاء فَاعل مجازي للمطر بِدَلِيل إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهَا فِي قَوْلهم أمْطرت السَّمَاء

وَمِثَال الرَّابِع وَهُوَ تَسْمِيَة الشَّيْء باسم غَايَته تَسْمِيَة الْعِنَب خمرًا وَالْعقد نِكَاحا لِأَنَّهُ غَايَته ويؤول إِلَيْهِ

الْقسم الثَّانِي التَّجَوُّز بِالْعِلَّةِ عَن الْمَعْلُول كالتجوز بِلَفْظ الْإِرَادَة عَن المُرَاد لِأَنَّهَا عِلّة

كَقَوْلِه تَعَالَى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} النِّسَاء 150 أَي يفرقون بِدَلِيل أَنه قوبل بقوله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا} النِّسَاء 152 وَلم يقل وَلم يُرِيدُوا أَن يفرقُوا وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِل رَأَيْت الله فِي كل شَيْء لِأَن الله سبحانه وتعالى هُوَ موجد كل شَيْء وعلته فَأطلق لَفظه عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ رَأَيْت كل شَيْء فاستدللت بِهِ على وجود الله سُبْحَانَهُ لظُهُور آثَار الْقُدْرَة والإلهية فِيهِ فَدلَّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ دلَالَة الْعلَّة على معلولها وَالْمَفْعُول على فَاعله

الْقسم الثَّالِث التَّجَوُّز باللازم عَن الْمَلْزُوم كتسمية السّقف جدارا لِأَن الْجِدَار لَازم لَهُ وَتَسْمِيَة الْإِنْسَان حَيَوَانا لِأَن الْحَيَوَان لَازم لَهُ

الْقسم الرَّابِع التَّجَوُّز بِلَفْظ الْأَثر عَن الْمُؤثر كتسميتهم ملك الْمَوْت موتا لِأَن الْمَوْت أثر لَهُ وَقَول الشَّاعِر يصف ظَبْيَة فَإِنَّمَا هِيَ إقبال وإدبار لِأَن الإقبال والإدبار من أفعالها وَهِي آثَار لَهَا وَكَذَلِكَ قَوْلهم زيد عدل أَو صَوْم أَو كرم أَو خيرا أَو بر

وكقولهم

ص: 177

الطَّرِيق جور أَي مائل فَهُوَ وصف للطريق فَينزل منزلَة الْأَثر وَزيد عدل وَنَحْوه سمي باسم فعل من أَفعاله

الْقسم الْخَامِس التَّجَوُّز بِلَفْظ الْمحل عَن الْحَال فِيهِ كتسمية المَال كيسا فِي قَوْلهم هَات الْكيس وَالْمرَاد المَال الَّذِي فِيهِ لِأَنَّهُ حَال فِي الْكيس وَكَذَلِكَ تَسْمِيَة الْخمر كأسا أَو زجاجة

وَالطَّعَام مائدة أَو خوانًا

وَالْمَيِّت جَنَازَة

والمكتوب ورقة كتابا وبطاقة لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء حَالَة فِي الْمحَال الْمَذْكُورَة فَهَذِهِ خَمْسَة أَقسَام وَإِذا قابلتها بعكسها حصل لَك خَمْسَة أَقسَام أُخْرَى وَإِلَيْك بَيَانهَا

السَّادِس التَّجَوُّز بِلَفْظ الْمُسَبّب عَن السَّبَب كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْبَقَرَة 188 أَي لَا تأخذوها فَتجوز بِالْأَكْلِ عَن الْأَخْذ لِأَنَّهُ مسبب عَن الْأَخْذ إِذْ الْإِنْسَان يَأْخُذ فيأكل

السَّابِع التَّجَوُّز بِلَفْظ الْمَعْلُول عَن الْعلَّة كالتجوز بِلَفْظ المُرَاد عَن الْإِرَادَة كَقَوْلِه تَعَالَى {إِذا قَضَى أَمْراً} آل عمرَان 47 أَي إِذا أَرَادَ أَن يقْضِي فالقضاء مَعْلُول الْإِرَادَة فَتجوز بِهِ عَنْهَا

وَكَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ} الْمَائِدَة 42 أَي إِذا أردْت أَن تحكم

الثَّامِن التَّجَوُّز بالملزوم عَن اللَّازِم كتسمية الْعلم حَيَاة لِأَنَّهُ ملزوم الْحَيَاة إِذْ الْحَيَاة شَرط للْعلم والمشروط ملزوم للشّرط فَكَذَلِك التَّجَوُّز بِكُل مَشْرُوط عَن شَرطه هُوَ تجوز بالملزوم عَن اللَّازِم لَهُ

التَّاسِع التَّجَوُّز بِلَفْظ الْمُؤثر عَن الْأَثر كَقَوْل الْقَائِل

ص: 178

رَأَيْت الله وَمَا أرى فِي الْوُجُود إِلَّا الله يُرِيد آثاره الدَّالَّة عَلَيْهِ فِي الْعَالم

وكقولهم فِي الْأَمر المهم وَغَيره هَذِه إِرَادَة الله أَي مُرَاده فَأطلق لفظ الْإِرَادَة على المُرَاد إطلاقا لاسم الْمُؤثر على الْأَثر لِأَن الْإِرَادَة مُؤثرَة فِي المُرَاد

الْعَاشِر التَّجَوُّز بِلَفْظ الْحَال عَن الْمحل كتسمية الْكيس مَالا والكأس خمرًا

والمائدة طَعَاما والجنازة مَيتا والورقة مَكْتُوبًا

فَهَذِهِ الْخَمْسَة عكس الَّتِي قبلهَا وَبهَا صَار الْكل عشرَة

الْحَادِي عشر تَسْمِيَة الشَّيْء بِاعْتِبَارِهِ وصف زائل أَي كَانَ بِهِ وَزَالَ عَنهُ كإطلاق العَبْد على الْعَتِيق بِاعْتِبَار وصف الْعُبُودِيَّة الَّذِي كَانَ قَائِما بِهِ فَزَالَ عَنهُ وَكَذَا تَسْمِيَة الْخمر عصيرا والعصير عنبا بِاعْتِبَار مَا كَانَ

الثَّانِي عشر تَسْمِيَة الشَّيْء بِاعْتِبَار وصف يؤول وَيصير إِلَيْهِ كإطلاق الْخمر على الْعصير فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} يُوسُف 36 وَإِنَّمَا كَانَ يعصر عنبا فَيحصل مِنْهُ عصير

لَكِن لما كَانَ الْعصير يؤول إِلَى وصف الْخمر بِهِ أطلق عَلَيْهِ لفظ الْخمر

الثَّالِث عشر إِطْلَاق مَا بِالْقُوَّةِ على مَا بِالْفِعْلِ كتسمية الْخمر فِي الدن مُسكرا لِأَن فِيهِ قُوَّة الْإِسْكَار

وَتَسْمِيَة النُّطْفَة إنْسَانا لِأَن الْإِنْسَان فِيهِ بِالْقُوَّةِ أَي قَابل لصيرورته إنْسَانا

الرَّابِع عشر عكس الَّذِي قبله وَهُوَ إِطْلَاق مَا بِالْفِعْلِ على مَا بِالْقُوَّةِ كتسمية الْإِنْسَان الْحَقِيقِيّ نُطْفَة أَو مَاء مهينا وَهُوَ أَيْضا من بَاب التَّسْمِيَة بِاعْتِبَار وصف زائل

الْخَامِس عشر التَّجَوُّز بِالزِّيَادَةِ كَقَوْلِه تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى 11 أَي لَيْسَ مثله وَالْكَاف زَائِدَة على رَأْي من ذهب إِلَى هَذَا وَالتَّحْقِيق أَن لَا زِيَادَة فِي الْآيَة وَأَن الْمَعْنى لَو فَرضنَا أَن لَهُ مثلا فَلَيْسَ لمثله مثل فانتفت الْمُمَاثلَة عَنهُ تَعَالَى بطرِيق الْأَوْلَوِيَّة لِأَن انْتِفَاء مثل الْمثل يُوجب انْتِفَاء الْمثل والمثال الْجيد أَن يُقَال لَيْسَ كزيد إنْسَانا

السَّادِس عشر التَّجَوُّز بِالنَّقْصِ كَقَوْلِه تَعَالَى حِكَايَة {واسأل الْقرْيَة} يُوسُف

ص: 179

82 -

) أَي أهل الْقرْيَة {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} الْبَقَرَة 93 أَي حب الْعجل {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} يُوسُف 32 أَي فِي حبه

السَّابِع عشر تَسْمِيَة الشَّيْء باسم مَا يشابهه وَهُوَ الْمُسَمّى بالاستعارة بالِاتِّفَاقِ كَقَوْلِك رَأَيْت أسدا فِي الْحمام تُرِيدُ رجلا شجاعا

وَكلمت حمارا تُرِيدُ بِهِ رجلا بليدا وَهَذَا النَّوْع يحْتَاج إِلَى شرح وَبَيَان وَمحله كتب الْبَيَان وَاسْتِيفَاء بَحثه هُنَا يخرجنا عَن الْمَقْصُود

الثَّامِن عشر تَسْمِيَة الشَّيْء باسم ضِدّه كَقَوْلِه تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلهَا} الشورى 4 {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} الْبَقَرَة 194 حَيْثُ سمى الْجَزَاء سَيِّئَة وعدوانا وَيجوز أَن يَجْعَل من بَاب الْمجَاز للمشابهة لِأَن جَزَاء السَّيئَة يشبهها فِي صُورَة الْفِعْل وَفِي كَونهَا تسوء من وصلت إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ جَزَاء الْعدوان وَيجوز أَن يكون هَذَا من بَاب التَّجَوُّز بِلَفْظ السَّبَب عَن الْمُسَبّب حَيْثُ يُسمى عُقُوبَة السَّيئَة والاعتداء سَيِّئَة واعتداء لِأَن الْعقُوبَة مسببة عَن السَّبَب والاعتداء

التَّاسِع عشر تَسْمِيَة الْجُزْء باسم الْكل كإطلاق لفظ الْعَام وَالْمرَاد الْخَاص كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} آل عمرَان 173 وَالْمرَاد وَاحِد معِين وَقَوْلنَا فَلم الرِّجَال وَالْمرَاد بَعضهم وَرَأَيْت زيدا وَإِنَّمَا رَأَيْت بعضه

ص: 180

الْعشْرُونَ عكس ذَلِك كتسمية الْكل باسم الْجُزْء كَقَوْلِهِم للزنجي أسود وَإِن كَانَ الْأسود إِنَّمَا هُوَ جزئه وَهُوَ أَكْثَره فَأطلق الْأسود على جَمِيعه وَإِن كَانَ أَسْنَانه وأخمصه أسودين لَكِن هَذَا الْمِثَال لَيْسَ بجيد وَإِن ذكره صَاحب الْمَحْصُول والمثال الْجيد قَوْله صلى الله عليه وسلم الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وهم يَد على من سواهُم فَسمى الْمُسلمين باسم جُزْء يسير مِنْهُم وَهُوَ الْيَد إِشَارَة إِلَى أَنه يَنْبَغِي لَهُم أَن يَكُونُوا فِي الائتلاف والاجتماع كيد وَاحِدَة

الْحَادِي وَالْعشْرُونَ إِطْلَاق اللَّفْظ الْمُشْتَقّ بعد زَوَال الْمُشْتَقّ مِنْهُ كَقَوْلِنَا للْإنْسَان بعد فَرَاغه من الضَّرْب ضَارب وَهَذَا مَحل خلاف

الثَّانِي وَالْعشْرُونَ الْمجَاز بالمجاورة كتسمية مزادة المَاء راوية

الثَّالِث وَالْعشْرُونَ الْمجَاز الْعرفِيّ كاستعمال الدَّابَّة فِي الْحمار وَنَحْوه

الرَّابِع وَالْعشْرُونَ تَسْمِيَة الْمُتَعَلّق بِفَتْح اللَّام باسم الْمُتَعَلّق بِكَسْرِهَا كتسمية الْمَعْلُوم علما والمقدور وَقدره

كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} الْبَقَرَة 255 أَي معلومه وَقَوْلهمْ رَأينَا قدرَة الله أَي مقدوره وَقد يتجوز بِلَفْظ الْمَعْلُوم عَن الْعلم والمقدور عَن الْقُدْرَة

ص: 181

عكس الأول كَمَا لَو حلف حَالف بِمَعْلُوم الله ومقدوره وَأَرَادَ الْعلم وَالْقُدْرَة جَازَ وانعقدت يَمِينه

وَاعْلَم أَن وُجُوه الْمجَاز أَكثر مِمَّا ذَكرْنَاهُ هُنَا وَكلهَا ناشئة عَن تعدد أَصْنَاف العلاقة الرابطة بَين مَحل الْمجَاز والحقيقة فَكل مسميين بَينهمَا علاقَة رابطة جَازَ التَّجَوُّز باسم أَحدهمَا عَن الآخر سَوَاء نقل ذَلِك التَّجَوُّز الْخَاص عَن الْعَرَب أَو لم ينْقل كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد البلغاء نعم يتَفَاوَت الْمجَاز قُوَّة وضعفا بِحَسب تفَاوت ربط العلاقة بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَذَلِكَ التَّفَاوُت قد يكون بِدَرَجَة وَاحِدَة كَمَا ذكر فِي الراوية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجمل وَقد يكون بدرجتين كَقَوْل الشَّاعِر إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم وَعَيناهُ وَإِن كَانُوا غضابا فَفِيهِ مجَاز إفرادي من جِهَة أَنه سمى الْغَيْث سَمَاء لحصوله عَن المَاء النَّازِل من السَّحَاب المجاور للسماء وَهُوَ الْعُلُوّ

ومجاز إسنادي وَهُوَ وَصفه العشب بالنزول لحصوله عَن المَاء المتصف بالنزول من الْغَمَام إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يخفى على المتأمل

وَيَنْبَغِي لمن حاول علم الشَّرِيعَة النّظر والارتياض فِي هَذِه الْأَنْوَاع المجازية ليعرف مواقع أَلْفَاظ الْكتاب وَالسّنة وَقد صنف فِيهِ الْعلمَاء كتبا كَثِيرَة كالإيجاز فِي الْمجَاز لِلْحَافِظِ ابْن الْقيم وإعجاز الْقُرْآن للخطابي وللرماني وَلابْن سراقَة وَلأبي بكر الباقلاني

ص: 182

ولعَبْد القاهر الْجِرْجَانِيّ وللفخر الرَّازِيّ وَلابْن أبي الْأصْبع واسْمه الْبُرْهَان وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره

وَقَالَ نجم الدّين سُلَيْمَان الطوفي كتاب الْمجَاز للشَّيْخ عزالدين ابْن عبد السَّلَام أَجود مَا رَأَيْت فِي هَذَا الْفَنّ وَلَقَد أحسن فِيهِ غَايَة الْإِحْسَان وَضَمنَهُ من ذَلِك النكت البديعة والفرائد الحسان فجزاه الله وَسَائِر الْعلمَاء عَمَّا أفادوا بِهِ جزيل الْإِحْسَان انْتهى

وَحكى السُّيُوطِيّ فِي الإتقان أَنه لخص هَذَا الْكتاب وَضم إِلَيْهِ زيادات كَثِيرَة وسمى ملخصه مجَاز الفرسان إِلَى مجَاز الْقُرْآن ثمَّ لخصه أَيْضا فِي كِتَابه الإتقان وللطوفي كتاب فواصل الْآيَات وَأقرب مَا ذكر تناولا ووجودا كتاب الإيجاز فِي الْمجَاز لِابْنِ الْقيم فَإِنَّهُ الضَّالة المنشودة وَقد طبع فِي مصر فيسهل تنَاوله وجنى جنته لمتناوله دَان فجزاه الله خيرا

تَنْبِيه اخْتلف الْعلمَاء فِي وُقُوع الْمجَاز فِي الْقُرْآن فَذهب الْجُمْهُور إِلَى وُقُوعه فِيهِ وَأنْكرهُ جمَاعَة مِنْهُم الظَّاهِرِيَّة وَابْن الْقَاص من الشَّافِعِيَّة وَابْن خويز منداد من الْمَالِكِيَّة وَاسْتَدَلُّوا لمذهبهم بِأَن الْمجَاز أَخُو الْكَذِب وَالْقُرْآن منزه عَنهُ وَأَن الْمُتَكَلّم لَا يعدل إِلَيْهِ إِلَّا إِذا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَة فيستعير وَذَلِكَ محَال على الله تَعَالَى ورد عَلَيْهِم المثبتون بِأَنَّهُ لَو سقط الْمجَاز من الْقُرْآن لسقط مِنْهُ شطر الْحسن

فقد اتّفق البلغاء على أَن الْمجَاز أبلغ من الْحَقِيقَة وَلَو وَجب خلو الْقُرْآن من الْمجَاز وَجب خلوه من الْحَذف والتوكيد وتثنية الْقَصَص وَغَيرهَا

ص: 183

وَمِمَّنْ منع أَن فِي الْقُرْآن مجَازًا من أَصْحَاب أَحْمد أَبُو الْحسن الخرزي وَابْن حَامِد وَأَبُو الْفضل التَّمِيمِي ابْن أبي الْحسن التَّمِيمِي وَللْإِمَام أَحْمد ابْن تَيْمِية بحث طَوِيل فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي كتاب الْإِيمَان تنبغي مُرَاجعَته وَنَقله هُنَا يخرجنا عَن الْمَقْصُود وَبِكُل حَال فَالْمَسْأَلَة لَيست بِذِي بَال إِذا تقرر هَذَا فَاعْلَم أَن الْحَقِيقَة تعرف بمبادرتها إِلَى الْفَهم بِدُونِ قرينَة وَبِأَن يكون اللَّفْظ مِمَّا يَصح الِاشْتِقَاق مِنْهُ والتصريف إِلَى الْمَاضِي والمستقبل وَاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَبِأَن يكون أحد اللَّفْظَيْنِ يسْتَعْمل وَحده من غير مُقَابل وَالْآخر لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الْمُقَابلَة كالمكر فِي حق الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يَصح أَن يُقَال مكر زيد بعمر وَلَا يَصح ذَلِك فِي حق الله تَعَالَى إِلَّا مُقَابلَة لمكر الْمَخْلُوق نَحْو ومكروا ومكر الله وَكَقَوْلِه تَعَالَى {كَالَّذِين نسوا الله} وتعرف أَيْضا بِأَن اسْتِحَالَة نفي اللَّفْظ يدل عَلَيْهَا بِخِلَاف الْمجَاز فَإِنَّهُ يجوز نَفْيه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن تَقول للْإنْسَان البليد لَيْسَ بِإِنْسَان وَيجوز أَن تَقول عَنهُ لَيْسَ بِحِمَار وتعرف الْحَقِيقَة أَيْضا بِصِحَّة الِاسْتِعَارَة من لَفظهَا فَلَمَّا صَحَّ اسْتِعَارَة لفظ الْأسد للرجل الشجاع علم أَن لفظ الْأسد حَقِيقَة فِي الْحَيَوَان المفترس مجَاز فِي الرجل الشجاع

وَاعْلَم أَنه لَا يلْزم أَن يكون لكل حَقِيقَة مجَاز عقلا وَالصَّحِيح أَنه يلْزم كل مجَاز أَن تكون لَهُ حَقِيقَة وَلَا تتَوَقَّف صِحَة الْمجَاز على

ص: 184

نقل اسْتِعْمَاله فِي مَحَله عَن الْعَرَب على الْأَظْهر اكْتِفَاء بالعلاقة المجوزة كَمَا بَيناهُ سَابِقًا كَمَا أَن الِاشْتِقَاق وَالْقِيَاس الشَّرْعِيّ واللغوي لَا يسْتَلْزم ذَلِك وَالْحق أَن أصل الْمجَاز ثَابت مُطلقًا مُفردا ومركبا فِي عُمُوم اللُّغَة وخصوص الْقُرْآن وَأَنه ثَابت أَيْضا فِي الْمُفْرد والمركب على الْأَظْهر فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّك ترى الْعَرَب يستعملون لفظ الْأسد فِي الشجاع وَأَنت خَبِير بِأَن الْأسد لفظ مُفْرد دلّ على مُسَمّى مُفْرد والشجاع كَذَلِك فَهَذَا يُسمى مجَازًا إفراديا ومجازا فِي الْمُفْردَات وَالْمجَاز التركيبي هُوَ الْوَاقِع فِي الْأَلْفَاظ المركبة نَحْو قَول الشَّاعِر أشاب الصَّغِير وأفنى الْكَبِير كرّ الْغَدَاة وَمر الْعشي فَلفظ الزَّمَان الَّذِي هُوَ مُرُور اللَّيْل وَالنَّهَار حَقِيقَة فِي مَدْلُوله وَلَفظ الإشابة حَقِيقَة فِي مَدْلُوله أَيْضا وَهُوَ تبييض الشّعْر لنَقص الْحَرَارَة الغريزية لِضعْفِهَا بِالْكبرِ لَكِن إِسْنَاد الإشابة إِلَى الزَّمَان مجَاز إِذْ المشيب للنَّاس فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى فَهَذَا مجَاز فِي التَّرْكِيب أَي فِي إِسْنَاد الْأَلْفَاظ بَعْضهَا إِلَى بعض لَا فِي نفس مدلولات الْأَلْفَاظ وَهَكَذَا كل لفظ كَانَ مَوْضُوعا فِي اللُّغَة ليسند إِلَى

ص: 185

لفظ آخر أسْند إِلَى غير ذَلِك من اللَّفْظ فإسناده مجَاز تركيبي وَهَذَا النَّوْع من الْمجَاز يُسَمِّيه عُلَمَاء فن الْمعَانِي بالمجاز الْعقلِيّ وَحده عِنْدهم إِسْنَاد الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ إِلَى ملابس لَهُ غير مَا هُوَ لَهُ بتأول وَحَاصِل قَوْله بتأول أَن ينصب الْمُتَكَلّم قرينَة صارفة عَن أَن يكون الْإِسْنَاد إِلَى مَا هُوَ لَهُ ثمَّ اعْلَم أَن التَّحْقِيق أَن الْخلاف لَيْسَ فِي جَوَاز الْمجَاز مُطلقًا وَلَا فِي وُقُوعه وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن الْمَنْقُول فِي هَذَا الْمجَاز هَل هُوَ حكم عَقْلِي أَو لفظ وضعي وَأَنت إِذا حققت ذَلِك وجدت الْخلاف لفظيا وَحَيْثُ انْتهى تَقْسِيم الْكَلَام إِلَى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فلنتكلم على انقسامه من جِهَة ثَانِيَة هِيَ أمس بِمَا نَحن بصدده فَنَقُول لَا يخفى أَن الصَّوْت عرض مسموع وَاللَّفْظ صَوت مُعْتَمد على مخرج من مخارج الْحُرُوف والكلمة لفظ وضع لِمَعْنى مُفْرد وَجمع الْكَلِمَة كلم مُفِيدا كَانَ أَو غير مُفِيد وَهِي جنس أَنْوَاعه ثَلَاثَة اسْم وَفعل وحرف

وَالْكَلَام مَا تضمن كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ وَهُوَ نِسْبَة أحد الجزئين إِلَى الآخر لإِفَادَة الْمُخَاطب وَشَرطه الإفادة وَلَا يتألف إِلَّا من اسْمَيْنِ نَحْو زيد قَائِم أَو فعل وَاسم نَحْو قَامَ زيد فَالْأولى جملَة إسمية وَالثَّانيَِة جملَة فعلية وَنَحْو قَوْلك يَا زيد وَإِن يقم زيد أقِم فعليتان هَذَا مَا اتّفق ذكره من كليات مبَاحث الْعَرَبيَّة ومقدماتها وَله محَال مُخْتَصَّة بِهِ فَلَا نطيل بِهِ وَلَا بالمناقشة فِيهِ ولننقل الْكَلَام فِيهِ إِلَى مبَاحث شَأْنهَا أَن تذكر فِي فن الْأُصُول وَإِن كَانَ

ص: 186

موضوعها الْأَلْفَاظ فَهِيَ كَأَنَّهَا ذَات وَجْهَيْن من جِهَة الْعَادة أصولية وَمن جِهَة التَّحْقِيق لغوية فَنَقُول

اعْلَم أَن اللَّفْظ إِمَّا أَن يحْتَمل معنى وَاحِدًا فَقَط أَو يحْتَمل أَكثر من معنى وَاحِد وَالْأول النَّص وَالثَّانِي إِمَّا أَن يتَرَجَّح فِي أحد معنييه أَو مَعَانِيه وَهُوَ الظَّاهِر أَو لَا يتَرَجَّح وَهُوَ الْمُجْمل

الأول النَّص وَهُوَ لُغَة الْكَشْف والظهور وَمِنْه نصت الصبية رَأسهَا إِذا رفعته وأظهرته وَاصْطِلَاحا مَا أَفَادَ بِنَفسِهِ من غير احْتِمَال وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن النَّص مَا دلّ على معنى قطعا وَلَا يحْتَمل غَيره قطعا كأسماء الْأَعْدَاد نَحْو أحد اثْنَيْنِ ثَلَاثَة وَهَذَا التَّعْرِيف أشبه باللغة وَهُوَ مُرَاد الإِمَام أَحْمد بقَوْلهمْ نَص عَلَيْهِ أَحْمد أَو هُوَ مَنْصُوص أَحْمد

وَقَالَ الأصوليون هُوَ مَا دلّ على معنى كَيْفَمَا كَانَ وَهَذَا هُوَ الْغَالِب فِي كَلَام الْفُقَهَاء فِي الِاسْتِدْلَال حَيْثُ يَقُولُونَ لنا النَّص وَالْمعْنَى وَدلّ النَّص على هَذَا الحكم وَقَضَاء الشَّرْع فِي النَّص أَن لَا يتْرك إِلَّا بنسخ وَقد يُطلق على مَا تطرق إِلَيْهِ احْتِمَال يعضده دَلِيل لِأَنَّهُ بذلك الِاحْتِمَال يصير كَالظَّاهِرِ وَالظَّاهِر يُطلق عَلَيْهِ لفظ النَّص ومثاله قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} الْمَائِدَة 6 بِكَسْر اللَّام وَهُوَ ظَاهر فِي أَن فرض الرجلَيْن الْمسْح مَعَ احْتِمَال الْغسْل فاحتمال الْغسْل مَعَ الدَّلِيل الدَّال عَلَيْهِ يُسمى أَيْضا لِأَنَّهُ صَار مُسَاوِيا للظَّاهِر فِي الْمسْح وراجحا عَلَيْهِ حَتَّى أَنه يجوز لنا أَن نقُول ثَبت غسل الرجلَيْن بِالنَّصِّ وَيُطلق النَّص على الظَّاهِر أَيْضا لتلاقيهما فِي الِاشْتِقَاق إِذْ النَّص وَالظَّاهِر مأخذهما من الِارْتفَاع والظهور

ص: 187

الثَّانِي الظَّاهِر وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة وَنَفس الْأَمر الشاخص الْمُرْتَفع وَمِنْه قيل لأشراف الأَرْض ظواهر

وَالظَّاهِر خلاف الْبَاطِن وكما أَن الْمُرْتَفع من الْأَشْخَاص هُوَ الظَّاهِر الَّذِي تتبادر إِلَيْهِ الْأَبْصَار فَكَذَلِك الْمَعْنى الْمُتَبَادر من اللَّفْظ هُوَ الظَّاهِر الَّذِي تتبادر إِلَيْهِ البصائر والأفهام وَأما إِطْلَاق الظَّاهِر على اللَّفْظ الْمُحْتَمل أمورا هُوَ فِي أَحدهَا أرجح فَهُوَ اصْطِلَاح لَا حَقِيقَة وَإِنَّمَا هُوَ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاء ويعرفونه بِأَنَّهُ اللَّفْظ الْمُحْتَمل لمعنيين هُوَ فِي أَحدهمَا أرجح دلَالَة وَحكمه أَنه لَا يعدل عَنهُ إِلَّا بِتَأْوِيل وَهُوَ صرف اللَّفْظ عَن ظَاهره لدَلِيل يصير بِهِ الْمَرْجُوح راجحا وَمِثَال ذَلِك ليتضح المرام قَوْله صلى الله عليه وسلم الْجَار أَحَق بصقبه

رَوَاهُ البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ

والصقب الْقرب والملاصقة وَالْمرَاد بِهِ الشُّفْعَة فَهَذَا الحَدِيث ظَاهر فِي ثُبُوت الشُّفْعَة للْجَار الملاصق والمقابل أَيْضا مَعَ احْتِمَال أَن المُرَاد بالجار الشَّرِيك المخالط

إِمَّا حَقِيقَة أَو مجَازًا لَكِن هَذَا الِاحْتِمَال ضَعِيف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِر فَلَمَّا نَظرنَا إِلَى قَوْله عليه الصلاة والسلام إِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة

رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ

صَار هَذَا الحَدِيث مقويا لذَلِك الِاحْتِمَال الضَّعِيف فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم حَتَّى ترجحا على ظَاهره فقدمناهما وَقُلْنَا لَا شُفْعَة إِلَّا للشَّرِيك المقاسم

ص: 188

9 -

وحملنا عَلَيْهِ الْجَار فِي الحَدِيث الأول وَهُوَ حمل سَائِغ فِي اللُّغَة

ثمَّ إِن الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح الْمُقَابل للراجح الظَّاهِر قد يكون بَعيدا عَن الْإِرَادَة وَقد يكون قَرِيبا مِنْهَا وَقد يكون متوسطا بَين الطَّرفَيْنِ

فالاحتمال الْبعيد يحْتَاج فِي حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيل قوي لتجبر قُوَّة الدَّلِيل ضعف الِاحْتِمَال فيقويان على الِاسْتِيلَاء على الظَّاهِر وَالِاحْتِمَال الْقَرِيب يَكْفِيهِ فِي ذَلِك أدنى دَلِيل وَالِاحْتِمَال الْمُتَوَسّط يَكْفِيهِ دَلِيل متوسط بَين الدَّلِيلَيْنِ قُوَّة وضعفا وَبِالْجُمْلَةِ فالغرض من دَلِيل التَّأْوِيل أَن يكون بِحَيْثُ إِذا انْضَمَّ إِلَى احْتِمَال اللَّفْظ المأول اعتضد أَحدهمَا بِالْآخرِ واستوليا على الظَّاهِر وقدما عَلَيْهِ فَمَا كَانَ فِي احْتِمَال اللَّفْظ من ضعف جبر بِاعْتِبَار قُوَّة فِي الدَّلِيل وَمَا كَانَ فِيهِ من قُوَّة سومح بِقَدرِهِ من الدَّلِيل وَالْمُعْتَمد قبالة المعتدل فهما يحصلان الْغَرَض

ثمَّ إِن هَذَا الدَّلِيل الْمُرَجح إِمَّا أَن يكون قرينَة أَو ظَاهرا أَو قِيَاسا فَأَما الْقَرِينَة فإمَّا أَن تكون مُتَّصِلَة أَو مُنْفَصِلَة

فمثال الْمُتَّصِلَة مَا رَوَاهُ صَالح وحنبل عَن أَحْمد قَالَ كلمت الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة الْهِبَة فَقلت إِن الْوَاهِب لَيْسَ لَهُ الرُّجُوع فِيمَا وهب لقَوْله صلى الله عليه وسلم الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه وَكَانَ الشَّافِعِي يرى أَن لَهُ الرُّجُوع فَقَالَ لَيْسَ بِمحرم على الْكَلْب أَن يعود فِي قيئه قَالَ أَحْمد فَقلت لَهُ فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي

ص: 189

صدر الحَدِيث الْمَذْكُور لَيْسَ لنا مثل السوء فَسكت الشَّافِعِي

وَمِثَال الْقَرِينَة الْمُنْفَصِلَة مَا ذكره الْفُقَهَاء فِيمَن جَاءَ من أهل الْجِهَاد بمشرك فَادّعى أَنه أَمنه وَأنْكرهُ الْمُسلم فَادّعى أسره فَفِيهِ أَقْوَال ثَالِثهَا القَوْل قَول من ظَاهر الْحَال صدقه فَلَو كَانَ الْكَافِر أظهر قُوَّة وبطشا وشهامة من الْمُسلم جعل ذَلِك قرينَة فِي تَقْدِيم قَوْله مَعَ أَن قَول الْمُسلم لإسلامه وعدالته أرجح وَقَول الْكَافِر مَرْجُوح لَكِن الْقَرِينَة الْمُنْفَصِلَة عضدته حَتَّى صَار قَوْله أقوى من قَول الْمُسلم الرَّاجِح

وَأما الظَّاهِر فَمن أمثلته قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الْمَائِدَة 3 فَإِنَّهُ ظَاهر فِي تَحْرِيم جلدهَا دبغ أَو لم يدبغ مَعَ احْتِمَال أَن الْجلد غير مُرَاد بالمعوم احْتِمَالا مترددا لَهُ من جِهَة أَن إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْميتَة يَقْتَضِي تَحْرِيم الْأكل وَالْجَلد غير مَأْكُول يَقْتَضِي عدم تنَاول الْجلد وَمن جِهَة أَن عُمُوم اللَّفْظ قوي متناول لجَمِيع أَجْزَائِهَا يَقْتَضِي تنَاول الْجلد ثمَّ نَظرنَا فِي قَوْله عليه السلام أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر فَهُوَ عُمُوم وَظَاهر بتناول إهَاب الْميتَة فَكَانَ هَذَا الظَّاهِر مقويا لاحْتِمَال عدم إِرَادَة جلد الْميتَة من الْآيَة الْمَذْكُورَة فِي التَّحْرِيم

وَمِثَال النَّص قَوْله عليه السلام فِي شَاة مَيْمُونَة أَلا أَخَذْتُم إهابها فدبغتموه فانتفعتم بِهِ فَقَالُوا إِنَّهَا ميتَة قَالَ إِنَّمَا حرم من الْميتَة أكلهَا فَهَذَا نَص فِي طَهَارَة جلد الْميتَة

ص: 190

وَمِثَال الْقيَاس إِن تَركه تَعَالَى ذكر الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الْقَتْل ظَاهر فِي عدم وُجُوبه إِذْ لَو وَجب لذكره كَمَا ذكر التَّحْرِير وَالصِّيَام هَذَا مَعَ احْتِمَال أَن يكون وَاجِبا مسكوتا عَنهُ يَسْتَخْرِجهُ المجتهدون ثمَّ رَأينَا إِثْبَات الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الْقَتْل بِالْقِيَاسِ إثْبَاته فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالصِّيَام وَالْيَمِين متجها لِأَن الْكَفَّارَات حُقُوق لله تَعَالَى وَحكم الِامْتِثَال وَاحِد فثبوت الْإِطْعَام فِي تِلْكَ الْكَفَّارَات تَنْبِيه على ثُبُوته فِي كَفَّارَة الْقَتْل

ثمَّ اعْلَم أَن كل من أَرَادَ تَأْوِيل ظَاهر من الظَّوَاهِر فَعَلَيهِ أَمْرَانِ أَحدهمَا بَيَان الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح مَعَ الظَّاهِر

الثَّانِي بَيَان عاضد الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح أَي الدَّلِيل الَّذِي يعضده ويقويه حَتَّى يقدم على الظَّاهِر ثمَّ إِن الظَّاهِر وَالِاحْتِمَال الْمَرْجُوح إِذا تقابلا فقد يحتف بِالظَّاهِرِ قَرَائِن ترفع ذَلِك الِاحْتِمَال وتبطله ثمَّ قد يكون كل وَاحِدَة من الْقَرَائِن دافعة للاحتمال وَحدهَا وَقد لَا تنْدَفع إِلَّا بِمَجْمُوع تِلْكَ الْقَرَائِن وَذَلِكَ بِحَسب قُوَّة الْقَرَائِن وظهورها ومقاومتها لذَلِك الِاحْتِمَال وقصورها عَنهُ فقد تقاومه قرينَة وَاحِدَة أَو قرينتان فتدفعه وَقد لَا تقاومه إِلَّا جَمِيعهَا فَلَا تنْدَفع بِدُونِهِ

فمثال رفع الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح بالقرائن المحتفة بِالظَّاهِرِ أَن غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ رضي الله عنه أسلم وَله عشر نسْوَة فِي الْجَاهِلِيَّة فأسلمن مَعَه فَأمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يتَخَيَّر أَرْبعا مِنْهُنَّ رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ

وَفِيمَا يتداوله الْفُقَهَاء

ص: 191

أمسك مِنْهُنَّ أَرْبعا وَفَارق سائرهن وَعَلِيهِ اتجه النزاع فالحنفية قَالُوا إِن من أسلم وَتَحْته أَكثر من أَربع نسْوَة فَإِن كَانَ تزوجهن فِي عقد وَاحِد بَطل نِكَاحهنَّ وَلم يجز أَن يخْتَار مِنْهُنَّ شَيْئا وَإِن تَزَوَّجن متعاقبات اخْتَار من الأول أَرْبعا وَترك الْبَاقِي وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة على أَنه يخْتَار مِنْهُنَّ أَرْبعا مُطلقًا وَلما كَانَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة مُخَالفا لظَاهِر الحَدِيث إِذْ ظَاهر الْإِمْسَاك فِيهِ اسْتِدَامَة نِكَاح أَربع وَظَاهر الْمُفَارقَة تَسْرِيح الْبَاقِيَات احتاجوا إِلَى تَأْوِيله

ص: 192

فحملوا الْإِمْسَاك على ابْتِدَاء النِّكَاح كَأَنَّهُ قَالَ أمسك أَرْبعا بِأَن تبتدىء نِكَاحهنَّ وَفَارق سائرهن بِأَن لَا تبتدىء العقد عَلَيْهِنَّ وعضدوا هَذَا التَّأْوِيل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَن بعض النسْوَة لَيْسَ بِأولى الْإِمْسَاك من بعض إِذْ هُوَ تَرْجِيح من غير مُرَجّح ورد بَقِيَّة الْأَئِمَّة هَذَا التَّأْوِيل بِأَن السَّابِق إِلَى فهمنا وَفهم الصَّحَابَة من الْإِمْسَاك الاستدامة لَا ابْتِدَاء النِّكَاح وَمن الْمُفَارقَة التسريح لَا ترك النِّكَاح فَيكون هَذَا مَدْلُول اللَّفْظ وَمُقْتَضَاهُ وَبِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فوض الْإِمْسَاك والفراق إِلَى غيلَان مُسْتقِلّا بِهِ حَيْثُ قَالَ أمسك وَفَارق لَو كَانَ المُرَاد بِهِ ابْتِدَاء النِّكَاح لما اسْتَقل بِهِ بالِاتِّفَاقِ إِذْ لابد من رضى الزَّوْجَة وَمن الْوَلِيّ عندنَا فَكَانَ يجب أَن يَقُول أمسك أَرْبعا مِنْهُنَّ إِن رضين وَيبين لَهُ شَرَائِط النِّكَاح لِأَن ذَلِك بَيَان فِي وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ فَلَا يجوز تَأْخِيره إِلَى غير ذَلِك من الْأَجْوِبَة الَّتِي محلهَا الْكتب المطولة فِي هَذَا الْفَنّ فَهَذِهِ قَرَائِن تدفع تأويلهم على أَن الإِمَام الْغَزالِيّ أنصف فِي هَذَا الْمقَام

فَقَالَ والإنصاف أَن تَأْوِيل الظَّوَاهِر يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال الْمُجْتَهدين وَإِلَّا فلسنا نقطع بِبُطْلَان تَأْوِيل أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى مَعَ هَذِه الْقَرَائِن وَإِنَّمَا الْمَقْصُود تذليل الطَّرِيق للمجتهدين وَالله سبحانه وتعالى أعلم

وَنحن نقُول إِنَّمَا قصدنا فِي هَذَا الْكتاب وَغَيره من كتبنَا الْمُشْتَملَة على الْأَدِلَّة بَيَان الْإِيضَاح بالأمثلة واستنباط الْفَوَائِد من كتاب الله وَمن كَلَام رَسُوله مَعَ احترام الْعلمَاء وَحفظ مقامهم حشرنا الله فِي زمرة المهديين مِنْهُم

وَهنا قد انْتهى مَا توخيناه من الْكَلَام على النَّص وَالظَّاهِر وذكرناهما هُنَا لقرب مباحثهما من مبَاحث مبادىء اللُّغَة وأخرنا الْكَلَام

ص: 193

على الْمُجْمل إِلَى مَا بعد الْمُطلق والمقيد لِأَنَّهُ أشبه بهما

وَهنا قد انْتهى الْكَلَام على مَا هُوَ مُقَدّمَة فِي هَذَا الْفَنّ ولنشرع إِن شَاءَ الله تَعَالَى على الْأُصُول وَإِلَيْك الْبَيَان

ص: 194