الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنْبِيه
هَا هُنَا مَسْأَلَة مهمة يَنْبَغِي التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَهِي وَإِن كَانَت مَعْلُومَة إِجْمَالا مِمَّا سبق أَوَائِل الْكتاب لَكِن كَانَ لَهَا من مزِيد الْفَائِدَة مَا يَنْبَغِي الِالْتِفَات إِلَيْهِ
يُقَال فِيهَا المكرر أحلى وخصوصا تعلق المهم لموضوع كتَابنَا يُشِير إِلَى بَيَانهَا وَمَا هِيَ إِلَّا أَن الْعَلامَة نجم الدّين الطوفي قَالَ فِي شَرحه مُخْتَصر الرَّوْضَة الْأُصُولِيَّة إِن قيل إِذا كَانَ القَوْل الْقَدِيم المرجوع عَنهُ لَا يعد من الشَّرِيعَة بعد الرُّجُوع عَنهُ فَمَا الْفَائِدَة فِي تدوين الْفُقَهَاء للأقوال الْقَدِيمَة عَن أئمتهم حَتَّى رُبمَا نقل عَن أحدهم فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَة كثيرا وَالْأَرْبَعَة كَمَا فِي مَسْأَلَة الدَّاخِل وَالْخَارِج عَن أَحْمد والستة كَمَا فِي مَسْأَلَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَنهُ وَنقل عَنهُ أَكثر من ذَلِك
قيل وَكَانَ الْقيَاس أَن لَا تدون تِلْكَ الْأَقْوَال وَهُوَ أقرب إِلَى ضبط الشَّرْع إِذْ مَا لَا عمل عَلَيْهِ لَا حَاجَة إِلَيْهِ فتدوينه تَعب مَحْض لَكِنَّهَا دونت لفائدة أُخْرَى وَهِي التَّنْبِيه على مدارك الْأَحْكَام وَاخْتِلَاف القرائح والآراء وَأَن تِلْكَ الْأَقْوَال قد أدّى إِلَيْهَا اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فِي وَقت من الْأَوْقَات وَذَلِكَ مُؤثر فِي تقريب الترقي إِلَى رُتْبَة الِاجْتِهَاد الْمُطلق أَو الْمُقَيد فَإِن الْمُتَأَخر إِذا نظر إِلَى مَأْخَذ الْمُتَقَدِّمين نظر فِيهَا وقابل بَينهَا فاستخرج مِنْهَا فَوَائِد وَرُبمَا ظهر لَهُ من مجموعها تَرْجِيح بَعْضهَا وَذَلِكَ من المطالب المهمة فَهَذِهِ فَائِدَة تدوين الْأَقْوَال الْقَدِيمَة عَن الْأَئِمَّة وَهِي عَامَّة وَثمّ فَائِدَة خَاصَّة بِمذهب أَحْمد وَمَا كَانَ مثله وَذَلِكَ أَن بعض الْأَئِمَّة كالشافعي وَنَحْوه نصوا على الصَّحِيح من مَذْهَبهم إِذْ الْعَمَل من مَذْهَب الشَّافِعِي على القَوْل الْجَدِيد وَهُوَ الَّذِي قَالَه بِمصْر وصنف فِيهِ الْكتب كالأم وَنَحْوه
وَيُقَال إِنَّه لم يبْق من
مذْهبه شَيْء لم ينص على الصَّحِيح مِنْهُ إِلَّا سبع عشرَة مَسْأَلَة تَعَارَضَت فِيهَا الْأَدِلَّة واخترم قبل أَن يُحَقّق النّظر بِخِلَاف الإِمَام أَحْمد وَنَحْوه فَإِنَّهُ كَانَ لَا يرى تدوين الرَّأْي بل همه الحَدِيث وَجمعه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ وَإِنَّمَا نقل الْمَنْصُوص عَنهُ أَصْحَابه تلقيا مِمَّن فِيهِ من أجوبته فِي سؤالاته وفتاويه فَكل من روى مِنْهُم عَنهُ شَيْئا دونه وَعرف بِهِ كمسائل أبي دَاوُد وَحرب الْكرْمَانِي ومسائل حَنْبَل وابنيه صَالح وَعبد الله وَإِسْحَاق بن مَنْصُور والمروزي وَغَيرهم مِمَّن ذكرهم أَبُو بكر فِي أول زَاد الْمُسَافِر وهم كثير وَرُوِيَ عَنهُ أَكثر مِنْهُم ثمَّ انتدب لجمع ذَلِك أَبُو بكر الْخلال فِي جَامعه الْكَبِير ثمَّ تِلْمِيذه أَبُو بكر فِي زَاد الْمُسَافِر فحوى الكتابان علما جما من علم الإِمَام أَحْمد رضي الله عنه من غير أَن يعلم مِنْهُ فِي آخر حَيَاته الْأَخْبَار بِصَحِيح مذْهبه فِي تِلْكَ الْفُرُوع غير أَن الْخلال يَقُول فِي بعض الْمسَائِل هَذَا قَول قديم لِأَحْمَد رَجَعَ عَنهُ لَكِن ذَلِك يسير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لم يعلم حَاله مِنْهَا وَنحن لَا يَصح لنا أَن نجزم بِمذهب إِمَام حَتَّى نعلم أَنه آخر مَا دونه من تصانيفه وَمَات عَنهُ أَو أَنه نَص عَلَيْهِ سَاعَة مَوته وَلَا سَبِيل لنا إِلَى ذَلِك فِي مَذْهَب أَحْمد والتصحيح الَّذِي فِيهِ إِنَّمَا هُوَ من اجْتِهَاد أَصْحَابه بعده كَابْن حَامِد وَالْقَاضِي وَأَصْحَابه وَمن الْمُتَأَخِّرين الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْمَقْدِسِي رَحْمَة الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ لَكِن هَؤُلَاءِ بالغين مَا بلغُوا لَا يحصل الوثوق من تصحيحهم لمَذْهَب أَحْمد كَمَا يحصل من تَصْحِيحه هُوَ لمذهبه قطعا فَمن فرضناه جَاءَ بعد هَؤُلَاءِ وَبلغ من الْعلم درجتهم أَو قاربهم جَازَ لَهُ أَن يتَصَرَّف فِي الْأَقْوَال المنقولة عَن صَاحب الْمَذْهَب كتصرفهم ويصحح مِنْهَا مَا أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهِ وافقهم أَو خالفهم وَعمل بذلك وَأفْتى وَفِي عصرنا من هَذَا الْقَبِيل شَيخنَا الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن
تَيْمِية الْحَرَّانِي حرسه الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يتوفق فِي الْفتيا على مَا صَححهُ الْأَصْحَاب من الْمَذْهَب بل يعْمل ويفتي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل عِنْده فَتكون هَذِه فَائِدَة خَاصَّة بِمذهب أَحْمد وَمَا كَانَ مثله لتدوين نصوصه ونقلها وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ هَذَا كَلَام الطوفي نَقَلْنَاهُ برمتِهِ لنفاسته
السَّادِسَة يجوز للعامي تَقْلِيد الْمُجْتَهد بالِاتِّفَاقِ وَلَا يجوز ذَلِك لمجتهد اجْتهد وَغلب على ظَنّه أَن الحكم كَذَا بالِاتِّفَاقِ أَيْضا أما من لم يجْتَهد فِي الحكم بعد وَهُوَ مُتَمَكن من مَعْرفَته بِنَفسِهِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَة من الْفِعْل لكَونه أَهلا للِاجْتِهَاد فَلَا يجوز لَهُ تَقْلِيد غَيره أَيْضا مُطلقًا لَا لأعْلم مِنْهُ وَلَا لغيره لَا من الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَلَا لغَيرهم لَا للفتيا وَلَا للْعَمَل لَا مَعَ ضيق الْوَقْت وَلَا مَعَ سعته هَذَا مَا اقْتَضَاهُ مَسْلَك الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ
وَقيل يجوز لَهُ التَّقْلِيد مَعَ ضيق الْوَقْت
وَقيل يجوز لَهُ ليعْمَل لَا ليفتي وَقيل لمن هُوَ أعلم مِنْهُ من الصَّحَابَة وَالْمُخْتَار مَا قدمْنَاهُ نعم لَهُ أَن ينْقل
وَقيل مَذْهَب غَيره للمستفتي وَلَا يُفْتِي هُوَ بتقليد أحد
السَّابِعَة إِذا نَص الْمُجْتَهد على حكم فِي مَسْأَلَة لعِلَّة بَينهَا فمذهبه فِي كل مَسْأَلَة وجدت فِيهَا تِلْكَ الْعلَّة كمذهبه فِي الْمَسْأَلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا لِأَن الحكم يتبع الْعلَّة فيوجد حَيْثُ وجدت وَإِن لم يبين الْعلَّة فَلَا يحكم بِحكم تِلْكَ الْمَسْأَلَة فِي غَيرهَا من الْمسَائِل وَإِن شبهتها وَلَو نَص فِي مَسْأَلَتَيْنِ مشتبهتين على حكمين مُخْتَلفين لم يجز أَن يَجْعَل فيهمَا رِوَايَتَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج كَمَا لَو سكت عَن إِحْدَاهمَا وَأولى وَالْأولَى جَوَاز ذَلِك بعد الْجد والبحث فِيهِ من أَهله إِذْ خَفَاء الْفرق مَعَ ذَلِك وَإِن دق مُمْتَنع عَادَة
وَقد وَقع النَّقْل والتخريج فِي مَذْهَبنَا فَقَالَ فِي الْمُحَرر من كتب أَصْحَابنَا وَمن لم يجد إِلَّا ثَوابًا نجسا صلى فِيهِ وَأعَاد نَص عَلَيْهِ وَنَصّ فِيمَن حبس فِي مَوضِع نجس فصلى أَنه لَا يُعِيد فيتخرج فيهمَا رِوَايَتَانِ وَذَلِكَ لِأَن طَهَارَة الثَّوْب وَالْبدن كِلَاهُمَا شَرط فِي الصَّلَاة وَهَذَا وَجه الشّبَه بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَقد نَص فِي الثَّوْب النَّجس أَنه يُعِيد فينقل حكمه إِلَى الْمَكَان وَيتَخَرَّج فِيهِ مثله وَنَصّ فِي الْموضع النَّجس على أَنه لَا يُعِيد فينقل إِلَى الثَّوَاب النَّجس فيتخرج فِيهِ مثله فَلَا جرم صَار فِي كل وَاحِدَة من الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا بِالنَّصِّ وَالْأُخْرَى بِالنَّقْلِ وَذكر مثل ذَلِك فِي الْوَصَايَا وَالْقَذْف وَمثل مَا حكيناه عَن مَذْهَبنَا من النَّقْل والتخريج وَقع كثيرا فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَإِذا نَص على حكمين مُخْتَلفين فِي مَسْأَلَة فمذهبه آخرهما أَن علم التَّارِيخ وَإِلَّا فأشبههما بأصوله وقواعد مذْهبه وأقربهما إِلَى الدَّلِيل الشَّرْعِيّ
تَتِمَّة الْفرق بَين النَّقْل والتخريج أَن النَّقْل يكون من نَص الإِمَام بِأَن ينْقل عَن مَحل إِلَى غَيره بالجامع الْمُشْتَرك والتخريج يكون من قَوَاعِده الْكُلية فَهُوَ أَعم من النَّقْل لِأَنَّهُ يكون من الْقَوَاعِد الْكُلية للْإِمَام أَو الشَّرْع أَو الْعقل لِأَن حَاصله أَنه بِنَاء فرع على أصل بِجَامِع مُشْتَرك كتخريجنا على قَاعِدَة تَفْرِيق الصَّفْقَة فروعا كَثِيرَة وعَلى قَاعِدَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق أَيْضا فروعا كَثِيرَة فِي أصُول الْفِقْه وفروعه وَأما النَّقْل والتخريج مَعًا فَهُوَ مُخْتَصّ بنصوص الإِمَام
الثَّامِنَة لَا ينْقض حكم حَاكم فِي مَسْأَلَة اجتهادية عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن وافقهم وَهُوَ معنى قَول الْفُقَهَاء فِي الْفُرُوع لَا ينْقض
الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن الْحق مُتَعَدد وينقض بِنَاء على أَن الْمُصِيب وَاحِد وينقض أَيْضا بمخالفة نَص كتاب أَو سنة وَلَو كَانَ نَص السّنة آحادا وَخَالف القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْآحَاد وينقض أَيْضا بمخالفته إِجْمَاعًا قَطْعِيا لَا ظنيا فِي الْأَصَح وَلَا ينْقض بمخالفته الْقيَاس سَوَاء كَانَ جليا أَو خفِيا خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَابْن حمدَان فِي الْجَلِيّ وَزَاد مَالك ينْقض بمخالفة الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة وَلَا يعْتَبر لنقضه طلب صَاحب الْحق على الصَّحِيح من الْمَذْهَب
وَقَالَ القَاضِي فِي الْمُجَرّد والموفق فِي الْمُغنِي وَالشَّارِح وَابْن زرين لَا ينْقض إِلَّا بمطالبة صَاحبه وَقَالَ دَاوُد وَأَبُو ثَوْر ينْقض مَا بَان خطأ قلت وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ
وَجوز ابْن الْقَاسِم نقض اجْتِهَاد تبين أَن غَيره أصوب مِنْهُ وَحكم الْحَاكِم بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو قلد غَيره فِي الحكم عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن وافقهم
وَقَالَ فِي الْإِرْشَاد لَا يبطل حكمه وَلكنه يَأْثَم وَمن قضى بِرَأْي يُخَالف رَأْيه نَاسِيا لَهُ نفذ حكمه وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف والمالكية وَالشَّافِعِيَّة يرجع عَنهُ وينقضه وَنقل أَبُو طَالب عَن الإِمَام أَحْمد إِذا أَخطَأ بِلَا تَأْوِيل فليرده وَيطْلب صَاحبه فَيَقْضِي بِحَق وَإِن حكم مقلد بِحكم بِخِلَاف مَا قَالَه إِمَامه فعلى قَول من يرى صِحَة حكم الْمُقَلّد يَصح حكمه وعَلى قَول من يرى أَن الْمُقَلّد لَا يجوز لَهُ تَقْلِيد غير إِمَامه لم يَصح حكمه صرح بِهَذَا الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان وَقَالَ ابْن حمدَان أَيْضا مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص الشَّارِع
وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة عمله بقول إِلَّا الْأَكْثَر أولى وَلَو اجْتهد فَتزَوج بِلَا ولي ثمَّ تغير اجْتِهَاده حرمت عَلَيْهِ امْرَأَته فِي الْأَصَح وَقَالَ القَاضِي والموفق وَابْن حمدَان والطوفي والآمدي تحرم عَلَيْهِ إِن لم يكن حكم بِصِحَّة النِّكَاح حَاكم أما الْمُقَلّد فَقَالَ أَبُو الْخطاب والموفق والطوفي لَا تحرم عَلَيْهِ تغير اجْتِهَاد من قَلّدهُ وَقَالَ الشَّافِعِيَّة وَابْن حمدَان تحرم
قَالَ المرداوي فِي التَّحْرِير وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة وَإِذا لم يعْمل الْمُقَلّد بفتوى من قَلّدهُ حَتَّى تغير اجْتِهَاده مفتية لزم الْمُفْتِي إِعْلَام الْمُقَلّد لَهُ فَلَو مَاتَ الْمُفْتِي قبل إِعْلَام الْعَاميّ بِتَغَيُّر اجْتِهَاده اسْتمرّ على مَا أفتى بِهِ فِي الْأَصَح قَالَ فِي شرح التَّحْرِير وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَقيل يمْتَنع
وَاعْلَم أَن الْأُصُولِيِّينَ اخْتلفُوا فِي تَقْلِيد الْعَاميّ لمجتهد ميت فَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء لَا فرق بَين تَقْلِيد الْمَيِّت وتقليد الْحَيّ لِأَن قَوْله بَاقٍ فِي الْإِجْمَاع وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَرْبَابهَا
وَقيل لَيْسَ للعامي تَقْلِيد الْمَيِّت إِن وجد مُجْتَهدا حَيا وَإِلَّا جَازَ
وَقيل لَا يجوز تَقْلِيد الْمَيِّت مُطلقًا
قَالَ الفتوحي فِي شرح مُخْتَصر التَّحْرِير وَهُوَ وَجه لَهَا وللشافعية وَمن بلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد حرم عَلَيْهِ تَقْلِيد غَيره اتِّفَاقًا سَوَاء اجْتهد أَو لم يجْتَهد وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَلأبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
وَقيل يجوز تَقْلِيده إِن لم يجْتَهد مُطلقًا
قَالَ أَبُو الْفرج وَحكى عَن أَحْمد وَإِسْحَاق وَالثَّوْري وللمجتهد أَن يجْتَهد ويدع غَيره والتوقف من الْمُجْتَهد فِي مَسْأَلَة نحوية أَو فِي حَدِيث بِحَيْثُ يحْتَاج إِلَى مُرَاجعَة أهل النَّحْو أَو أهل الحَدِيث يَجعله فِي رُتْبَة الْعَاميّ فِيمَا توقف
فِيهِ عِنْد أبي الْخطاب والموفق والآمدي وَغَيرهم والعامي يلْزمه التَّقْلِيد مُطلقًا
التَّاسِعَة هَل يجوز خلو الْعَصْر عَن الْمُجْتَهدين أَو لَا ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَنه لَا يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد وَإِلَى ذَلِك ذهب طوائف وَلم يذكر ابْن عقيل خلاف هَذَا إِلَّا عَن بعض الْمُحدثين وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي وَجمع من الْمَالِكِيَّة وَمن غَيرهم وَصرح بِهِ ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ وَاخْتَارَهُ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي شرح العنوان وَقَالَ ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَمن زمن طَوِيل عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق مَعَ أَنه الْآن أيسر مِنْهُ فِي الزَّمن الأول وَأطَال فِي بَيَان أَنه متيسر الْآن
وَحكى مثله النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب
وَقَالَ الرَّافِعِيّ النَّاس الْيَوْم كالمجمعين على أَنه لَا مُجْتَهد الْيَوْم وَنقل ابْن مُفْلِح كِلَاهُمَا ثمَّ ذيله بقوله وَفِيه نظر قَالَ فِي شرح التَّحْرِير وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ وجد من الْمُجْتَهدين بعد ذَلِك جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية انْتهى
وَقد أَطَالَ عُلَمَاء النَّفس فِي هَذَا الْمَوْضُوع وَأورد كل من الْفَرِيقَيْنِ حجَجًا وأدلة وَكَأن الْقَائِلين بِجَوَاز خلو عصر عَن مُجْتَهد قاسوا جَمِيع عُلَمَاء الْأمة على أنفسهم وخيلوا لَهَا أَنه لَا أحد يبلغ أَكثر من مبلغهم وَمن الْعلم ثمَّ رازوا أنفسهم فوجودها سَاقِطَة فِي الدَّرك الْأَسْفَل من التَّقْلِيد فمنعوا فضل الله تَعَالَى وَقَالُوا لَا يُمكن وجود مُجْتَهد فِي عصرنا أَلْبَتَّة بل غلا أَكْثَرهم فَقَالَ لَا مُجْتَهد بعد الأربعمائة من الْهِجْرَة وينحل كَلَامهم هَذَا إِلَى أَن فضل الله تَعَالَى كَانَ
مدرارا على أهل العصور الْأَرْبَعَة ثمَّ إِنَّه نضب فَلم يبْق مِنْهُ قَطْرَة تنزل على الْمُتَأَخِّرين مَعَ أَن فضل الله تَعَالَى لَا ينضب وعطاؤه ومدده لَا يقفان عِنْد الْحَد الَّذِي حَده أُولَئِكَ
فبعيشك قل لي هَل وزن الْقَائِل بِانْقِطَاع الِاجْتِهَاد على جَمِيع عُلَمَاء عصره فِي جَمِيع الأقطار حَتَّى علم أَن وَاحِدًا مِنْهُم لم يبلغ دَرَجَة الِاجْتِهَاد ثمَّ حكم بِهَذَا الحكم الْجَائِز على أَنه رُبمَا خَفِي عَلَيْهِ علم كثير من عُلَمَاء بَلَده بل رُبمَا لم يعرفهُمْ وَمَا أَتَى هَذَا الغبي إِلَّا من دَاء الجمود الْمُوجب للخلود فِي حضيض الْجَهْل الْمركب أَلا يرى هَذَا أَن الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يجوب أقطار الأَرْض لكتابة الحَدِيث وَأَخذه عَن أئمته حَتَّى ليستنزف مَا عِنْد غَيره ثمَّ قَامَ الجهابذة النقاد فدونوا الحَدِيث ودونوا فنونه ونقحوها وهذبوها وَوَضَعُوا كتب أَسمَاء الرِّجَال وبينوا الصَّحِيح من غَيره وسهلوا تنَاول البغية وَالْمَطْلُوب أَيّمَا تسهيل بِحَيْثُ تيَسّر لمن بعدهمْ قطوف ثمراته الدانية واستطلاع شموس فَوَائده من بروجها وهم قَارون فِي بلدانهم مستريحون فِي بُيُوتهم لَا يَحْتَاجُونَ إِلَّا إِلَى المطالعة والتنقيب ثمَّ إِن من تقدم كَانُوا يتعبون فِي نسخ كتب الحَدِيث وَغَيرهَا ويبذلون الْأَمْوَال فِي طلبَهَا حَتَّى أنشئت المطابع فأغنتهم عَن تَعب النّسخ والتجول للتفتيش على الْكتب وَلم يزل انتشار كتب الْعلم فِي ازدياد فَلم يبْق لصَاحب الهمة فَقِيه النَّفس عذر يعْتَذر بِهِ فيالله الْعجب مِمَّن يتحكم على الله وَيحكم على فَضله بِمَا تزينه لَهُ