الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم بعلتين مَعًا فَلَا يمْتَنع أَن يَجْعَل اللَّمْس وَالْبَوْل عِلَّتَانِ لنقض الْوضُوء وَهنا قد تمّ الْكَلَام على شُرُوط الْعلَّة وَبِه تمّ الْكَلَام على شُرُوط أَرْكَان الْقيَاس الْأَرْبَعَة ولنشرع فِي بَيَان مَا يفْسد الْقيَاس بَيَان حسب الْإِمْكَان فَنَقُول
فصل
مفسدات الْقيَاس وُجُوه أَحدهَا أَن لَا يكون الحكم مُعَللا فِي نفس الْأَمر فَيكون القائس قد علل بِمَا لَيْسَ بمعلل كمن زعم أَن عِلّة الانتقاض بِلَحْم الجزر وَهُوَ أَنه لشدَّة حرارته ودسمه مرخ للجوف وَالصَّحِيح الْمَشْهُور أَن ذَلِك تعبد
الثَّانِي أَن يخطىء الْقيَاس عِلّة الحكم عِنْد الله فِي الأَصْل مثل أَن يعْتَقد أَن عِلّة الرِّبَا فِي الْبر الطّعْم فَيلْحق بِهِ الخضراوات وَسَائِر المطعومات وَتَكون علته فِي نفس الْأَمر الْكَيْل أَو الاقتيات أَو بِالْعَكْسِ
الثَّالِث أَن يزِيد فِي أَوْصَاف الْعلَّة أَو ينقص مِنْهَا
مثل أَن يُعلل الْحَنْبَلِيّ بِأَنَّهُ قتل عمد عدوان فَأوجب الْقود فَيَقُول الْحَنَفِيّ نقصت من أَوْصَاف الْعلَّة وَصفا وَهُوَ الْآلَة الصَّالِحَة السارية فِي الْبدن فَلَا يَصح إِلْحَاق المثقل بِهِ أَو يُعلل الْحَنَفِيّ بذلك فَيَقُول الْخصم زِدْت فِي أَوْصَاف الْعلَّة وَصفا لَيْسَ مِنْهَا وَهُوَ صَلَاحِية الْآلَة وَإِنَّمَا الْعلَّة هِيَ الْقَتْل الْعمد الْعدوان فَقَط فَيلْحق بِهِ المثقل
الرَّابِع أَن يتَوَهَّم وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع وَلَيْسَت فِيهِ مثل أَن يظنّ أَن الْخِيَار وَنَحْوه مَكِيلًا فيلحقه فِي تَحْرِيم الرِّبَا أَو بِالْعَكْسِ مثل أَن يظنّ أَن الْأرز مَوْزُون فيلحقه بالخضراوات فِي عدم تَحْرِيم الرِّبَا بِجَامِع أَنه لَيْسَ بمكيل
الْخَامِس أَن يسْتَدلّ على تَصْحِيح الْعلَّة بِمَا لَيْسَ بِدَلِيل فَلَا يَصح فَلَا يحل لَهُ الْقيَاس وَإِن أصَاب كَمَا لَو أصَاب بِمُجَرَّد الْوَهم والحدس أَو أصَاب الْقبْلَة عِنْد اشتباهها بِدُونِ اجْتِهَاد ذكر هَذَا الْغَزالِيّ
تَنْبِيه قد تقدم أَن فَائِدَة الْقيَاس إِلْحَاق الْمَسْكُوت عَنهُ بالمنطوق وَذَلِكَ الْإِلْحَاق على ضَرْبَيْنِ مَقْطُوع بِهِ ومظنون
وَالْأول ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون الْمَسْكُوت عَنهُ أولى بالحكم وَهُوَ فحوى الْخطاب وَمَفْهُوم الْمُوَافقَة وَشَرطه مَا سبق فِي مَوْضِعه نَحْو إِن قبلت شَهَادَة اثْنَيْنِ فَثَلَاثَة أولى وَإِذا لم تصح الْأُضْحِية بالعوراء فالعمياء أولى وَهُوَ بِخِلَاف قَوْلنَا إِذا ردَّتْ شَهَادَة الْفَاسِق فشهادة الْكَافِر
أولى بِالرَّدِّ وَإِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي قتل الْخَطَأ فَفِي الْعمد لَو أولى فَإِنَّهُ مظنون لِإِمْكَان الْفرق إِذْ بَينهمَا جَامع وَهُوَ مبادرة الذِّهْن إِلَى أَيَّة وَالْفرع بالحكم وَفَارق وَهُوَ إِمْكَان الْفرق بَين الأَصْل وَالْفرع
وَالثَّانِي أَن يَسْتَوِي الأَصْل وَالْفرع فِي استحقاقهما ومناسبتهما لَهُ كَقَوْلِنَا سرى الْعتْق فِي العَبْد فالأمة مثله إِذْ لَا تَأْثِير للذكورة وَالْأُنُوثَة فِي هَذَا الحكم وَنَحْوه فِي عرف الشَّرْع وتصرفه إِذْ هما وصفان طرديان كالسواد وَالْبَيَاض وَإِن كَانَ للذكورية والأنوثية تَأْثِير فِي الْفرق فِي بعض الْأَحْكَام كولاية النِّكَاح وَالْقَضَاء وَالشَّهَادَة وكقولنا موت الْحَيَوَان فِي السّمن يُنجسهُ وَالزَّيْت مثله وَلَا أثر للفارق يكون هَذَا سمنا وَهَذَا زيتا لِأَنَّهُ فرق لَفْظِي غير مُنَاسِب وَطَرِيق الْإِلْحَاق فِيهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يُقَال لَا فَارق بَين مَحل النزاع وَمحل الِاحْتِجَاج إِلَّا كَذَا وَهُوَ لَا أثر لَهُ فَيجب استواؤهما فِي الحكم كَأَن يُقَال لَا فَارق بَين العَبْد وَالْأمة فِي سرَايَة الْعتْق وتنصيف الْحَد إِلَّا الذكورية وَلَا أثر لَهَا فَيجب استواؤهما فِي ذَلِك الْوَجْه
الثَّانِي أَن يبين الْجَامِع الَّذِي هُوَ منَاط الحكم فِي الأَصْل مَا هُوَ وَيبين وجوده فِي الْفَرْع فَيثبت الحكم مثل أَن يَقُول الْعلَّة فِي الأَصْل كَذَا وَهِي متحققة فِي الْفَرْع فَيجب استواؤهما فِي الحكم وَهَذَا النَّوْع مُتَّفق على تَسْمِيَته قِيَاسا وَفِيمَا قبله خلاف
وَمن أَمْثِلَة الثَّانِي أَن يُقَال السكر عِلّة التَّحْرِيم وَهِي مَوْجُودَة فِي النَّبِيذ فَيثبت التَّحْرِيم فِيهِ وَإِثْبَات الْمُقدمَة الأولى بِالشَّرْعِ فَقَط إِذْ هِيَ وضعية
وَالثَّانيَِة بِالْعقلِ وَالْعرْف وَالشَّرْع وَمَا عدا مَا ذَكرْنَاهُ من الْإِلْحَاق بطرِيق الأولى وَالْقِيَاس فِي معنى الأَصْل فَهُوَ مظنون كالأقيسة الشبهية وَهنا انْتهى بَيَان أَصْنَاف الْإِلْحَاق القياسي قطعا أَو ظنا ولنتكلم على أَدِلَّة الشَّرْع الَّتِي تثبت بهَا الْعلَّة الشَّرْعِيَّة فَنَقُول مرجع أَدِلَّة الشَّرْع إِلَى نَص أَو إِجْمَاع أَو استنباط وَتثبت الْعلَّة بِكُل مِنْهَا على سَبِيل الْبَدَل فَإِن ثبتَتْ بِالنَّصِّ الَّذِي هُوَ الْكتاب وَالسّنة عمل بهَا وَإِلَّا تثبت بِالْإِجْمَاع فَإِن لم يُوجد فَفِي الاستنباط
فَأَما إِثْبَاتهَا بِالنَّصِّ وَهُوَ الدَّلِيل النقلي فعلى نَوْعَيْنِ أَحدهمَا أَن تكون الْعلَّة مُصَرحًا بهَا بِأَن يكون اللَّفْظ مَوْضُوعا للتَّعْلِيل أَو مَشْهُورا فِي عرف اللُّغَة كَقَوْلِه تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} الْحَشْر 7 أَي إِنَّا جعلنَا مصرف الْفَيْء هَذِه الْجِهَات لِئَلَّا يتداوله الْأَغْنِيَاء قوما بعد قوم فتفوت نَفَقَة تِلْكَ الْجِهَات المحتاجة إِلَيْهِ وَلَا يَقع من الْأَغْنِيَاء موقع ضَرُورَة وَقس على ذَلِك أَمْثَاله من الْكتاب وَالسّنة كَقَوْلِه تَعَالَى {فأثابكم غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} آل عمرَان 153 أَي من الْغَنِيمَة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} الْبَقَرَة 143 أَي ليمتحنهم بالانقياد للانتقال من قبْلَة إِلَى قبْلَة فَإِن أضيف الْفِعْل الْمَذْكُور إِلَى مَا لَا يصلح أَن يكون عِلّة فَهُوَ
مجَاز وَيعرف ذَلِك بِعَدَمِ الدَّلِيل على عدم صلاحيته عِلّة مثل أَن يُقَال للْفَاعِل لم فعلت فَيَقُول لِأَنِّي أردْت
فالإرادة هُنَا لَا تصلح للتَّعْلِيل لِأَن الْعلَّة إِنَّمَا هِيَ الْمُقْتَضى الْخَارِجِي للْفِعْل والإرادة لَيست معنى خَارِجا عَن الْفِعْل فَكَانَ اسْتِعْمَالهَا هُنَا اسْتِعْمَالا للفظ فِي غير مَحَله فَكَانَت مجَازًا فإمَّا مثل قَوْله عليه السلام فِي الْمحرم الَّذِي مَاتَ لَا تقربوه طيبا فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا وَقَوله فِي الروثة لما جِيءَ بهَا ليستجمر بهَا أَنَّهَا رِجْس
وَمثل هَذَا فَقَالَ أَبُو الْخطاب هَذَا كُله صَرِيح فِي التَّعْلِيل خُصُوصا فِيمَا لحقته الْفَاء نَحْو فَإِنَّهُ يبْعَث ملبيا
وَقَالَ غَيره هُوَ من بَاب التَّنْبِيه والإيماء وَالْخلاف لَفْظِي لِأَن أَبَا الْخطاب يَقُول إِن التَّعْلِيل بِهِ صَرِيح لِأَنَّهُ تبادر مِنْهُ إِلَى الذِّهْن بِغَيْر توقف فِي عرف اللُّغَة وَغَيره يَعْنِي بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَرِيح أَن حرف إِن لَيست مَوْضُوعَة للتَّعْلِيل فِي اللُّغَة
الثَّانِي من إِثْبَات الْعلَّة بِالدَّلِيلِ النقلي الْإِيمَاء وَالْفرق بَينه وَبَين الأول أَن النَّص يدل على الْعلَّة بوصفه لَهَا والإيماء يدل عَلَيْهَا بطرِيق الِالْتِزَام وَهُوَ أَنْوَاع
أَحدهمَا ذكر الحكم عقيب الْوَصْف بِالْفَاءِ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض وَلَا تقربوهن} الْبَقَرَة 222 {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} الْمَائِدَة 38 {وَقَوله عليه السلام من أَحْيَا أَرضًا فَهِيَ لَهُ فَهَذِهِ أَحْكَام ذكرت عقيب أَوْصَاف كاعتزال النِّسَاء عقيب الْمَحِيض وَقطع السَّارِق عقيب السّرقَة وَملك الأَرْض بعد الْإِحْيَاء وَهُوَ يُفِيد أَن الْوَصْف الَّذِي قبل الحكم عِلّة وَسبب لثُبُوته إِذْ الْفَاء للتعقيب فتفيد تعقيب الحكم الْوَصْف وَأَنه سَببه إِذا السَّبَب مَا ثَبت الحكم عَقِيبه
ثَانِيهَا تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف بِصِيغَة الْجَزَاء كَقَوْلِه تَعَالَى} وَمن يتق لله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً {الطَّلَاق} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطَّلَاق 3 أَي لتقواه وتوكله لتعقيب الْجَزَاء وَالشّرط
ثَالِثهَا ذكر الحكم جَوَابا بالسؤال يُفِيد أَن السُّؤَال الْمَذْكُور أَو مضمونه عِلّة الْجَواب كَقَوْلِه عليه الصلاة والسلام فِي جَوَاب قَول الْأَعرَابِي واقعت أَهلِي فِي نَهَار رَمَضَان أعتق رَقَبَة لِأَن ذَلِك فِي معنى قَوْله حَيْثُ واقعت أهلك فَأعتق رَقَبَة
رَابِعهَا أَن يذكر الشَّارِع مَعَ الحكم سَببا لَو لم يُعلل الحكم بِهِ لَكَانَ ذكره لاغيا فَيجب تَعْلِيل الحكم بذلك الشَّيْء الْمَذْكُور مَعَه لصيانة كَلَام الشَّارِع عَن اللَّغْو وَهَذَا النَّوْع قِسْمَانِ أَحدهمَا أَن يسْأَل فِي الْوَاقِعَة عَن أَمر ظَاهر ثمَّ يذكر الحكم عَقِيبه فَيدل على التَّعْلِيل كَقَوْلِه عليه السلام لما سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ قَالَ أينقص الرطب إِذا يبس قَالُوا نعم قَالَ فَلَا إِذن فَهَذَا اسْتِفْهَام على جِهَة التَّقْرِير لكَونه ينقص إِذا يبس وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الاستعلام إِذْ الْمَعْلُوم لكل عَاقل أَن الرطب ينقص إِذا يبس لزوَال الرُّطُوبَة الْمُوجبَة لزيادته وَثقله
ثَانِيهمَا أَن يعدل فِي الْجَواب إِلَى نَظِير مَحل السُّؤَال كَقَوْل عمر رضي الله عنه للنَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنِّي قبلت وَأَنا صَائِم فَقَالَ لَهُ أَرَأَيْت لَو تمضمضت
فَإِن ذَلِك يدل على التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرك