الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد نضيد فِي الِاجْتِهَاد والتقليد
الِاجْتِهَاد فِي اللُّغَة بذل الْجهد يَعْنِي الطَّاقَة فِي عمل شاق وَإِنَّمَا قيد الْعَمَل بِكَوْنِهِ شاقا لِأَن الِاجْتِهَاد مُخْتَصّ بِهِ فِي عرف اللُّغَة إِذْ يُقَال اجْتهد الرجل فِي حمل الرَّحَى وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الثَّقِيلَة وَلَا يُقَال اجْتهد فِي حمل خردلة وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الْخَفِيفَة وَهُوَ الِاصْطِلَاح استفراغ الوسع فِي طلب الظَّن بِشَيْء من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ
وَقسم الْعلمَاء الِاجْتِهَاد إِلَى قسمَيْنِ نَاقص وتام
فالناقص هُوَ النّظر الْمُطلق فِي تعرف الحكم وتختلف مراتبه بِحَسب الْأَحْوَال
والتام هُوَ استفراغ الْقُوَّة النظرية حَتَّى يحس النَّاظر من نَفسه الْعَجز عَن مزِيد طلب ومثاله مِثَال من ضَاعَ مِنْهُ دِرْهَم فِي التُّرَاب فقلبه بِرجلِهِ فَلم يجد شَيْئا فَتَركه وَرَاح وَآخر إِذا جرى لَهُ ذَلِك جَاءَ بغربال فغربل التُّرَاب حَتَّى يجد الدِّرْهَم أَو يغلب على ظَنّه أَنه مَا عَاد يلقاه
فَالْأول اجْتِهَاد قَاصِر
وَالثَّانِي تَامّ وَعلم من التَّعْرِيف وَمِمَّا سبق أول الْكتاب أَن استفراغ الْجهد إِنَّمَا هُوَ للفقيه وَهُوَ الْمُجْتَهد فَلَا عِبْرَة باستفراغ جهد غير الْمُجْتَهد
وَقَوْلنَا فِي طلب ظن يُشِير إِلَى أَنه لَا اجْتِهَاد فِي القطعيات
وَقَوْلنَا بِشَيْء من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يخرج مَا لَو استفرغ جهده فِي طلب شَيْء من الحسيات والعقليات فَإِنَّهُ بمعزل عَن مقصودنا والمجتهد من اتّصف بِصفة الِاجْتِهَاد وَحصل أَهْلِيَّته وَقد ذكر الْعلمَاء لَهُ شُرُوطًا وَذَلِكَ أَنه لما لم يكن لَا بُد أَن يكون عَاقِلا بَالغا قد ثبتَتْ لَهُ ملكة يقتدر بهَا على اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام من مأخذها وَلَا يتَمَكَّن من ذَلِك إِلَّا باتصافه بِأُمُور لَا جرم جعلُوا تِلْكَ الْأُمُور شُرُوطًا وَهِي أَن الْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يعرف من الْكتاب مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَهُوَ قدر خَمْسمِائَة آيَة قَالَه الْغَزالِيّ وَغَيره
وَلَيْسَ هَذَا القَوْل بسديد وَلَيْسَ هَذَا التَّقْدِير بمعتبر وَأَن مِقْدَار أَدِلَّة الْأَحْكَام فِي ذَلِك غير منحصرة فَإِن أَحْكَام الشَّرْع كَمَا تستنبط من الْأَوَامِر والنواهي كَذَلِك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ وَنَحْوهَا
فَقل أَن يُوجد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم آيَة إِلَّا ويستنبط مِنْهَا شَيْء وَقد سلك هَذَا المسلك الشَّيْخ عزالدين بن عبد السَّلَام فألف كِتَابه أَدِلَّة الْأَحْكَام لبَيَان ذَلِك وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذين حصروها فِي خَمْسمِائَة آيَة إِنَّمَا نظرُوا إِلَى مَا قصد مِنْهُ بَيَان الْأَحْكَام دون مَا استفيدت مِنْهُ وَلم يلتفتوا إِلَى مَا قصد بِهِ بَيَانهَا وَهل يشْتَرط حفظ الْآيَات عَن ظهر قلب أَو يَكْفِيهِ أَن يكون مستحضرا لَهَا وَالصَّحِيح الثَّانِي وَأَنه يَكْفِيهِ أَن يعرف مواقع الحكم من مظانه ليحتج بِهِ عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ لِأَن مَقْصُود الِاجْتِهَاد هُوَ إِثْبَات الحكم بِدَلِيل يخْتَص بِهِ وَيشْتَرط أَن يعرف من السّنة مَا يَكْفِيهِ لاستنباط الْأَحْكَام وَلَا
يتَعَيَّن ذَلِك بِبَعْض السّنة دون بعض خلافًا لمن حصرها فِي خَمْسمِائَة حَدِيث لِأَنَّهُ قل حَدِيث يَخْلُو عَن الدّلَالَة على حكم شَرْعِي وَمن نظر فِي كَلَام الْعلمَاء على دواوين الحَدِيث كَالْقَاضِي عِيَاض والنواوي على صَحِيح مُسلم والخطابي والحافظ ابْن حجر على صَحِيح البُخَارِيّ وَفِي شرح سنَن أبي دَاوُد وَغَيرهَا عرف ذَلِك نعم أَحَادِيث السّنة وَإِن كثرت محصورة فِي الدَّوَاوِين والمعول عَلَيْهِ مِنْهَا مَشْهُور كالصحيحين وَبَقِيَّة السّنَن السِّتَّة وَمَا أشبههَا وَقد قرب النَّاس ذَلِك بتصنيف كتب الْأَحْكَام ككتابي الْحفاظ عبد الْغَنِيّ بن سرُور الْمَقْدِسِي وَكتب الْحَافِظ عبد الْحق المغربي وَكتاب الْأَحْكَام لمجدالدين عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية جد شيخ الْإِسْلَام وَنَحْوهَا
وَأجْمع هَذِه الْكتب كتاب الْأَحْكَام لمحب الدّين الطَّبَرِيّ وَبِذَلِك صَار الْوُقُوف على مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ سهل المرام قريب المأخذ فَإِن قيل فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو عَليّ الضَّرِير أَنه قَالَ قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل كم يَكْفِي الرجل من الحَدِيث يَكْفِيهِ مائَة ألف قَالَ لَا قلت مِائَتَا ألف قَالَ لَا قلت ثَلَاثمِائَة ألف قَالَ لَا قلت أَرْبَعمِائَة ألف قَالَ لَا قلت خَمْسمِائَة ألف قَالَ أَرْجُو
وروى عَنهُ الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل مثل هَذَا وروى مثله عَن يحيى بن معِين
وَقَالَ أَحْمد بن عَبدُوس قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل من لم يجمع علم الحَدِيث وَكَثْرَة طرقه واختلافه لَا يحل لَهُ الحكم على الحَدِيث وَلَا الْفتيا بِهِ وَقَالَ أَحْمد بن منيع مر بِنَا أَحْمد بن حَنْبَل جائيا من الْكُوفَة وَبِيَدِهِ خريطة فِيهَا كتب فَأخذت بِيَدِهِ فَقلت مرّة إِلَى الْكُوفَة وَمرَّة إِلَى الْبَصْرَة إِلَى مَتى إِذا كتب الرجل ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث ألم يكفه فَسكت قلت فستين ألفا فَسكت فَقلت فمائة ألف قَالَ فَحِينَئِذٍ يعرف شَيْئا فَنَظَرْنَا فَإِذا أَحْمد قد كتب
عَن بهز وَأَظنهُ قَالَ وَعَن روح بن عبَادَة ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث إِلَى غير ذَلِك مِمَّا رَوَاهُ عَنهُ أَصْحَابه فِي هَذَا الْمَعْنى
قُلْنَا فِي الْجَواب إِن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد حملُوا كَلَامه هَذَا على الِاحْتِيَاط والتغليظ فِي الْفتيا أَو على أَن يكون أَرَادَ وصف أكمل الْفُقَهَاء حكى هَذَا القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْعدة فَأَما الَّذِي لَا بُد مِنْهُ وَدلّ عَلَيْهِ كَلَام أَحْمد إِن الْأُصُول الَّتِي يَدُور عَلَيْهَا الْعلم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْبَغِي أَن تكون ألفا وألفا وَمِائَتَيْنِ انْتهى
وَلَا يخفاك أَن لفظ الحَدِيث عِنْد السّلف أَعم مِمَّا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمن آثَار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وطرق الْمُتُون وَإِلَّا فالأحاديث المروية لاتصل إِلَى عشر هَذَا الْعدَد
وَغَايَة مَا جمعه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده الَّذِي أحَاط بالأحاديث ثَلَاثِينَ ألفا وَغَايَة مَا ضمه إِلَيْهِ ابْنه عبد الله عشرَة آلَاف حَدِيث فَكَانَ مَجْمُوعه أَرْبَعِينَ ألفا فَتنبه لذَلِك
وَيشْتَرط للمجتهد مَعَ مَعْرفَته بِأَحَادِيث الْأَحْكَام معرفَة صِحَة الحَدِيث ومعرفته بذلك إِمَّا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ بِأَن يكون لَهُ من الْأَهْلِيَّة وَالْقُوَّة فِي علم الحَدِيث مَا يعرف بِهِ صِحَة مخرج الحَدِيث أَي طَرِيقه الَّذِي ثَبت بِهِ وَمن رِوَايَة أَي الْبِلَاد هُوَ أَو أَي التراجم وَيعلم عَدَالَة رُوَاته وضبطهم وَبِالْجُمْلَةِ يعلم من حَاله وجود شُرُوط قبُوله وَانْتِفَاء موانعه وموجبات رده وَإِمَّا بطرِيق التَّقْلِيد بِأَن يَنْقُلهُ من كتاب صَحِيح ارتضى الْأَئِمَّة رُوَاته كالصحيحين وَسنَن أبي دَاوُد وَنَحْوهَا
لِأَن ظن
الصِّحَّة يحصل بذلك وَإِن كَانَ الأول أَعلَى رُتْبَة من الثَّانِي وَأَن يعرف النَّاسِخ والمنسوخ من الْكتاب وَالسّنة لِأَن الْمَنْسُوخ بَطل حكمه وَصَارَ الْعَمَل على النَّاسِخ فَإِن لم يعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ أفْضى إِلَى إِثْبَات الْمَنْفِيّ وَنفي الْمُثبت ويكفيه أَن يعرف أَن دَلِيل هَذَا الحكم لَيْسَ بمنسوخ فَلَا يشْتَرط عَلَيْهِ أَن يعرف جَمِيع الْأَحَادِيث المنسوخة من الناسخة وَمَعَ هَذَا فالإحاطة بِمَعْرِِفَة ذَلِك أيسر من غَيره لقلَّة الْمَنْسُوخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحكم من الْكتاب وَالسّنة وَقد صنف فِي نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو جَعْفَر النّحاس وَالْقَاضِي أَبُو بكر وَابْن الْعَرَبِيّ ومكي صَاحب الْأَعْرَاب وَمن الْمُتَقَدِّمين هبة الله بن سَلامَة
وَمن الْمُتَأَخِّرين ابْن الزاغواني وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهم
وَألف فِي نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه جمَاعَة مِنْهُم الشَّافِعِي وَابْن قُتَيْبَة وَابْن شاهين وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهم
وَيعرف ذَلِك معرفَة جَيِّدَة من تفاسير الْقُرْآن والْحَدِيث البسيطة كتفسير الْقُرْطُبِيّ وشروح الصَّحِيحَيْنِ لَكِن يجب على الْمُجْتَهد أَن يَجْعَل تِلْكَ الْكتب دَالَّة لَهُ على القَوْل بالنسخ وَلَا يَأْخُذ قَول أَصْحَابهَا قَضِيَّة مسلمة لِأَن كثيرا مَا تراهم يردون نَاسِخا ومنسوخا تعصبا لمذهبهم ويطلقون النّسخ من غير تمحيص فعلى النَّاظر أَن يطْرَح التعصب وَينظر بِعَين الْإِنْصَاف كَيْلا يَقع فِي التَّقْلِيد وَلَقَد سلكنا فِي تفسيرنا للْكتاب الْعَزِيز هَذَا المسلك وَبينا فِيهِ خطأ كثيرين ادعوا نسخ بعض الْآيَات وَلَا دَلِيل لَهُم إِلَّا التعصب لمذهبهم
وَمن شُرُوط الْمُجْتَهد أَن يعرف من الْإِجْمَاع مَا تقدم فِي بَابه من هَذَا الْكتاب وَغَيره مثل أَن يعلم أَن الْإِجْمَاع حجَّة وَأَن الْمُعْتَبر فِيهِ اتِّفَاق الْمُجْتَهدين وَأَنه لَا يخْتَص بِاتِّفَاق بلد دون بلد وَنَحْو ذَلِك ويكفيه أَن يعلم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أَو مِمَّا اخْتلف فِيهِ هَذَا إِذا كَانَ قَائِلا بِالْإِجْمَاع وَيجب عَلَيْهِ أَن يتثبت فِي هَذَا النَّوْع لِأَنَّهُ كم من مَسْأَلَة يرى القَوْل بِالْإِجْمَاع فِيهَا وَيكون مُرَاد الْقَائِل إِجْمَاع أهل مذْهبه أَو إِجْمَاع الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَو إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة فليتنبه لذَلِك وَأَن يعرف من النَّحْو واللغة مَا يَكْفِيهِ فِي معرفَة مَا يتَعَلَّق بِالْكتاب وَالسّنة من نَص ظَاهر ومجمل وَحَقِيقَة ومجاز وعام وخاص وَمُطلق ومقيد وَدَلِيل خطاب وَنَحْوه
وَلَا يشْتَرط فِي حَقه أَن يعرف تفاريع الْفِقْه الَّتِي يعْنى بتحقيقها الْفُقَهَاء لِأَن ذَلِك من فروع الِاجْتِهَاد الَّتِي وَلَدهَا المجتهدون بعد حِيَازَة منصبه فَلَو اشْترطت مَعْرفَتهَا فِي الِاجْتِهَاد لزم الدّور لتوقف الأَصْل الَّذِي هُوَ الِاجْتِهَاد على الْفَرْع الَّذِي هُوَ تفاريع الْفِقْه وَكَذَلِكَ لَا يشْتَرط معرفَة دقائق الْعَرَبيَّة والتصريف حَتَّى يكون كسيبويه والأخفش والمازني والمبرد والفارسي وَابْن جني وَنَحْوهم لِأَن الْمُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا فِي الْفِقْه دون ذَلِك وَيشْتَرط للمجتهد أَن يعرف تَقْرِير الْأَدِلَّة وَمَا يتقوم ويتحقق بِهِ كَيْفيَّة نصب الدَّلِيل وَوجه دلَالَته على الْمَطْلُوب وَلَا بَأْس أَن يكون عَالما بِشَيْء من فن الْمنطق لَا أَن يكون متوغلا فِيهِ لِأَنَّهُ يعين على تَرْتِيب الْأَدِلَّة وَيحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْقيَاس احتياجا كثيرا