الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودخل الفضل بن جعفر بن الفرات فخرج إليه محمد بن بدر وقضى حقّه. وكان محمد بن علي الماذرائيّ مقبوضا عليه في يد الفضل بن جعفر، فدخل محمد بن بدر على الفضل يوما فقال له الفضل: هذا إسماعيل بن بيان، هو وكيل جارية محمد بن علي وزوجته، فما جاءك في شيء فأمضه.
فقال له: حتّى تثبت وكالته عندي بشاهدين.
فقال له: أنا أقول لك إنّه وكيلها وتقول لي هذا؟ وخبرك عندي، وليس هذا موضعك، وإنّما تريد أن تنفق [132 ب] بهذا القول. أقيموه!
فقام واعتقل ساعة في داره. ثمّ خوطب فيه، فأرسل إليه [م]- من يريد من الشهود شاهدين (1).
(قال): وكان محمد بن بدر قد كتب عن جماعة، منهم عليّ بن عبد العزيز: كتب عنه كتب أبي عبيد وكتب مصعب الزبيريّ. وعن عبد الله بن أبي مريم كتب الفريابيّ. وسمع من أبي الزنباع، وأبي يزيد يوسف بن يزيد، وأحمد بن محمد بن رشدين، وغير هذه الطبقة.
وصنّف كتاب نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحدّث به.
وحدّث بكتاب أبي عبيد.
وكان مولده سنة أربع وستّين ومائتين. وكان يعطي القضاء حقّه. وعمل له أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ كتاب «الموالي بمصر» .
ولم يزل ينظر إلى شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. ثمّ وردت ولاية عبد الله بن أحمد بن
زبر، فكانت ولاية محمد بن بدر هذه سنتين.
ولمّا توفّي القاضي أبو عبد الله الحسين بن أبي زرعة، ردّ محمد بن طغج الإخشيد القضاء إلى محمد بن بدر- وهذه الولاية الثانية- وذلك يوم السبت لإحدى عشرة خلت من ذي الحجّة سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. فركب إليه الشهود الذين تأخّروا عنه في ولايته الأولى واعتذروا بأن قالوا:
«ما رأينا منه في ولايته الأولى إلّا خيرا» ، فتكامل الشهود عنده.
ولم يزل محمد بن بدر ينظر، إلى سلخ صفر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فوافى أبو محمد عبد الله بن أحمد بن زبر. فكانت ولاية محمد بن بدر هذه سنة واحدة وشهرين.
وفي شوّال سنة تسع وعشرين ورد كتاب الحسين بن عيسى بن هارون من الرملة على الإخشيد محمد بن طغج بولاية محمد بن بدر- وهي الولاية الثالثة- فتسلّم من عبد الله بن وليد، ثمّ مات، وكانت ولايته هذه أحد عشر شهرا.
وتوفّي عشيّة الثلاثاء لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة. وقال ابن يونس: توفّي يوم الاثنين لستّ وعشرين خلت من شعبان.
وقال مسلمة بن قاسم: كان يروي عن عليّ بن عبد العزيز، ومقدام، وغيره. وكان حنفيّ الفقه، وليس هناك في الرواية. وكان صاحب رشوة في قضائه، ولم يكن بالمحمود.
1903 - ابن بركات النحويّ الصوفيّ [420 - 520]
(2)
محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد
(1) الكلام هنا غامض، وعند الكندي أكثر غموضا: ثم أرسل إليه: من تريد من الشهود. وقال: من شهودي الذين أقبلهم، ففعل الوزير ذلك وعظم محمّد بن بدر في عينه
…
ولعلّ المعنى- اعتمادا على ما سيأتي- أنّ الشهود تخلّوا عنه إلّا اثنين منهم.
(2)
الوافي 2/ 247 (650)، إنباه الرواة 3/ 79، بغية الوعاة 24، الأعلام 6/ 276، شذرات 4/ 62 وهو فيها:
الصعيديّ.
- وقيل: محمد بن بركات بن عليّ بن هلال بن عبد الواحد- أبو عبد الله، السعيديّ، النحويّ، اللغويّ، الصوفيّ، من [135 أ] ولد سعد بن شرحبيل بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد، تلميذ ابن بابشاذ النحويّ، وشيخ مصر في النحو واللغة.
ولد في المحرّم سنة عشرين وأربعمائة. وأدرك أبا يوسف يعقوب بن خرّزاد النّجيرميّ ورآه وهو صبيّ ولم يهتد للأخذ عنه. قال الموفّق يوسف بن الخلّال كاتب الإنشاء: قال ابن بركات: رأيت النّجيرميّ ماشيا في طريق القرافة، شيخا أسمر، كثّ اللحية.
ولحق الحوفيّ النحويّ ولم يقرأ عليه شيئا.
وسمع صحيح البخاريّ بمكّة على كريمة بنت أحمد المروزيّة. ولقي المشايخ الأجلّاء كالقاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعيّ، وأبي سهل الهرويّ. وروى عن أبي الحسين نصر بن عبد العزيز الشيرازيّ، وأبي عليّ الفاقوسيّ، وأبي الحسن عبد الباقي بن فارس المقرئ، والحافظ أبي القاسم سعد بن عليّ الزنجانيّ، وأبي الحسن عبد الملك بن محمود بن مسكين الزجّاج، وأبي عبد الله الحسين بن محمد الميمونيّ، وأبي الفرج عليّ بن نصر بن الصبّاح الكاتب، وأبي الحسين محمد بن عليّ بن إبراهيم بن يحيى الدقّاق، وأبي الحسن طاهر ابن بابشاذ النحويّ- وأخذعنه النحو- وأبي سعيد خلف بن عبد الله بن بحر العروضيّ المعروف بالفاكراسيّ، وأبي الحسن عليّ بن مندة القمّي اللغويّ الزاهد، وأبي عبد الله محمد المعروف بالزكيّ النحويّ، والعلاء ابن أبي الفتح عثمان بن جنّيّ، وأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبّال.
وروى عنه الشريف الخطيب ناصر بن الحسن الرنديّ، والحافظ أبو طاهر السلفيّ، وأبو القاسم البوصيريّ، وأبو الطاهر إسماعيل بن عليّ بن [أبي] مقشّر (1) النحويّ.
وأدرك الشدّة العظمى التي كانت بمصر في سني ستّين وأربعمائة وما بعدها، وكان إذ ذاك له أربعون سنة، وهو يقرأ على ابن بابشاذ النحو. وكان يحضر مائدة متولّي الشرطة بمصر- وكان يعلّم أولاده- ثمّ يأخذ رسمه رغيفين فيدفع أحدهما لشيخه ابن بابشاذ- وكان منقطعا في سطح جامع عمرو بن العاص للعبادة- ويبيع الرغيف الآخر في سوق زقاق القناديل بأربعة عشر درهما ويأخذ الدراهم، ويطلع إلى القاهرة [ف] يدفعها للفرّاشين الموكّلين بالإيوان بخزانة الكتب بالقصر، فيأخذ بكلّ درهم كتابا فيتخيّر الكتب المنسوبة وخطوط العلماء، وكلّ [135 ب] مستحسن، ويأتي بذلك معه إلى سقف بيت قد أغلق بابه ونقب السقف فيرمي تلك الكتب منه، كذا كلّ يوم. فلم تمض الشدّة إلّا وذلك البيت ملآن كتبا من كلّ فنّ، فكانت سبب غنائه عن الناس إلى أن مات.
وكان عجيب الخلقة مهيج الوجه طوالا يتعمّم على طرطور فيه طول ويتحنّك بشيء من عمامته، وثيابه دنسة أبدا. وكان يكثر التقعير والتمشدق في كلامه لا يتكلّم إلّا بإعراب وخطابة وتفخيم. وكان إذا حضر في موضع يرتاع منه كلّ متكلّم لأنّه يعتمد لتخطئة كلّ من تكلّم وجها يخطّئه ويلحّنه به فلا يكاد أحد يسلم منه. واتّفق أنّه وقف ذات يوم على بيّاع رطب ليشتري منه. فقال البيّاع: يا شيخ، معك ما تأخذ فيه هذا الرطب أو أدفع لك دوخلة؟
فقال له ابن بركات أخطأت: لا يجوز دوخلة،
(1) ابن أبي مقشّر في بغية الوعاة 197.
وإنّما هي دوخلّة بالتشديد: فوعلّة على وزن قوصرّة.
فرفع البيّاع وجهه إليه فرأى شيخا عجيب الخلقة وحش الثياب بطرطور، وقد تعمّم فوقه فظنّ أنّه من الريف، فقال: والله يا مولاي الشيخ إنّك دوخلة.
فقال ابن بركات: دوخلة العلم لا دوخلة الرطب!
فقال البيّاع: لا والله، إلّا دوخلة النحس!
فضحك الناس. وبلغ الخبر إلى الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش سلطان مصر بشكوى ابن بركات ما جرى عليه إلى الوالي الذي يعلّم أولاده. فاستدعى الأفضل البيّاع ووهبه دنانير وضحك من القضيّة. وأنفذ إلى الشيخ مع الوالي دنانير أيضا.
وكان في آخر عمره قد ضعف بصره. فعمل قصيدة وسأل ولد ابن أبي أسامة كاتب الدست أن يحضره قدّام الأفضل ويتوسّط له في المجلس ويحسن السفارة في حقّه، ليثيبه عليها. فقرّر له يوما وبعث إليه أولاده- وكانوا يقرءون عليه.
فقالوا: يا مولاي الشيخ، لا يجب أن تحضر قدّام السلطان بهذه الثياب القطن الدنسة. نحن نأخذ لك ثوبا نصافيّا وعمامة جديدة وعرضيّا من الشرب، وتتبخّر وتتطيّب بماء الورد فتعود إلى سيماء الناس. ربّما يدنيك السلطان ويحادثك فلا يرى منك إلّا ما يعجبه، فإنّ الملوك لا صبر لهم على ما لا يعجبهم.
فقال: يا قوم، والله إنّكم تطلبون منّي تعديل ما أماله القدر. وكذلك [136 أ] خلقني الله عز وجل وكذا قدّر لي، فتتعبون ولا يكون إلّا ما قدّر لي.
فقالوا: لا بدّ.
فقال: اعملوا ما شئتم.
ففصّلوا له ثوبا من النصافيّ السابوريّ، وغلالة من الغزل المعروف بالطلّيّ، ومعهما عمامة من الصقلبيّ وعرضي من الشرب الرفيع، وجاءوا بعود وندّ وماء ورد في قنّينة كبيرة، ثمّ واعدوه الغد وقالوا له: تلبس الثياب فتبخّر وتطيّب، واجلس حتّى تحضر لك بغلة، وتمضي.
فقال: أفعل.
فلمّا كان السحر قام الشيخ ولبس ثيابه التي أحضروها له وتطيّب. ثمّ أخذ قنّينة ماء الورد ليرشّها على وجهه وثيابه فغلط وأخذ قنينة الحبر ورشّ منها على وجهه ولحيته وعمامته وثيابه فصار سخاما (1) من قرنه إلى قدمه. فلمّا جاء القوم ورأوه بهتوا، لأنّهم رأوا شيخا أسود مستحمّ (2) الوجه كأنّما مرّغته في زفت، فقالوا: أيّ شيء هذا يا مولاي الشيخ؟
قال: عنادكم للمقادير، إنّي أقول لكم إنّ الله سبحانه لم يخلقني إلّا على ضدّ ما تطلبون. وأنتم تعاندون: أردت أن آخذ قنّينة ماء الورد، فأخذت قنّينة للحبر، وأنا في الظلماء، وبصري كما علمتم، وبختي لم يبت البارحة عندي- وكان له بوّاب يسمّي بختي، وكان من الصالحين- ثمّ قال:
والله الذي لا إله إلّا هو إن صبغت ثيابي وكلّ ما عليّ إلّا أزرق!
فقالوا: لا تفعل!
فقال: قد كان ذلك! - وصبغ ثيابه وكلّ ما عليه عند الصبّاغ.
وبلغ الخبر الأفضل فأحضره وسمع قصيدته، ومنها [الرجز]:
(1) السخام بالضمّ: الفحم، والسحام بالمهملة: السواد
(2)
استحمّ وتحمّم: صار أسود.