الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس رسم المصحف
نقصد برسم المصحف، أو كما يسميه بعض العلماء الرسم العثماني وهما واحد، لأن عثمان- رضي الله عنه قد كتب المصاحف كما كتبت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقرّ كتّاب الوحي على كتابتها بصورتها المعروفة. وقد اختلف العلماء في الرسم فذهب فريق منهم أن الرسم توقيفي. قال ابن المبارك في كتابه الإبريز:
قال الدباغ: (ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن العزيز ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الأحرف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وما كانت العرب في جاهليتها، ولا أهل الإيمان من سائر الأمم في أديانهم يعرفون ذلك، ولا يهتدون بعقولهم إلى شيء منه، وهو سر من أسراره، خصّ الله كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، فلا يوجد شبه ذلك الرسم لا في التوراة ولا في الإنجيل، ولا في غيرهما من الكتب السماوية.
وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة، وإلى سر زيادة الياء في بأييد من قوله تعالى: والسّماء بنيناها بأييد .. [الذاريات: 47].
أم كيف يتوصل إلى سرّ زيادة الألف في «سعوا» في قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [الحج: 51].
وعدم زيادتها في سعو من قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ: 5].
وإلى سر زيادتها في قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ..
[الأعراف: 77].
وحذفها من قوله تعالى: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان: 21].
وإلى سر زيادتها في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237].
وإسقاطها من قوله تعالى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء: 99].
أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف الألف في بعض الكلمات المتشابهة دون بعض، كحذفه من قرءنا في يوسف والزخرف، وإثباته في سائر المواضع قُرْآناً، وكذا إثبات الألف بعد الواو في سَماواتٍ في سورة فصّلت، وحذفها في غيرها سموت، وكذا في إطلاق بعض التاءات وربطها نحو «رحمة» و «نعمة» و «قرة» و «شجرة» فإنها في بعض المواضع كتبت بالتاء المفتوحة وفي مواضع أخرى كتبت بالهاء
…
وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية) (1).
وذهب الفريق الثاني: منهم ابن خلدون والباقلاني إلى أن الرسم اصطلاحي واجتهادي لا توقيفي.
قال الباقلاني: (وأما الكتابة فلم يفرض النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلّا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه، أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلّا على وجه مخصوص، وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدلّ عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته.
ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها
(1) الإبريز ص 57.
مختلفة ومتغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز. فكل رسم دال على الكلمة مقيد بوجه قراءته، تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنّى له ذلك) (1).
هذه أقوال الفريقين ويظهر أن القول بتوقيف الرسم هو الأولى بالقبول.
قال البيهقي: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغيّر مما كتبوه شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منّا، فلا ينبغي أن نظنّ بأنفسنا استدراكا عليهم (2).
نص الإمام مالك على أنه لا توضع المصاحف إلّا على وضع كتابة الإمام يعنى عثمان بن عفان.
وقال الإمام أحمد: (تحرم مخالفة خط مصحف عثمان واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك)(3).
بقي القول في حكم كتابة بعض آيات القرآن استشهادا أو كتابتها على اللوح للتعليم أو غير ذلك مما يكتب في غير المصاحف.
أقول: هذا جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر كتّابه أن يكتبوا للملوك والرؤساء كانت كتابتهم على رسم الكتابة الاعتيادية، وعلى غير الرسم الذي كانوا يكتبون به المصاحف التي يكتبون فيها القرآن حين نزوله، مع أن المملي واحد والكتّاب هم هم، فالرسم القرآني يجب التزامه في كتابة المصحف وحده دون غيره، ولا يقاس عليه لأنه أمر توقيفي لغير علة فلا يدخله القياس.
(1) الإبريز ص 59.
(2)
الإتقان 2/ 167.
(3)
المرجع السابق.