الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع كل الأسف فقد وجدنا ممن شايعهم قد ذهب إلى مثل أقوالهم. ولعلّ في تعريف الزركشي ما يجلي هذه الحقيقة وما يبعده هذه الشبهة، إذ قال عن القراءات واختلافها: إنها اختلاف ألفاظ الوحي
…
فهذا التعريف يلقي الضوء على أن مبنى القراءات الوحي النازل من السماء، وقد تبعه علماء القراءات- قديما وحديثا- في تجلية هذه الحقيقة، فجاءوا بتعريفات واضحة وناصعة، فعرّفوا القراءات (بأنها النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا التعريف (تلاوة ألفاظ القرآن الكريم كما تلاها المصطفى صلى الله عليه وسلم أو كما علمها أو سمعها منه أصحابه وأقرّهم عليها)(1)، وكلها تعريفات قريبة
مما ذكره الزركشي، فاختلاف ألفاظ الوحي هي مثل النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبي صلى الله عليه وسلم ومثل تلاوة القرآن كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3].
نشأة القراءات:
هذا العنوان الذي يستعمله كثير من المؤلفين عن حسن قصد، ويؤكده المستشرقون لغرض في نفوسهم، فيه نظر: ذلك أن القراءات المتواترة قرآن لا شك فيه، فقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وملك يوم الدّين بالألف وبدونها، واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ واهدنا السراط المستقيم، بسينها وصادها، وكل قراءة قرآنية متواترة، كل ذلك قرآن وهو قديم، فلا يقال لقراءة منه: نشأت، لأن ذلك يشعر بالحداثة لبعضها في وقت من الأوقات.
لذا أرى أنّ في استعمال المؤلفين المخلصين هذا العنوان تجاوزا- إن صحّ التعبير- وأرى أنّ في استعمال المستشرقين له مقصدا خبيثا، ونحن قد رأينا فيما أومأنا إليه سابقا من تعريف للقراءات بأنها اختلاف ألفاظ الوحي، مما يشير إلى أن القراءة قرآن لا تنفك قرآنيتها عنه ما دامت قد تواترت، فلا يقال لها: ناشئة إلّا إذا قيل للقرآن: ناشئا، وليس الأمر كذلك فقد نزل الوحي بالقراءة فيما ورد في بعض ألفاظه
(1) انظر القراءات القرآنية تاريخ وتعريف، د. عبد الهادي الفضلي، دار القلم، بيروت، ط 2، 1980، ص 56.
أكثر من قراءة، بل حين بدأ نزول الوحي بدأها بأول كلمة في أول سورة نزلت هي (اقرأ) ففيها قراءتان متواتران:
الأولى: هي قراءة الجمهور بهمزة ساكنة.
والثانية: قراءة أبي جعفر بحذف الهمزة (اقرا يقرا كسعى يسعى)، وإنّه لأمر يسترعي الانتباه أن تكون أول كلمة في أول سورة نزلت كلمة اقرأ وأن يكون القرآن والقراءات مشتقا من مشتقاتها.
بعد هذا التمهيد، أرى أن الحديث عن مصدر القراءات هو الحاسم لكثير من الشبه والأضاليل، التي يتمسك بها المستشرقون، والتي كان لأقوال بعض المفسرين وبعض العلماء قدر غير يسير في الإسهام في مد أولئك الملحدين بشيء من أسباب الضلالة، من غير قصد منهم رحمهم الله لما لم يلزموا جانب الحيطة والحذر، وأقصى غايات الحذر في هذا الأمر الجلل، فقد أمدوا- من حيث لا يشعرون- من في قلبه مرض واستعداد طبيعي لاتخاذ كل شاردة وواردة من القول صيدا ثمينا، وفرصة ذهبية للنيل من مقدسات هذه الأمة وقرآنها.
أقول: إن المصدر الوحيد للقراءات، إنما هو الوحي النازل من السماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، الذي بلّغه بكل دقة، وبكل حركة إلى أصحابه الكرام، فكان يقرئهم إياه كما أنزل، كما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فإذا ما علمهم القرآن، فأتقنوا تلاوته، أحبّ أن يسمعه منهم، توثيقا لما سمعوه عنه.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود- رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن» ، فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال:«إني أحب أن أسمعه من غيري» ، فقرأت عليه سورة النساء
…
حتى إذا جئت إلى هذه الآية:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41](1).
(1) صحيح البخاري. كتاب تفسير القرآن. باب «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد. الآية» ح (4582)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر 1/ 551، ح (800)(247).
قال: «حسبك الآن» ، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعهد أصحابه بتعليم القرآن وحفظه حتى أصبحت صدورهم سجلا لما نزل من الحق، وربما علّم النبي- عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه قراءة لم يسمعها أصحابه الآخرون، فيقرأ بعضهم القرآن على القراءة التي سمعها، ويقرأ آخر على قراءة غيرها سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمع أحدهما الآخر فينكر عليه عدم سماعه لها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ففي البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه قال: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلّم. ثم لبّبته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له: كذبت، فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هكذا أنزلت» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا عمر» فقرأت، فقال:«هكذا أنزلت» . ثم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» (1).
وروى مسلم عن أبيّ بن كعب قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا
جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا، فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما
…
(2)
الحديث.
(1) صحيح البخاري. كتاب فضائل القرآن. باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ح (4992) و (6936)، ومسلم في صحيحه. كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه 1/ 560 ح (818)(270).
(2)
صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف 1/ 561 ح (820)(273).
فمن حديث عمر وهشام رضي الله عنهما يتبين لنا أن تعدد القراءات سببه واحد هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ كلّا منهما على قراءة، وكلتا القراءتين أنزلت من عند الله تعالى.
ومن حديث أبيّ بن كعب- رضي الله عنه أن عدد القراءات ثلاث، وكلها حسّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها متلوة من الوحي، جعلها الله من باب التهوين والتسهيل على أمته.
يقول الشيخ الزرقاني- رحمه الله: ثم إن الصحابة- رضوان الله عليهم- قد اختلف أخذهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد، ومنهم من أخذه عنه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرّقوا في البلاد وهم على هذه الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم، وأخذ تابعي التابعين وهلم جرا، حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين، الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات، يضبطونها ويعنون بها وينشرونها (1).
إذن فالأمر في تعدد القراءات أمر أخذ ونقل من الوحي، فلا يجوز لمسلم أن يعزو أية قراءة لغير ذلك، كما صنع المستشرق (جولد زيهر) وغيره من المستشرقين الذي عزوا القراءات إلى القارئين الذين مارس كل واحد منهم القراءة القرآنية ليصحح القرآن، وأن القارئ يقرأ وفق ما يحتمله الرسم القرآني الخالي من النقط والشكل.
يقول جولد زيهر: (وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات- أي في القراءات- إلى خصوصية الخط العربي، الذي يقدم هيكله مقادير صوتية مختلفة، تبعا لاختلاف النقط الموضوعة فوق هذا الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط، بل كذلك في حالة تساوي المقادير الصوتية يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصلية ما يحدده، إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبالتالي إلى اختلاف دلالتها، وإذا فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات في المحصول الموحّد القالب من الحروف لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه)(2).
(1) مناهل العرفان 1/ 406.
(2)
مذهب التفسير ص 8.
وقد أرجع الدكتور عبد العال سالم أساس هذا الزعم إلى الزمخشري وقال: إن مصدر الوحي لهذا المستشرق جولد زيهر إنما هو الزمخشري الذي قال بخطإ ابن عامر في قراءته للآية القرآنية (1).
فقد زعم الزمخشري أن الذي حمل ابن عامر على قراءته أنه رأى في بعض المصاحف (شركائهم) مكتوبا بالياء، والسبب هو الرسم. اهـ.
أقول: ونحن إذ نضع في الاحتمال أن يكون للزمخشري أثر في قول زيهر، إلّا أننا نجزم أن مراد كل منهم يختلف عن الآخر، إذ يهدف زيهر للوصول إلى قياس تعدد القراءات على تعدد الأناجيل، وهذه خطيئة ما نظن أن الزمخشري يقع في مثلها.
وفي ضوء دراسة هذه الردود يمكن إيجازها في الأمور التالية:
أولا: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب، فإن القراءات وجدت قبل مرحلة تدوين المصاحف وكتابتها، وبعد تدوينها كانت في البداية غير منقوطة ولا مضبوطة الشكل، ومع ذلك كانت القراءات معروفة ومنتشرة وكانوا يقرءون الآيات حسب السماع والرواية لا حسب الرسم والكتابة.
ثانيا: لو كانت القراءة تابعة للرسم لصحت كل قراءة يحتملها رسم المصحف، ولكن الأمر على غير ذلك، فإن بعض ما يحتمل الرسم صحيح مثل (فتثبتوا) في قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا .. [النساء: 94] الآية.
وبعضه مردود مثل قراءة حماد الرواية (أباه) في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114] الآية.
وكذلك قراءة: «تستكثرون» في قوله تعالى: قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف: 48].
(1) أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية ص 25.
وهذه وتلك قراءة منكرة بالاتفاق، فليست من السبع، ولا الأربع عشرة، ولو كان مجرد الخط والرسم كافيا لاعتمدت.
وعلى مثل هذه القراءات المنكرة اعتمد جولد زيهر في الاستدلال على قضيته الباطلة، ودعواه الخبيثة ضد القرآن الكريم.
ثالثا: لقد ثبت بالتاريخ الصحيح أننا لا نزال نرى الكثير من المقرئين حتى يومنا هذا، يعطون تلاميذهم بعد أن يتموا حفظه على أيديهم إجازة تتضمن سند التلقي المتصل عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كثيرا من الأسانيد الصحيحة المتصلة مدونة محفوظة في كتب القراءات، فما ينكر هذا إلّا جاهل أو مكابر.
كذلك إذا نظرنا إلى الأمصار الإسلامية وجدنا أن كل مصر التزم قراءة قارئ بعينه، مع احتمال رسم المصحف لهذه القراءة، وأن القرّاء انتشروا في هذه الأمصار ليعلموا الناس قراءة القرآن إيمانا منهم بأن رسم المصحف وحده لا يعني شيئا في مجال القراءة، وبخاصة أنه مجرد من النقط والشكل.
يقول الشيخ الزرقاني: «لذلك اختار عثمان حفاظا يثق بهم، وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية، واعتبر هذه المصاحف أصولا ثواني، مبالغة في الأمر، وتوثيقا في القرآن، ولجمع كلمة المسلمين، فكان يرسل إلى كل إقليم مصحفه، مع من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب، روي أن عثمان- رضي الله عنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري (1).
فلو كان الاعتماد على المصحف، لما كلف أمير المؤمنين نفسه بإرسال أولئك القراء إلى تلك الأمصار، وملاحظة أن اختيار القارئ كان موافقا لرسم المصحف المرسل إلى ذلك البلد، وهذا يؤكد أن دعامة القرآن هي التلقي والرواية.
وإذا كان للمستشرقين عذرهم في تعصبهم للباطل وحقدهم الدفين ضد الإسلام ومبادئه، فما عذر من جاراهم من المسلمين وقال: بأن القراءات القرآنية منشؤها
(1) المناهل 1/ 96.