الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منشأ التشابه
قلنا: إن المتشابه إنما سمي متشابها لاشتباه معناه على السامع الذي قد يكون منشؤه خفاء في اللفظ أو المعنى، وقد يكون ناشئا عن تركيب الجملة.
والخفاء في اللفظ أو المعنى أو التركيب يحدث الاشتباه والالتباس الذي قد يكون منشؤه اللغة، لتردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز والوضوح والإبهام ونحو ذلك.
وقد يكون منشأ التشابه عائدا إلى العقل والسمع، وكل ما من شأنه أن يقطع بأن المراد من هذا التشابه أمر غير ظاهر، ولهذا فإن المراد من المتشابهات يجب أن يرجع فيه إلى المحكمات التي جعلها الله بمنزلة (الأم)، أي: الأصل الواحد الجامع الذي ترد إليه المتشابهات.
فقوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]. يرجع في فهمه وتفسيره إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11].
وقوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء: 16] يرجع فيه إلى قوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28].
هذا هو منشأ التشابه وهذه تطبيقات عليه:
قلنا: إن التشابه يكون منشؤه خفاء المعنى في اللفظ، وهذا قد يكون على جهة التساوي، كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .. [البقرة: 228].
فإن لفظ قرء يحتمل أن يراد به أحد المعنيين المتضادين: إما الحيض أو الطهر.
وقد يكون خفاء المعنى من جهة تركيب الجملة كقوله تعالى: .. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ .. [البقرة: 237]. يحتمل أن يراد به الزوج أو الولي، وقوله:
.. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً .. [النساء: 4]. يحتمل الزوج أو الولي أيضا.
وقد يكون خفاء المعنى للفظ لا على جهة التساوي، مثل أن يكون أحد المعاني مرجوحا والآخر راجحا، مثل الآيات المتعلقة بالصفات، وكالحروف التي افتتح الله بها بعض سور القرآن: ق، ن، ص، حم وغيرها.
فمن العلماء من قال إنها سرّ استأثر الله بعلمه، ومنهم من فسرها، ولكنهم اختلفوا في معانيها اختلافا كثيرا، فمنهم من رجح أن فواتح السور أسماء للقرآن الكريم ذكره السيوطي وقال: أخرجه عبد الرزاق عن قتادة.
ومنهم من قال: هي أسماء لله وقد أقسم الله بها.
وذهب الزمخشري إلى استنباط معنى مبناه العقل، وقد استحسنه كثير من العلماء فقالوا في معنى هذه الحروف: إن هذه الحروف المفتتح بها بعض السور، منها تتكون الكلمة، ومن الكلمات تتألف الجمل، ومن الجمل يتألف الكتاب، والقرآن مؤلف من مثلها ولا يخرج عنها، فإن كان باستطاعتكم الإتيان بمثله، فأتوا بذلك، وإن عجزتم فاعلموا أن هذا القرآن من عند الله، ولذلك فقد غلب على السور المفتتحة بالحروف أن يعقب ذلك بيان أن القرآن من عند الله:
الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ .. [البقرة: 1 - 2]. حم 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ .. [غافر: 1 - 2](1). يس 1 وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1 - 2]. ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1]. ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1].
وللزمخشري كلام طويل استوفاه في مطلع سورة البقرة، ونجد المفسرين يسهبون في معناه عند قوله تعالى: الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1 - 2].
وهناك مزاعم لا يعتد بها كالذي تكلم في معنى الحروف واستنبط منها أعمار الأمم وآجالها. ومنهم من استخرج فتوح بيت المقدس في سنة معينة، وقد فندها أبو بكر بن العربي وقال: وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأكثر، ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم.
(1) وسورة الجاثية: آيتان: 1 - 2، وسورة الأحقاف: آيتان 1 - 2.
وأخيرا نختتم الكلام عن المتشابه بكلمة موجزة قالها الراغب في المفردات: «إن المتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.
فالأول ضربان:
أحدهما: يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو: الأبّ ويزفّون، أو الاشتراك كاليد والعين.
وثانيهما: يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ .. [النساء: 3].
وضرب لبسطه نحو: .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. [الشورى: 42]، لأنه لو قيل:
ليس مثله شيء كان أظهر للسامع.
وضرب لنظم الكلام نحو: .. الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1].
والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة.
والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب.
الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5].
الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3].
والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو: .. اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ..
[آل عمران: 102].
والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو: .. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .. [البقرة: 189]. ونحو: .. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ .. [التوبة: 37].
فإن من لا يعرف عاداتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية.
الخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح».
ثم قال: (وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم)(1).
وقد علق الزرقاني على هذا التقسيم فقال: وهو كلام جيد غير أن في بعضه شيئا (2).
(1) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني تحقيق صفوان عدنان داودي، دار القلم، دمشق ط 1، 1412 هـ- 1992 م، مادة (شبه) ص 443، 444.
(2)
مناهل العرفان 2/ 176 - 177.