الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث لغة القرآن
إن الترابط بين القرآن واللغة ترابط شديد الصّلة، بل ارتباط الصّفة بالموصوف التي لا تنفك عنه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 196]. فلا غرو إذا قلنا: إن التهجم على اللغة العربية هو تهجم على القرآن، والنيل من اللغة هو نيل من القرآن، والمحاولات والمعاول التي تهدم لغتنا إنما هي معاول هدم لقرآننا وكياننا كلّه.
وقد طالعنا طالع سوء من المحدثين يزعم «أن القرآن قد حوى في آياته ألفاظا أعجمية، فهو أعجمي مزيج من لغات شتى
…
».
هذا الزعم والادعاء في واقعه ليس بجديد، بل هو دعوى قديمة دحضها القرآن الكريم، واصفا إياها بأنها منطق الذين يلحدن في القرآن، فملحدوا اليوم هم ببغاوات لملحدي الأمس، لذا كان لزاما على من يحمل في جعبته سهاما أن يرميهم بسهمه، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم، وسنحاول بعون الله تعالى أن نعرض لهذه القضية القديمة الحديثة في آن واحد، وأن نرد عليهم بأدلة قاطعة، وبراهين ساطعة، وأن نبين زيف هذه الأفكار الغاشمة وأن نتناول فيه جانبا من الجوانب التي تعنينا في علوم القرآن تاركين الجوانب الأخرى لمن هو أهل لها.
هذا الجانب يتناول قضية احتواء القرآن لألفاظ معرّبة عن أصول أعجمية، وهي قضية استحوذت على علمائنا الأقدمين والمحدثين على حدّ سواء، وكانت مثار اهتمامهم، فتعددت فيها الآراء وتضاربت فيها المذاهب ما بين مثبت وناف، والمثبتون قد اختلفوا في حصر هذه الكلمات بين مكثر ومقلّ، فقد حصرها الإمام الغزالي في كلمتين أو ثلاث، وحصرها تاج الدين السبكي بسبعة وعشرين لفظا ونظمها شعرا، وزادها الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني أربعة وعشرين لفظا ونظمها شعرا أيضا، كما زادها الإمام السيوطي بضعة وستين لفظا فتمت أكثر من مائة لفظ (1).
(1) انظر الإتقان في علوم القرآن والمتوكلي ومقدمة تفسير ابن جرير ص 3.
وسنرى فيما بعد القول الحقّ في حقيقة هذا الحصر الادعائي.
وقبل أن نخوض في مذاهب العلماء في وقوع المعرب في القرآن، هاك بعض هذه الألفاظ:
سئل ابن عباس عن قوله تعالى:
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 51] قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية جاد، وبالقبطية أريا، وبالحبشية قسورة، وحين سئل ابن عباس عن معنى قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: 2] قال: حوبا بلغة الحبشة، وبالعربية إثما.
وعن ابن مسعود أنه فسر لفظ ناشئة في قوله تعالى من سورة المزمل: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] قال: الناشئة هي بالحبشية، وبالعربية قيام
الليل، وبما روي عن مجاهد أنه فسر القسط في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] قال: إن القسط بالرومية وبالعربية العدل.
وقد أورد السيوطي ما في القرآن عن بعض الألسن، فمما ورد بلسان الحبشة، الأرائك بمعنى السّرر، وأوّاه: المؤمن بمعنى الرحيم، وطوبى اسم للجنة.
وبلسان العبرية: مرقوم بمعنى مكتوب، وراعنا وهي كلمة سبّ عند اليهود.
وبلسان الروم: فصرهنّ، أي: قطعهن، وطفقا، أي: قصدا، والفردوس بمعنى البستان.
وبلسان الفرس: سجيل عن مجاهد: سجيل أولها حجارة وآخرها طين، وسرادق بمعنى الدهليز، والسندس بمعنى دقيق الديباج.
وبالنبطية: بأيدي سفرة، أي: بأيدي القراء.
وبالسريانية: أسفار بمعنى الكتب، وكلمة شهر ذكر بعض أهل اللغة أنها سريانية كذلك (1).
وبعد: فهذه كلمات وألفاظ قرآنية قلّت أو كثرت جرى فيها خلاف في ثلاثة آراء نسوقها إليك مع المناقشة والترجيح في نهاية المطاف.
(1) تفسير ابن جرير ص 6 - 7.
الفريق الأول: وعلى رأسهم الإمام الشافعي الذي شدد النكير على القائلين إن في هذا القرآن غير لغة العرب فأخذ يقيم الحجة بأن القرآن كله عربي، لقوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3]. وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195].
يقول الشافعي في رسالته:
ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب ..
فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له إن شاء الله.
فقال قائل منهم: إن في القرآن عربيا وأعجميا، والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا له، وتركا للمسألة عن حجّته ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم، ولعلّ من قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقبل ذلك منه، ذهب إلى أن من القرآن خاصّا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ، ولكنه لا يذهب منه شيء، على عامتها حتى يكون موجودا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب، كالعلم بالسّنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السّنن فلم يذهب منها شيء، فإذا جمع علم عامّة أهل العلم بها أتى على السّنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره (1).
وأما الطبري فقد قال: إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا، من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما، ولا كان ذاك
(1) الرسالة للشافعي، تحقيق أحمد شاكر. ص 41 - 43.
لها منطقا قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجيء الفرقان، فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا، وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا. ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم، والدينار والدواة، والقلم والقرطاس، وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه ويملّ تعداده، لذا كرهنا إطالة الكتابة بذكره، مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى، ولعلّ ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها.
فلو أن قائلا قال- فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية وما أشبه ذلك، مما سكتنا عن ذكره-: كلّه فارسي لا عربي، أو ذلك كلّه عربي لا فارسي، أو قال: بعضه عربي وبعضه فارسي، أو قال:
كان مخرج أصله من عند العرب، فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته، كان مستجهلا، لأن العرب ليست بأولى أن تقول: كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم. ولا العجم بأحق أن تقول:
كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب، إذا كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين .. ثم قال: وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان، عندنا بمعنى: أن فيه من كلّ لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرهم من الأمم التي تنطق به نظير ما وضعنا من القول فيما مضى، وذلك أنه غير جائز أن يتوهّم على ذي فطرة صحيحة، مقرّ بكتاب الله، ممن قرأ القرآن وعرف حدود الله، أن يعتقد أنّ بعض القرآن فارسيّ لا عربيّ، وبعضه حبشيّ لا عربيّ بعد ما أخبر الله تعالى أنه جعله قرآنا عربيا (1).
وقد ذهب فخر الدين الرازيّ المفسّر، والعالم اللغويّ ابن فارس إلى هذا الرأي وأطال الاستشهاد على صحة هذا القول، ومما قاله: «لو كان في القرآن الكريم من
(1) جامع البيان ص 1/ 7 - 8.
غير لغة العرب شيء لتوهّم متوهّم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان مثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها (1).
هذه أدلة الإمام الشافعي ومن معه، ويجدر بالذكر أن هذا الفريق وإن كان يقول: إن جميع ألفاظ القرآن عربية إلا أنه لا ينكر موافقة لسان العرب للسان العجم كما يقول الشافعي، ولا ينكر إذا كان اللفظ قيل تعلما أو نطق به موضوعا، أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب، كما يتفق القليل من ألسنة الأعاجم المتباينة في أكثر كلامها مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه (2).
ويمثل أبو عبيد على ذلك بالمثال التطبيقي فيقول: «وقد يوافق اللفظ اللفظ ويفارقه ومعناهما واحد، أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها، فمن ذلك الإستبرق بالعربية، وهو الغليظ من الديباج، وهو استبره بالفارسية» ثم ختم أبو عبيد كلامه بقوله: «من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم القول» (3).
يقول أبو بكر الباقلاني: القرآن عربي لا عجمة فيه، فكل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا إنما غيّرها غيرهم تغييرا ما، كما غيّر العبرانيون فقالوا: للإله، لاهوت، وللناسك: ناسوت.
أما الفريق الثاني فهو فريق المتساهلين، الذين حكموا بأن القرآن شامل لجميع لغات العالم في زمنهم، استنادا لقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] فالآية حسب زعمهم شاملة وعامّة، لذا قالوا: إن القرآن فيه من كلّ لهجة عربية بل باللغات الشائعة في زمن نزوله
…
كالفارسية والرومية والعبرية، لذا فقد تساهلوا وتوسعوا في الألفاظ الوافدة التي استعملها القرآن الكريم ظنّا منهم أنها مزية من مزاياه في عدم التفريط بشموليته لسائر اللهجات واللغات. قال الثعلبي: إنه ليس لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن.
(1) انظر الصاحبي لابن فارس ص 46، والإتقان 178.
(2)
الرسالة للإمام الشافعي ص 44 - 45.
(3)
الصاحبي ص 43 - 44.
ويرى أن وقوع هذه الألفاظ في القرآن إنما يدل على حكمة احتوائه لعلوم الأولين والآخرين، ومن ضمن ذلك إحاطته بجميع اللغات والألسن.
مما تقدم يتبين لنا أن هناك خلافا بين الفريقين، هو خلاف حقيقيّ شكليّ، وعلي الرغم من وضوح حقيقة الخلاف إلا أبا عبيد القاسم بن سلّام قد صبغ الخلاف وفاقا.
(قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إنّ القرآن كلّه عربيّ، وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة من غير لسان العرب مثل: سجّيل ومشكاة واليم والطور وأباريق وإستبرق وغير ذلك، فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هذا إلى غيره، وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال أولئك على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرّبته فصار عربيا بتعريبها إياه، فهي عربية في هذه الحال أعجمية الأصل)(1).
وعلق الشيخ الزفزاف فقال: (وهذا الرأي الذي ذكره أبو عبيد، إنما أراد به أن يجعل الخلاف بين الفريقين السابقين لفظيا. والذي يظهر لي أنه ليس كذلك، لأن الإمام الشافعي ومن معه لم يكونوا يجهلون أن العرب إذا تكملت اللفظ الأعجمي يصبح عربيا، ولكنهم كانوا يرون أن القطع بأن هذه الألفاظ أعجمية الأصل لا سبيل إليه. كما يفهم ذلك من القرآن وكما يفهم من كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، وهم يرون غلق هذا الباب)(2).
ثم استدل هذا الفريق أولا: بالآية القرآنية وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4].
ووجه الدلالة في الآية أنّ كلّ رسول مرسل إلى قومه، فيتحدّث بلسانهم والنبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كلّ الأمم فلا بد أن يكون في الكتاب المبعوث إليهم من لسان كلّ قوم إن كان أصله بلغة قومه هو.
(1) المعرب للجواليقي ص 53.
(2)
القرآن والحديث للشيخ الزفزاف.
ثانيا: ورد في القرآن الكريم أعلام أعجمية وهي كما يقول علماء النحو ممنوعة من الصرف، وعلة ذلك العلمية والعجمة، وإذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس.
ثالثا: أما الدليل الأخير فهو القياس كما ذكره ابن جني «إن ما قيس على كلام العرب. فهو من كلام العرب» (1).
الفريق الثالث: وهو الوسط بين الفريقين فليس بمبالغ ولا متساهل، ذلك أنه أثبت وجود كلمة أعجمية، ولكنها لما عرّبت، أصبحت عربية، فوصف القرآن بأنه عربيّ صحيح، لأن المعرب كالعربي سواء بسواء، وبهذا القول يكون قد وافق فريق المتساهلين، ولكنه يخالفه في الإفراط بالكم من هذه الكلمات إلى درجة إثبات أن القرآن فيه كل اللغات واللهجات، أو على حد تعبيرهم في القرآن من كلّ لسان عربي.
أما وجه مخالفة الفريق الثالث للفريق الأول: فإن العرب في جاهليتهم قد استعملوا كلمات أعجمية، ولكنه لاكوها بألسنتهم وأخضعوها لتفعيلاتهم، فأصبحت معربة، فامرؤ القيس استعمل لفظة السجنجل في معلقته المشهورة:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
…
ترائبها مصقولة كالسّجنجل
والسجنجل بمعنى المرآة وهي لفظة معربة (2) لم يستعملها العرب من قبل، والتعريب في هذه الألفاظ لا يكون بأخذها كما وردت عن الأعاجم، بل لا بدّ من صياغتها على تفعيلة من التفعيلات العربية، كأفعل وفعل وفاعل وافتعل واستفعل وغيرها، فإن وافقتها أخذ بها. وإلا أنقص أو بدّل حرف منها حتى توافق أوزان التفعيلات، فالتعريب هو صوغ الكلمة الأعجمية صياغة جديدة بالوزن والحروف العربية، وبهذا دخلت الألفاظ الأعجمية إلى اللغة العربية، ولكنها أصبحت عربية حين لاكتها العرب بألسنتها، نعم إننا لا نستطيع أن نجزم أن جميع الألفاظ التي
(1) الخصائص ج 1، ص 357.
(2)
انظر شرح المعلقات السبع للزوزني.
أوردها بعض العلماء هي ألفاظ أعجمية في الأصل، لأن القطع بهذا يحتاج إلى تتبع اللفظ والتنقلات التي اعتورته حتى نصل إلى منشئه الأصلي. هذا أولا.
ثانيا: إن الفريق الأول الذي استدل على عربية القرآن، وأنه ليس فيه كلمة معربة بمعنى أن أصلها أعجمي، ثم نقلت إلى العربية، قد خالفوا سنة التأثير والتأثر بين اللغات، وحكموا أن اللغة العربية قد أثرت في اللغات الأخرى على الدوام والاستمرار، فقد أثرت ولم تتأثر، وأقرضت ولم تستقرض، ويعللون هذه الظاهرة بأحد أمرين كما يقول الشيخ أحمد شاكر (1):
أولهما: أن العرب من أقدم الأمم، ولغتها من أقدم اللغات وجودا، كانت قبل إبراهيم وإسماعيل، وقبل الكلدانية (2) والعبرية (3) والسريانية (4)، وغيرها، بله الفارسية. وقد ذهب منها الشيء الكثير بذهاب مدنيتهم الأولى قبل التاريخ، فلعل الألفاظ القرآنية، التي يظنّ أن أصلها ليس من لسان العرب، لا يعرف مصدر اشتقاقها، لعلها من بعض ما فقد أصله وبقي الحرف وحده.
ثانيهما: اتساع اللغة العربية: يقول الإمام الشافعي: ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي (5).
ولذا وجدنا ابن عباس، مع علمه الواسع، يخفى عليه معنى «فاطر» فروي عنه أنه قال:«كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي: بدأتها» (6).
(1) انظر تقديم أحمد شاكر لكتاب الرسالة.
(2)
الكلدانية نسبة إلى الكلدانيين بالضم وهم طائفة من عبدة الكواكب. تاج العروس 2/ 486.
(3)
العبرية والعبرانية لغة اليهود. لسان العرب: عبر.
(4)
السريانية: لغة سواد العراق. المعرب 60.
(5)
الرسالة للإمام الشافعي.
(6)
تفسير ابن كثير لمطلع سورة فاطر.