الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن العناد والإصرار هو الدافع لهم للجحود والإنكار، حتى قالوا قولتهم الآثمة:
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 55].
وهذا عيسى قد لاقى من قومه صدودا، حتى الحواريين طلبوا منه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فقالوا لعيسى عليه السلام: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 112].
وأجابهم الله بما سألوا: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [المائدة: 115].
وهكذا الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءهم بالمعجزة التي تذعن لها العقول، ولكن لم يؤمن بها إلّا من هداه الله للإيمان، أما أكثر العرب فقد جحدوا بها، واستيقنتها قلوبهم وأبوا إلّا الضلال، فراحوا يقولون كما تحدث عنهم القرآن:
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا 93 وَما مَنَعَ
النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا
[الإسراء: 90 - 94].
وقال الله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7].
وما هذه المواقف وهذا الكفر والإلحاد إلّا نتيجة إدبار واستكبار: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ 23 فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24 إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 23 - 25].
وجه الإعجاز القرآني:
يحلو لبعض العلماء أن يرى وجوها كثيرة في إعجاز القرآن، فبعضهم يرى من وجوه الإعجاز إخبار القرآن بالغيب، أو في نظامه التشريعي، أو الاجتماعي، أو علم الجناية، أو علم الاقتصاد، أو الفلك، أو الطب، وغير ذلك من العلوم التي لا تعد
ولا تحصى، ويذهب للتدليل على رأيه بقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38].
وقد ذهب بعضهم إلى كثير من المبالغة فيما يسمى بالإعجاز العلمي، حتى حملوا النصوص القرآنية ما لا تحتمله، وما لا يقبله العقل، في تأويل النصوص تأويلا متعسفا في كثير من الأحيان.
ونحن لا ننكر أن القرآن الكريم يتسع للكثير مما هدي إليه البشر، في بعض المجالات كالطب وعلم الفلك وغيرها، وقد توسعت فيه مدارك علماء التفسير فأبرزوا لنا هذه المعاني، ومدى مطابقتها للواقع، ومدى احتمال الآيات القرآنية لمعانيها العلمية، فهذه العلوم تصدق القرآن، ولكنها ليست وجوها في الإعجاز.
لهذا فإننا نحصر وجه الإعجاز القرآن في الوجه الذي تحدى به القرآن سائر العرب، نحصره في وجه واحد، ألا وهو لفظ القرآن ونظمه وبيانه، فهو الوجه الذي تحدى الله به العرب قاطبة، منذ نزول القرآن وحتى هذا الزمن، وسيبقى هذا الوجه هو الشاهد على القرآن، بنظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك، فما هو بتحدّ بالإخبار بالغيب المكنون ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء مما لا يتصل بالنظم والبيان.
إن ما في القرآن من مكنونات الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المقضي إلى الإعجاز، وإن كل ما فيه يعد دليلا على أنه من عند الله، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وإنه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام بشر مثلهم (1).
نعم لقد تحداهم القرآن بداية بالإتيان بمثل هذا القرآن: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88].
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور ولو كانت هذه السور مفتريات حسب زعمهم:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13].
(1) علوم القرآن، ص 288؛ والكلام من مقدمة للأستاذ محمود شاكر في مقدمة لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي.
بل تحداهم بسورة واحدة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38].
هذه الآيات القرآنية المتحدية للبشرية، بل للإنس والجن معا، إنما تحدتهم، وما زالت تتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن نظما وبيانا، وهذا هو الوجه الذي أعجز العرب سابقا ولا حقا، وهم إذ عجزوا عن الإتيان بمثله فقد انتفى أن يكون القرآن من كلامهم، أو من كلام محمد، لأنه واحد منهم، علاوة على أنه ثبت لنا أحاديث شريفة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل عليه، وبالمقارنة بين الكلامين نجد البون شاسعا، والفرق بعيدا بعد الفارق بين الخالق والمخلوق.
ويجدر بنا أن ننقل إليك كلمة الجاحظ في تجلية هذه الحقيقة إذ يقول: (بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشدّ ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجّة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حمله على حضهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه- إن كان كاذبا- بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خفيا!).
«فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة، قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات!! فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر
…
ولو تكلّفه (أي لو استطاعه) لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكايد فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض» (1).
(فدلّ ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، واستقامة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه
(1) الإتقان في علوم القرآن 4/ 5.