الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني دليل الوحي
إن الدليل على أن حقيقة الوحي شرعي لا عقلي، لأنه من الأمور الغيبية التي لا يقع عليها الحسّ، والذين يدللون على الوحي بالأدلة العقلية- ولو بحسن نية- إنما هم واهمون ومخطئون، فإن للعقل دائرته التي لا يتعداها، فهو يسلمنا إلى حقيقة وجود الخالق ويرشدنا إليه، فإذا ما أسلمنا إلى هذه الحقيقة فقد هدانا إلى الإيمان الذي من مقتضياته التسليم بما أخبرنا من أدلة قطعية، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163]. وقال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52].
وقال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4].
ويكفي دلالة على حقيقة الوحي إعجاز القرآن، الذي أثبت عقلا أنه منزل من الله على رسوله، وإن من آياته المعجزة ما دلنا على الوحي ومصدره، والنازل به والمنزل عليه، والكيفية والحالة التي نزل بها. أما التدليل على حقيقة الوحي بالأدلة العلمية لتقريبه للعقل فهو مجاف للصواب.
لقد ذهب بعض العلماء يفتشون لنا عن المقررات العلمية لإثبات القضايا الغيبية، فوجدوا الدليل الأول في التنويم المغناطيسي، فقالوا: إن الذي كشف هذا هو الدكتور مسمر العالم الألماني في القرن الثامن عشر، وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمان في سبيل إثباته، وحمل العلماء على الاعتراف به، وقد نجحوا في ذلك، فاعترف العلماء به علميا بعد أن اختبروا به الآلاف المؤلفة من الخلق، واطمأنوا إلى تجاربه- هكذا يقول صاحب مناهل العرفان- وأخيرا أثبتوا بوساطته ما يأتي:
1 -
أن للإنسان عقلا باطنا أرقى من عقله المعتاد كثيرا (1).
(1) إن أراد بهذا الكلام إقناع المسلمين بوقوعه، فإن المسلم يكفيه قول الله، وإن أراد أن يدلل لغير المسلم بهذه الواقعة على إمكانية حدوث الوحي في عالم الواقع فإن هذا الكلام يشككه حين
2 -
أن الإنسان النائم في حالة التنويم المغناطيسي يرى ويسمع من بعد شاسع، ويقرأ من وراء حجاب (1)، ويخبر عما سيحدث مما لا يوجد في عالم الحس أقل علامة لحدوثه (2)، ثم ذكر ما يزيد على ثماني حالات وصفها بأنها حقائق علمية لا مجال للشك فيها.
ثم قال: وإننا نضع بين يديك تجربة واحدة من تجارب التنويم المغناطيسي تقرب إليك الوحي كل التقريب، وهذه التجربة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني بنادي جمعية الشبان المسلمين، وعلى مرأى ومسمع جمهور مثقف كبير (3).
ثم بعد أن ساق التجربة قال: (وبهذه التجربة- أيضا- يثبت لي أنا من طريق علمي ما قرب إليّ الوحي علميا، وما جعلني أعلله تعليلا علميا، فالوحي عن طريق الملك عبارة عن اتصال الملك بالرسول يؤثر به الأول في الثاني، ويتأثر فيه الثاني بالأول، وذلك باستعداد خاصّ في كليهما)(4). هذا الدليل العلمي الأول.
أما الثاني فهو أن العلم الحديث استطاع أن يخترع من العجائب ما نعرفه ونشاهده وننتفع به، مما يسمونه التلفون واللاسلكي والميكروفون والراديو، فهل يعقل بعد قيام هذه المخترعات المادية أن يعجز الإله عن أن يوحي إلى عباده ما شاء عن طرق الملك أو غير الملك؟.
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!! أما الدليل الثالث: فقد قال فيه: استطاع بعض العلماء أيضا أن يملأ بعض الأسطوانات من الجماد الجامد بأصوات وأنغام على وجه يجعله يحاكيه بدقة وإتقان كما هو (بالفونوغراف).
يزعم أن العقل الباطني أرقى من عقله الظاهر وبهذا يستطيعون الزعم أن الوحي ظاهرة لا تدل على صدق مدعيها.
(1)
كأنه يرى في حادثة التنويم المغناطيسي حالتين من حالات الوحي حالة الإيحاء وحالة التكليم من وراء الحجاب.
(2)
كلام يشبه الشطحات الصوفية وتخيلات الكهان.
(3)
مناهل العرفان 1/ 59.
(4)
المرجع السابق 1/ 61 - 62.
وأخيرا فقد استدلّ بالدليل الرابع ودخل عالم الحيوان فقال:
إننا نشاهد بعض الحيوانات الدنيا تأتي بعجائب بعض الأنظمة والأعمال.
وإذا صح هذا في عالم الحيوان فهو يكون أتم من ذلك ما يكون بطريق الوحي ويضرب لك المثل بالحيوان الذي اسمه «أكسيكلوب» (1).
وهكذا استرسل كما بدا له- صاحب المناهل- في ذكر الدليل تلو الدليل، وأراد أن يدل على صحة رأيه ووجاهته بقوله: إنه قد رأى هذه التجارب بعينه وسمعها بأذنه. فهذا الأمر محسوس ملموس.
أقول: هذا التدليل بعيد عن نهج هذا الدّين، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام ما أقنع أهل زمنه إلا بما أرشده الله إليه، أما أن يلتمس لكل حادثة غيبية دليلا حسّيا، أو يدلل على وقوعها أو يقربها إلى الذهن بأدلة ماديّة محسوسة فهذا ما لم يكن، بل حصل العكس فإن أبا بكر الصديق حين حدّثه كفار قريش بقصة الإسراء والمعراج، وأرادوا أن يشككوه في هذه القضايا الغيبية لم يفلحوا في ذلك، وأخذوا منه الجواب الشافعي النابع من الإيمان الصادق، قال: إن قالها- أي محمد صلى الله عليه وسلم فقد صدق.
إن الاستدلال بالقضايا العلمية على الحقائق الغيبية هو نهج المدرسة العقلية في التفسير، التي أرسى قواعدها الشيخ محمد عبده، الذي فسر قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 3 - 5].
قال ليقرب هذه المعاني القرآنية للعقول الأوروبية: إن الطير الأبابيل: هي الذباب، وفسر (حجارة من سجيل) بميكروب الجدري، كما فسر (الجن) بالميكروب الضار، والملائكة بالميكروب النافع. وهذا تفسير غريب وتأويل بعيد، وقد ردّ عليه صاحب الظلال بكلام مفيد يحسن الرجوع إليه.
وقد أعجبني الردّ على ادعاء إثبات الوحي بالتنويم إذ يقول قائل:
(1) مناهل العرفان 1/ 61 - 62 هذا القياس أكثر فسادا وأبعد من القياس السابق، فالسابق بين ملك ونبي والإنسان المنوم والمنوم وأما هنا فقياس مع حيوان الأكسيكلوب.
وهل نقف أمام من صعب عليه تصور الوحي، ولم يجد بدّا من التصديق بالإيحاء التي يتم أمامه عن طريق التنويم المغناطيسي الذي ربما كان هو موضوعه في مرة من المرات؟ ..
(وهل نحن بحاجة إلى ضرب الأمثلة والشواهد من عالم البشر المادي والمحسوس على شرح حقيقة الوحي، وبيان إمكانية وقوعه. إن الأمر هنا ليجلّ عن هذا وذاك، والقرآن الذي نتلوه الآن شاهد صدق على مصدره، كما أن الأدلة على صدق هذه الظاهرة أكثر من أن تحصى)(1).
وقول القائل: (وحاولنا ألا نقرب حقائق الغيب العليا بما يعرفه الناس عن التنويم المغناطيسي وتسجيل الأصوات على الأشرطة وإذاعتها أو نقلها عن طريق الهاتف واللاسلكي، وظننا أن لا جدوى من هذه الأشياء وأنها ليست هي طريق الإيمان)(2).
(1) دراسات قرآنية للدكتور عدنان زرزور ص 59.
(2)
مباحث في علوم القرآن ص 47، 48.