الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يجاوزها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ في أعيننا.
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثمان سنين. ذكره مالك، وذلك أن الله تعالى قال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ .. [ص: 29]، وقال:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ .. [النساء: 82](1). وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ .. [المؤمنين: 68].
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2].
وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فنّ من العلم، كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله تعالى، الذي هو عصمتهم وبه ونجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم وديناهم. انتهى كلام ابن تيمية (2).
مناقشة الأدلة التي استشهد بها القائلون بشمول البيان النبوي:
1 -
لقد استدلوا بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44].
فقالوا: إن هذه الآية تفيد بأن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين جميع ألفاظ القرآن ومعانيه، فكلمة «ما» في قوله تعالى: ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من صيغة العموم، فتشمل جميع ما يندرج تحتها من ألفاظ القرآن ومعانيه، ما لم تقم قرينة على التخصيص ببعض ذلك، ولا قرينة هنا فيجب الحمل على العموم الشامل لجميع الألفاظ والمعاني.
(1) وسورة محمد: 24.
(2)
مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية. تحقيق د. عدنان زرزور ص 35 - 37، وانظر مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/ 31: وتفسير القرطبي 1/ 70، وتعليق الشيخ أحمد الشاكر.
نقول لهم: إن القرينة المخصصة للعموم موجودة، فبعد عشرين آية من هذه الآية وفي السورة نفسها ورد قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ .. [النحل: 64].
فلا يتم التفسير الصحيح ولا الفهم السديد إلّا بجمع الآيتين، لأن خير من يفسر القرآن هو القرآن ذاته.
فالبيان المطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم هو توضيح ما خفي على الصحابة، وما استشكلوه واختلفوا فيه، وليس بمطلوب منه صلى الله عليه وسلم بيان ما لم يخف، فإن واقع أمر القرآن، وأمر ما نزل بلسانهم، أن فيه كثيرا من البيان، بل بديهة البيان بنفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان، فضلا عن أهله الخلّص، فلا يسيغ
بالمنطق مع هذا أن يقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيان هذه الجليات.
أما استدلالهم بأن الصحابة كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يتعلموا ما فيها من العلم، فليس في هذا الأثر وجه لاستدلالهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر لهم جلّ القرآن كلمة كلمة وآية آية، لأن الأثر يحكي ما كان حال العلم وطلبه والاهتمام به والعمل بمقتضاه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون بالرجوع إليه صلى الله عليه وسلم، وقد يكون بالرجوع إلى اللغة .. قال القرطبي عن هذا الحديث: إنه حكاية ما كان عليه العلم وطلبه (1).
وقال المرحوم أحمد شاكر: فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير، فليس في الأثر ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم جميع القرآن.
أما الدليل الثالث: فهو أن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله، فإن هذا الدليل العقلي لا يتعارض مع كون النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن كلّ شيء تحتاجه الأمة، ولم يبين ما هو معروف بالضرورة وباللغة. ولا يمكن أن يشرح ما لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد من غير طائل، فيجب أن يتنزه عن ذلك من له أدنى حظ من سلامة العقل وسداد منطقه، فضلا عن الصحابة، عليهم رضوان الله، في سداد رأيهم ووفرة علمهم.
(1) القرطبي، 1/ 39.
وبعد فلقد آن الأوان لمعرفة مقدار ما فسّره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن، بعد أن تبين لنا فساد القول بأنه صلى الله عليه وسلم قد فسّر جميع القرآن، بل فساد فهم نسبة هذا القول لابن تيمية، رحمه الله تعالى، وأن الإمام السيوطي وأستاذنا الذهبي لم يحالفهما التوفيق في هذا الفهم السقيم، لذا رأينا السيوطي يتدارك ذلك فيما بعد.
كما أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر القرآن هو قول بعيد عن الواقع، لأن المدون من تفسيره ليس كثيرا بل هو قليل.
نعم لو توسع متوسع في معنى البيان، حتى يجعله شاملا للأحكام التي زادتها السنة على ما في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكلّ ذي ناب من السباع، والقضاء بشاهد ويمين، وغير ذلك، بل يجعله شاملا للسنة بأسرها كما قال الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
أقول: لو توسعنا في معنى البيان- بمثل هذا- لكان مقدار التفسير كثيرا بل يزيد على حجم القرآن.
ولكن إن أردنا التفسير بالمعنى المراد عند علماء الحديث، حين دونوا الحديث، وجعلوا فيه بابا للتفسير، فإن التفسير قليل لا يتجاوز المذكور في كتبهم «وهو قليل جدا، بل أصل المرفوع منه في غاية القلة» كما يقول السيوطي (1)، الذي وعد عد بسردها في آخر كتاب الإتقان، وقد وفّى هذا الحافظ- رحمه الله وأوردها بما لا مزيد عليه، حيث أورد جميع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم الثابت في كتب الصحاح والسنن، وكان نزرا يسيرا وبه لا يصح دعوى أستاذنا الذهبي أن التفسير كان كثيرا.
هذا ما انتهى إليه بحثنا في المقدار الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن، وهو قليل، ولكنه ليس قليلا بالغا من القلة آيات تعد على أصابع اليد الواحدة ثلاث أو أربع آيات، استنادا إلى الحديث المروي عن عائشة «لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعدّ، علمهن إياه جبريل» . فإن هذا الحديث منكر، كما قاله غير واحد من الحفاظ وأعلام الجرح والتعديل، لأن من رواته جعفر بن محمد الزبيري
(1) الإتقان 2/ 179.
قال البخاري: لا يتابع في حديثه. ولقد أورد الطبري هذا الحديث ثم تولى بنفسه بيان فساده حيث قال: إنه ممن لا يعرف في أهل الآثار. من أجل ذلك ضربنا صفحا عن ذكر أدلة القائلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر من القرآن إلا آيات تعد. بل على حد زعمهم آيات تعد على أصابع اليد الواحدة.
بذلك يبقى القول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر من القرآن الشيء القليل، إلى الحد الذي اعترف به شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه بذلك، ونقله عن أحد أفذاذ أئمة السنة ومبرزي أعلامها رواية ودراية، أعني إمام السنة أحمد بن حنبل، إذ يقول شيخ الإسلام في مقدمته في أصول التفسير:(ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام أحمد: «ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازي» ويروي «ليس لها أصل» أي: إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل» اهـ. (1)
قال شمس الدين الخويني رحمه الله: (وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل .. ) إلخ.
ومما يؤيد هذا الرأي: أن المطلع على كتب التفسير بالمأثور، يستطيع أن يرى بيسر وسهولة أن آراء المتحدثين في التفسير من الصحابة تتعدد، وقد تختلف إلى حد التنافر، وعدم إمكان الجمع بينها أصلا، وقل مثل هذا إن لم يكن أكثر منه بالنسبة لآراء التابعين في التفسير، ولا يصح في عقل عاقل أن يقع مثل هذا الاختلاف من الصحابة، ثم من التابعين لو جاء البيان من قبله صلى الله عليه وسلم لجميع التنزيل جملة وتفصيلا.
ثمّ إنه لو كان بيان من قبله صلى الله عليه وسلم لجميع القرآن أو أكثره؛ لكان حفظة العلم وحملة الشريعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أحرص الناس على نقله لمن بعدهم من التابعين، ولكان لهؤلاء التابعين أيضا مثل هذا الحرص على نقله إلى من بعدهم من أتباع التابعين، وهلم جرا حتى ينقله إلينا ثقاة الحفاظ الجامعين لعلم السنة
رواية ودراية، فإن هذا
(1) مناهج المفسرين ص 227، 231، ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية.