الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول معنى التفسير والتأويل
معناهما اللغوي:
أما التفسير: فإن محور كلمة التفسير وتقاليبها المختلفة يدور حول معنى الكشف، فالفسر والسّفر والرفس تتقارب معانيها، يقولون: فسرت الريح الغيم إذا قشطته، والسفر بمعنى الكشف أيضا، ومنه المرأة السافرة، أي: الكاشفة عن وجهها، وأسفر الصبح إذا كشف الظلام، والرفس بمعنى الإزالة وهو نوع من الكشف، وقيل للبول الذي ينظر فيه الطبيب: تفسرة إذ به يكشف الطبيب عن المرض المراد معرفته، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة التفسير بمعنى الكشف والبيان كما هو وارد في الآية القرآنية الوحيدة:
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33]، أي: بيانا وكشفا.
أما التأويل: فمأخوذ من الأول وهو الرجوع والصيرورة، ومنه آلت إليه السلطة، أي: رجعت إليه، وقد وردت في القرآن الكريم فاستعملت مصدرا في قوله تعالى:
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 7].
وقد وردت في آيات قرآنية أخرى، ولم يرد استعمال كلمة التأويل إلا في المقام الذي يعزّ فيه البيان، ويدق فيه الفهم، كالآيات المتشابهات والأحلام والرؤى، والمصير المجهول.
معناهما الاصطلاحي:
ذهب كثير من العلماء إلى أن التفسير والتأويل بمعنى واحد، قاله أبو عبيد، وقال مجاهد رضي الله عنه: إن العلماء يعلمون تفسيره وتأويله، وهو قول ابن جرير الطبري رحمه الله، حين سمى كتابه «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ، فنراه يقول في تفسير كل آية: اختلف أهل التأويل، أو القول في تأويل الآية، فهو يساوي بين مدلول كلمة التفسير والتأويل.
وذهب آخرون إلى أن معنى التفسير يخالف معنى التأويل في وجه من الوجوه.
قال النيسابوري: قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه، فهؤلاء يرون أن التفسير يتعلق بما حول النصّ، وما يتبادر إلى الذهن لأول نظرة، أما التأويل فإنه الوصول إلى أعماق النصّ، وهو صرف اللفظ إلى ما يمكن أن يتحمله من معنى، وهناك تعريفات في التفسير والتأويل والفرق بينهما، وقد أطال في ذكرها الأستاذ الذهبي- رحمه الله وخلص من جميع التعريفات إلى الترجيح فقال: والذي تميل إليه النفس من هذه الأقوال هو أن التفسير «ما كان راجعا إلى الرواية» ، والتأويل:«ما كان راجعا إلى الدراية» ، وذلك لأن التفسير معناه الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.
وأما التأويل: فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل.
والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني، وغير ذلك.
قال الزركشي: (وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحيل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط)(1).
هذا هو ترجيح أستاذنا الذهبي، وهو ترجيح لم يحالفه الصواب كما يقول الأستاذ الدكتور إبراهيم خليفة: (ما قاله الشيخ- رحمه الله سواء في التفسير وفي التأويل جميعا غير متجه عندنا، أما التفسير فحتى لو سلمنا له قضية اشتراط الجزم في الكشف عن مراد الله تعالى، فإن ذلك لا يتوقف على كونه من طريق الرواية، بل يمكن أن يتحقق الجزم كذلك من قطع العقل بتعين المعنى، واستحالة إرادة غيره من الكلمة أو الجملة القرآنية، كما في قوله تعالى مثلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1].
(1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي 1/ 22، وانظر نقله عن الزركشي في البرهان 2/ 172.
وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 3 - 4].
وقوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .. [البقرة: 165] إلى غير ذلك من الآيات المتكاثرة التي يقطع العقل بتعين معناها ويحيل إرادة غيره. كما يمكن أن يتحقق الجزم أيضا من ظهور المعنى بنفسه، بأن يكون اللفظ نصا فيه لا يحتمل غيره. فما ظنك واشتراط مثل هذا الجزم مما لا يسلم لقائله أصلا، بل إن تيسر لنا في بعض المفردات أو التراكيب فذاك وضح لنا حينئذ القطع بإرادة المعنى من الكلمة أو العبارة، إمّا من الطريق الذي ذكره، أو من الطريق الذي ذكرنا، وإلّا فلنا أن نفسر بغلبة الظن. غاية الأمر أنّا لا نقطع حينئذ بكون المعنى هو المراد لله تعالى، وبالتالي لا نطلق عبارة تفيد مثل ذلك القطع، بل نقول: إنّا لو طبقنا قانون أهل الأصول الذي لا يسع منصفا أن يدافعه، لرأينا أن الطريق الذي ذكره لتحقيق الجزم وهو الرواية لا يمكن أن يحقق الجزم أيضا، اللهم إلّا في حال واحدة هي أن تكون الرواية قطعية الثبوت في نفسها بأن تكون قرآنا، أو حديثا متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو مما وقع عليه الإجماع من الصحابة والتابعين من غير نكير، وما أعز مثل هذه الطلبة، فأما حيث تكون الرواية ظنية الثبوت في
نفسها، حتى وإن تلك مما نقل عنه صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح، فهيهات هيهات لمثلها أن تحقق الجزم بالمراد، وهذا أمر يكاد يبلغ درجة البدهيات التي لا يسع ذو نصفة في الأصول ولا في الفروع أن يماري فيه. فكان على الشيخ رحمه الله لو لزم شيئا من الجادة- أن يشترط التواتر إذن في الرواية، مع أنه لعمر الحق لو فعل لضيّق واسعا، وقال بما لم يقل به أحد، لا من السابقين ولا من اللاحقين، فهذا شأنه في التفسير.
أما التأويل فما كنا لنسلم له أصلا كذلك، إن كل دراية يجب أن تعد تأويلا، حتى لو كانت مما يقطع به العقل، أو يعينه كون اللفظ نصا لا يحتمل غير معناه بوجه من الوجوه، أو حتى يرجحه كون اللفظ ظاهرا في معناه، ولم تقم قرينة توجب صرفه عن هذا المعنى حتى يصرف عنه، بل الوجه عندنا، ولا نحسبه إلّا عند كل منصف كذلك، أن يعد هذا كله من قبيل التفسير، وأن يقصر التأويل على ما يكون استنباطه من اللفظ مفتقرا إلى مزيد من إعمال الفكرة وإنعام النظرة، أو يكون مما يستعصى