الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث مراتب الوحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومظهر النبيّ مع تلك المراتب
قال ابن القيم (1): وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة نذكر من هذه المراتب:
أولها: الرّؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، واستدل السهيليّ وغيره على أن الرؤيا من الوحي، بقول إبراهيم عليه السلام: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] فدل على أن الوحي يأتيهم مناما كما يأتيهم يقظة، وبرواية ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة النبوة، وغطّه ثلاثا وقرأ عليه أول سورة اقرأ، ثم أتاه وفعل معه يقظة، وفي الصحيح عن عبيد بن عمير (رؤيا الأنبياء وحي وقرأ يبنىّ إنّى أرى
…
[الصافات: 102] الآية).
ثانيها: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، من ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ روح القدس نفث في روعي، أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّ أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته» (2).
ثالثها: خطاب الملك، حين كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا.
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، طبعة مؤسسة الرسالة 1417 هـ/ 1996 م ص 1/ 77 - 79. بتصرف.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في كتابه القناعة والحاكم، وصححه من طرق، ورواه ابن ماجة الطبراني وروح القدس: جبريل، ونفث في روعي: ألقى في قلبي أو خلدي أو عقلي، ومعنى أجملوا في الطلب، أي اطلبوه بطرق الحلال بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام.
فقد ثبت أن جبريل كان يأتيه في صورة دحية الكلبي (1)، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
«وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» . زاد أبو عوانة: «وهو أهونه عليه» .
وفي الصحيح روى عمر بن الخطاب نزول جبريل بهيئة رجل، فعنه رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام
…
الحديث. يقول عمر: ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال:«فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه مسلم (2).
رابعها: أن يأتيه جبريل في مثل صلصلة الجرس، وكان أشدّه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي سمع عند دويّ كدوي النحل، فسماع الدوي بالنسبة للحاضرين كما شبهه به عمر بن الخطاب، والصلصلة بالنسبة إليه كما شبهه به صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقامه، فقد كان شديدا على نفسه حتى إن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض (3).
ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها (4).
(1) دحية بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان، وهو بلسان أهل اليمن رئيس الجند، وهو دحية بن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي، شهد المشاهد كلها بعد بدر، وكان دحية جميلا وسيما، وكان إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه. تقريب التهذيب ص 200
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 36 ح (8)(1).
(3)
رواه البيهقي في الدلائل في حديث عائشة بلفظ «وإن كان ليوحى إليه وهو على رأس ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه» وانظر مسند أحمد 6/ 118 و 6/ 455.
(4)
البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. ح (4592).
الخامسة: أن يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم الملك جبريل في صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين (1) - كما ذكر الله ذلك في سورة النجم في الآية السابعة والآية الثالثة عشرة- الأولى: في الأرض حين سأله أن يريه نفسه فرآه في الأفق الأعلى، قال الحافظ ابن كثير: كانت والنبي بغار حراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي (2).
والثانية: عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج.
هذه أشهر المراتب، وهناك مراتب أخرى مختلف فيها، لا نطيل الحديث بذكرها مكتفين بما ذكرناه لك من المشهور.
(1) انظر صحيح مسلم الحديث (177)(287).
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 265 سورة النجم.