الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويبدو أن أصحاب هذا الرأي لم يحالفهم الصواب في الجمع بين القولين، فجعلوا الخلاف لفظيا لا حقيقيا، مع أن الخلاف على ما سيظهر لك جوهري، وهاك أقوال المجيزين والمانعين للتفسير بالرأي.
أدلة المجيزين للتفسير بالرأي:
1 -
من القرآن: قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24].
قالوا: إن تدبر القرآن يكون بفهمه ومعرفة تفسيره، وذلك عن طريق العقل والاجتهاد بالرأي، وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. يدل على أن أهل الاستنباط والاجتهاد هم الذين يعملون معاني القرآن، بما وهبهم الله من قوة الاستنباط.
2 -
أن القول بمنع التفسير بالرأي مساو للقول بمنع الاجتهاد وهذا القول مردود بداهة.
3 -
اختلاف الصحابة في الأقوال- طبعا في بعض الأحيان- يدل دلالة واضحة على جواز التفسير بالرأي، إذ لولا ذلك لاتفقت تفاسيرهم.
4 -
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، فلو كان التأويل كل التأويل من التنزيل والسماع والنقل، لما كان لدعائه صلى الله عليه وسلم فائدة في تخصيصه بالدعاء.
أما أدلة المانعين فقد استدلوا:
أولا: من القرآن الكريم قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44].
قالوا: إن هذه الآية حصرت البيان والتفسير بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد غيره أن يفسّر القرآن برأيه.
ثانيا: من السنة: ما رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (1) وما رواه الترمذي أيضا وأبو داود
(1) باب التفسير في سنن الترمذي 2/ 157، ح (2951).
عن جندب بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (1).
ثالثا: الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين منها: قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني، إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تعالى؟» .
ومن التابعين قول الشعبي: «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي» . وكان سعيد بن المسيب كبير التابعين إذ سئل عن الحرام والحلال تكلم، وإذا سئل عن تفسير آية من آيات القرآن سكت كأن لم يسمع شيئا.
وجملة القول عند المانعين، أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم، وهو إثم وحرام لا يجوز ارتكابه.
وقد ردّ المجيزون على كل دليل استدلوا به، وهذا مجمل الرّد بإيجاز:
أما الدليل الأول وهو استدلالهم بالقرآن، فهو مردود، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن بيّن القرآن إلا أنه لم يبيّن جميع القرآن، بل بيّن ما هو بحاجة إلى بيان كما بيناه لك سابقا.
أما الحديثان، فالأول منهما: محمول على القول بالرأي فيما لا يعلم إلا عن طريق السمع، أو فيمن يفسر القرآن حسب هواه، ولأنه تفسير بغير ما أراد الله، كما ثبت في الأثر، أما الحديث الثاني المروي عن جندب: فإن من رواته سهيل بن أبي الحزم، وقد طعن فيه أئمة الحديث البخاري والنسائي وأبو حاتم الذي قال فيه: ليس بالقوي، وقد ضعفه ابن معين والإمام أحمد وقال: روى أحاديث منكرة (2).
أما الدليل الثالث: فإن ما روي عن هؤلاء من إحجام عن التفسير بالرأي، مبناه الحذر والحيطة لا الحظر والحرمة.
وبعد: فإن المتأمل في أدلة الفريقين يرى بوضوح أن الخلاف بينهما ليس لفظيا بل هو كما قال الأقدمون: إن المذهبين فيهما غلو وتقصير، وهما على طرفي نقيض
(1) المرجع السابق ح (2952).
(2)
انظر تهذيب التهذيب 4/ 261، وميزان الاعتدال 1/ 432.
كما قال الإمام المحقق الألوسي: «وأما التفسير بالرأي فالشائع المنع عنه» . ثم بعد أن ساق أقوال المانعين قال: ولا دليل في ذلك. نعم إن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة في منع كل تفسير بالرأي، وهي ناصعة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء، على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب، فليس له أن يفسر القرآن برأيه، وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب، فهل بعد هذا نقول: إن الخلاف بينهم لفظي؟ وإن مراد المجيزين للتفسير بالرأي إنما يريدون الرأي المحمود، وإن مراد المانعين للتفسير بالرأي إنما هو الرأي المذموم؟
كلا إن المانعين للتفسير بالرأي يمنعونه ولو صدر عن العلماء؛ وكل فريق يعزز رأيه ويرد على الآخر: فكيف يقال: إن المنع للرأي المذموم، والجواز للرأي المحمود؟
إن المانعين للرأي لا يقصدون الرأي المذموم فحسب، إذ إن هذا بدهي من البدهيات التي يسلم لهم بها المجيزون، وإنما يقصدون المنع من التفسير بالرأي على عمومه وشموله، محموده ومذمومه، صحيحه وسقيمه، فالقائل بالقرآن برأيه وإن أصاب فقد أخطأ، فالمصيب مخطئ، فما بالك بالمخطئ.
هل بعد هذه الصراحة صراحة في قصدهم الواضح، من تحريم التفسير بالرأي، بجميع أشكاله وألوانه.
لهذا كله، فإن الحق الذي نقول به: إن الخلاف حقيقي لا أثر فيه للفظية، لذا كان لزاما علينا أن نسلك طريق الترجيح الذي لا محيص عنه فنقول: إن أدلة المجيزين للتفسير بالرأي أقوى حجة، والواقع العملي الثابت عن سيرة الصحابة والتابعين يدل عليه، فإن الذين رويت عنهم الأخبار بالامتناع عن التفسير بالرأي، قد ثبت عنهم التفسير بالاجتهاد والتفسير بالرأي، وما اختلاف التفاسير وتنوعها، واختلاف التفاسير عن الصحابة والتابعين إلا دليل ناصع على أن مصدر هذا الخلاف إنما هو تباين الآراء النابع عن اجتهادهم.
وتبقى أدلة المنع محصورة فيما لا يجوز أن يفسر به القرآن بالرأي، في المجال الذي ليس له أن يقول فيه قولا إلّا نقلا أو سماعا، هذا ما نميل إليه، أما أن نجمع بين