الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زماننا ورجع إليه، وردّ وردّ عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس، دراكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة ووقع في مداحضه ومزالقه».
ولما علم الزمخشري أن كتابه قد تحلى بهذه الأوصاف قال متحدثا بنعمة الله:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد
…
وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته
…
فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
وإذا كان الزمخشري قد اعتز بكشافه، وبلغ إعجابه به إلى حدّ يقول فيه ما قال من تقريظ له، وإطراء عليه، فإنا نعذره في ذلك ولا نلومه عليه، فالكتاب وحد في بابه، وعلم شامخ في نظر علماء التفسير وطلابه، ولقد اعترف له خصومه بالبراعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التي يرجع أغلبها إلى ما فيه من ناحية الاعتزال.
اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن:
عند ما يلقي الإنسان نظرة فاحصة على العمل التفسيري الذي قام به العلامة الزمخشري في كشافه، يظهر لنا من أول وهلة أن المبدأ الغالب عليه في جهوده التفسيرية، كان في تبيين ما في القرآن من الثروة البلاغية التي كان لها كبير الأثر في عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله، والذي يقرأ ما أورده الزمخشري عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن الزمخشري كان يحرص كل الحرص على أن يبرز في حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه، وإنما لا نكاد نقطع- إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنايتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية في المعاني
والبيان- بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالا في جهوده في هذا الصدد من تفسير الزمخشري.
ولقد كانت لعناية الزمخشري بهذه الناحية في تفسيره من الأثر بين المفسرين، وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح بيّن.
أما أثره بين المفسرين فإن كل من جاء بعده منهم- حتى من أهل السنة- استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتوا إليها لولاه، فأوردوا في تفسيرهم ما ساقه الزمخشري في كشافه من ضروب الاستعارات والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبّه عليه الزمخشري من نكات بلاغية، تكشف عما دقّ من براعة نظم القرآن وحسن أسلوبه.
ثم إنا نستعرض هذه الروح البلاغية التي تسود في تفسير الزمخشري فنشهدها واضحة من أول الأمر عند ما تكلم عن قوله تعالى من أول سورة البقرة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التي تجوز في محل هذه الجملة من الإعراب، نبّه على أن الواجب على مفسر كلام الله تعالى أن يلتفت للمعاني ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعا لها، فقال ما نصه: «
…
والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا وأن يقال: إن قوله: الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، ذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ، رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها
…
وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك، أنه نبّه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة
…
ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله
…
ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة