الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج: 11] يعني أنهم عبدوه على وجه الشك لا على اليقين والتسليم لأمره، قال مجاهد: على شك، وهذا علامة على القلق وعدم الثبات كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، يكاد يسقط عنه.
وقال الحافظ أبو عمرو الداني إن من معاني الأحرف: اللغات، يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، وقيل: اللغات يعني اللهجات. وعلى هذا فالحرف لغة: (يعني الطرف، وأحد حروف التهجي، والوجه واللغة واللهجة).
أما كلمة السبعة، فكما سبق أن قلنا: إن المراد منها حقيقة العدد المحصور بين الستة والثمانية وليس المراد منها المعنى المجازي.
المعنى الاصطلاحي للأحرف السبعة:
على الرغم من كثرة الأقوال التي تحدد المعنى الاصطلاحي للأحرف السبعة، إلّا أنه يمكن رد كثير منها وفق قاعدة متفق عليها «أن كل قول لا يستند إلى أثر ثابت هو مردود أيضا» مثل قول ابن مسعود المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقائل:(كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه وأمثال» (1).
فهذا القول لم يصح، فقد أخرجه الحاكم والبيهقي، وليس سنده يصح، ولو صح السند لكان حاسما للنزاع، على أنه قد روي عن ابن مسعود قول خلاف ذلك كما قال الطبري.
أو مثل القول: «محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص» .
كل هذه الأقوال وأمثالها قد ضربنا عنها صفحا ولم نتكلف الرد عليها لعدم استنادها إلى الدليل.
وبعد: فنبدأ برأي الطبري الذي استهل به تفسيره الشهير، وقد أطال كثيرا في تحديد المعنى لها وقد وافقه الطحاوي، واستفتح به القرطبي سائر الأقوال- وإن لم
يوافقه.
(1) جامع البيان 1/ 23، قال السيوطي: حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم والبيهقي، الإتقان 1/ 48.
وقد تأثر بعض المحدثين بقول الطبري، كما ظهر في كتاب مباحث في علوم القرآن (1).
لقد فسر الطبري الأحرف السبعة بأنها سبعة أوجه، ولكنها ليست كالأوجه السبعة التي سيأتيك ذكرها بل أوجه سبعة من المعاني المتفقة والألفاظ المختلفة في الكلمة الواحدة نحو هلم وأقبل وأسرع وتعال وعجل وقصدي ونحوي وقربي (2).
فلك أن تختار أي لفظ من هذه الألفاظ، وهذا معنى التسهيل والتيسير على الأمة، وقد أورد الطبري الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة:«كلّها شاف كاف» ، إلّا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو هلم وتعالى وأسرع وأقبل .. إلخ.
أو كما روي في حديث أبي بن كعب: (قلت: غفورا رحيما أو قلت: سميعا حكيما أو قلت: عليما حكيما أو قلت: عزيزا حكيما، أي ذلك قلت فإنه كذلك).
واستدلوا على هذا القول بقراءات مروية عن أعيان الصحابة، مثل أبي بن كعب، وهو أقرأ الصحابة كما ورد، «أقرؤكم أبي» فقد روي أنه قرأ قوله تعالى: .. مَشَوْا فِيهِ .. [البقرة: 20]، أبدلها بقوله:«مروا فيه، سعوا فيه» . وقرأ قوله تعالى في سورة الحديد: .. لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا .. [الحديد: 13]. قال: (أمهلونا، أخرونا، ارقبونا).
أما أنس بن مالك فقرأ قوله تعالى في المزمل: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6]. قال: (وأصوب قيلا، فقيل له: أقوم فقال: وأصوب وأهيأ واحد)(3).
أما ابن مسعود فقد أقرّ رجلا قرأ قوله تعالى:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ 43 طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43 - 44](4).
(1) انظر مباحث علوم القرآن، للشيخ مناع القطان.
(2)
جامع البيان 1/ 20.
(3)
جامع البيان 1/ 18، والحديث رواه أبو يعلى والبزار.
(4)
انظر تفسير الآية للطبري والقرطبي.
حين قال طعام الأثيم فقال: (قل: طعام الفاجر) هذا قول الطبري وهو فاسد من وجوه كثيرة:
1 -
أن الآثار التي استند إليها في الأحرف السبعة لم يصح منها إلّا ما أوردناه سابقا، أو ما هو قريب من لفظة ومعناه، أما هذه الروايات المروية عن الصحابة فلم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن الآثار المروية عن الصحابة، رضوان الله عليهم، على فرض صحتها هي قراءات شاذة لا يعتد بها في الاستشهاد.
3 -
لم يعتبر أحد أن هذه القراءات قرآنية، لأنها لم تتواتر وهي قراءات إن صحت على أبعد احتمال، فلا تعدو أن تكون قراءة آحاد مخالفة للسواد، فلا يعتد بها كما قال أبو حيان.
4 -
على أن العلماء مع اتفاقهم جميعا دون استثناء، على أنها ليست قرآنا، قد اختلفوا في اعتبارها حديثا وهي على أحسن تقدير تفسير صحابي.
5 -
أن القراءة بالمرادف يفتح باب التغيير والتبديل فليس للنبيّ ولا لصحابي أن يبدل اللفظة من بعض هذه الألفاظ من تلقاء نفسه، فإن هذا القرآن المعجز لو حذفت أو أبدلت كلمة منه ثم أدرت لسان العرب كله على أن تأتي بدلها ما استطعت.
إن كلمة هلم أو أقبل أو نحوي، لا يمكن أن تسد مسد كلمة تعال لا في اللفظ وتناسقه وسياقه، ولا في أداء المعنى الدقيق لهذه الكلمة.
فهل كلمة هلم وأقبل ونحوي وأسرع
…
تسد مسد كلمة تعال؟ أو كلمة أقوم مثل: أهيأ وأصوب، أو كلمة «طعام الفاجر» مثل طعام الأثيم ..
لقد خاض العلماء في ذلك وكتبوا في تشابه القرآن في آياته بزيادة حرف أو نقص أو بإبدال كلمة مكان كلمة، وقالوا في ذلك عجبا، وبينوا، وبينوا الإعجاز الرباني في الإبدال والنقص والزيادة، فكيف يكون قوله عزيزا حكيما، مثل عليما حكيما ما لم نخلط آية عذاب برحمة أو العكس كما زعموا.
قال أبو بكر الباقلاني: (فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء الله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف).
إن هذا القول رغم إجلالنا لقائله وهو ابن جرير الطبري إلّا أنا نقول كما قال علماؤنا:
هذا الرجل كبير، ولكن الحق أكبر منه، لذا فقد خالفه جماهير العلماء فيما ذهب إليه. ولو أمعن بعض المحدثين فيما اعترض به على ابن جرير لما ذهبوا مذهبه، بل أوقعتهم ثقتهم بهذا المفسر العظيم حين افتتح كتابه بالحديث عن علوم القرآن، وبحث الأحرف السبعة، وأطال الاستدلال، فتوهم هؤلاء بأن رأيه الحق الذي لا بديل له.
أما القول الثاني فهو رأي ابن قتيبة وابن الجزري والقاضي الباقلاني ابن الطيب والرازي وابن كثير، وقد قال به كثير من المحدثين كالزرقاني الذي تابعه كثيرون.
لقد قال هؤلاء جميعا: إن المراد بالأحرف السبعة أوجه سبعة، وهي لا تخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف (1).
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث مثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 8] لأمانتهم بالإفراد، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ لأماناتهم بالجمع.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر مثاله قوله تعالى:
رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19]«ربنا بعّد بين أسفارنا» .
الثالث: اختلاف في وجوه الإعراب. مثاله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] ورسوله بالضم، ورسوله بالفتح.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة، مثاله: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3](والذكر والأنثى) بنقص لفظ وما خلق، ونحو «أوصى» «ووصى» بنقص حرف الهمزة.
الخامس: الاختلاف في التقديم والتأخير، مثاله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة: 111] بمعنى قاتل ومقتول، أو «فيقتلون ويقتلون» بمعنى مقتول وقاتل، وكلاهما موعود بالحسنى وبالجنة، ومثاله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19]«وجاءت سكرة الحق بالموت» .
(1) النشر في القراءات العشر 1/ 27.
السادس: الاختلاف بالإبدال وهو قسمان: إبدال حرف قريب المخرج بحرف قريب مثله وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة: 29]«وطلع منضود» . والثاني: إبدال كلمة بكلمة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] كالصوف المنفوش بدل العهن.
السابع: اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق التفخيم وغير ذلك.
وإذا تأملت هذه الأوجه فإنها لا تخلو من نقد، وهي أوجه فيها نظر من نواح كثيرة. فالأمثلة القرآنية هي روايات آحادية لا تثبت قرآنيتها كما يقول أبو حيان:
«رواية آحاد مخالفة للسواد فلا يعتد بها» (1) فقوله: «وجاءت سكرة الحق بالموت» وقوله: «والذكر والأنثى» بدل «وما خلق الذكر والأنثى» وقوله: «كالصوف المنفوش» بدل «العهن المنفوش» كل ذلك لم يثبت رواية ولم يصح سندا.
ثم إن المتأمل لهذه الأوجه لا يلمس وجه الحكمة والتسهيل على الشيخ الكبير والطفل الصغير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
المعنى الثالث: الأحرف السبعة هي لغات سبع (2) متفرقة في القرآن،
وهي لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة، نزل بها القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر كتبة الوحي، وهم من قبائل شتى من قريش وغيرها، بكتابته، وقام عثمان بن عفان وأمر الكتبة حين كتابة القرآن إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، ومعنى ذلك أن القرآن منه ما قرئ بلغة قريش، ومنه ما قرئ بغيرها كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سبب اختلاف الصحابة في قراءة القرآن، فمن سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على وجه، فإنه يقرأ على هذا الوجه، ومن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على وجه آخر، فإنه يقرأ على الوجه الذي سمعه كذلك، وربما سمع أحدهم ما لا يسمعه الآخر فينكر عليه، فحين قرأ هشام الفرقان أنكر عليه عمر ذلك لأنه لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي سمعه هشام.
(1) تفسير البحر المحيط 8/ 483.
(2)
القرطبي 1/ 38 - 39.
فالأحرف السبعة كلها مسموعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل بها الوحي.
أما إنها لغات سبع، فلما روي عن عثمان، أنه أمر كتبة الوحي إن اختلفوا مع زيد بن ثابت في كتابة شيء من القرآن أن يكتبوه بلغة قريش، لأنها اللغة الشائعة، فهي أحق من غيرها إذا وقع الاختلاف، فلغة قريش إذن معها لغات أخرى.
إن تفسير الأحرف السبعة باللغات السبع يلمس فيه وجه التخفيف والتسهيل، فالقبيلة قد تعتاد لهجة معينة يسهل عليها النطق بها، ويصعب عليها النطق بغيرها، وفي نزول القرآن بهذه اللغات، يسهل على أصحاب كل لهجة القراءة القرآنية على نحو ما اعتادت عليه نطقه، ورفع الحرج عن من لم يعتد عليه نطقا، وعلى الأخص الشيوخ والنساء والأطفال، وهذا ما بين وجه الحكمة في قوله صلى الله عليه وسلم:«إن أمتي فيها الشيخ الفاني والعجوز الكبير والغلام» . ثم قوله صلى الله عليه وسلم: «إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ .. » .
وقد يعترض على هذا القول فأي اللغات السبع تريد والعرب قبائل شتى؟ هل هي قريش وثقيف وهذيل وهوازن وكنانة وتميم أو غيرها؟
وما هو الدليل على تعيين هذه اللغات أو اللهجات السبع التي نزل بها القرآن، علما بأن القبائل العربية كثيرة ولهجاتها لا تعد.
أقول: إن الأحرف السبعة هي لغات سبع اشتهرت شهرة بين العرب ولم يعينوا من هم، ولكنها سبعة على أية حال، قد عرفنا لغة قريش على وجه التأكيد، بل منهم من يرى
أنها سبع لغات من لغات قريش. أورده النيسابوري في تفسيره قائلا: أكثر العلماء على أنها سبع لغات من لغات قريش، لا تختلف ولا تتضاد، بل هي متفقة المعنى، ثم يقول: وغير جائز عندهم أن يكون في القرآن لغة لا تعرفها قريش. ذلك أن قريشا تجاور البيت، وكانت العرب تأتي إليهم للحج، ويستمعون لغاتهم، ويختارون من كل لغة أحسنها كلاما، واجتمع لهم ذلك العلم بلغة غيرهم (1).
(1) في مقدمة الغرائب للنيسابوري.
أما الألسن فلا حاجة بنا إلى معرفتها، وقد قيل: إن خمسة منها لعجز هوازن، واثنين منها لقريش وخزاعة، روي ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك أن الذي روى عنه أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن، هو الكلبي عن أبي صالح، وأما الذي روى عنه أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة فهو قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه (1)، فهذه روايات لم يصح سندها فلا يعول عليها، أما رواية الكلبي فهي من أوهى الطرق عن ابن عباس، وهي كما يقول علماء الحديث سلسلة الكذب.
أما الرواية عن قتادة فلا تقبل لأنها عنعنة المدلس، قال الطبري: إن قتادة لم يلق ابن عباس ولم يسمع منه (2).
وعلى كل حال فاللغات السبع لم ترد على سبيل التحديد ولكن لغة قريش واحدة على وجه التأكيد.
وقد يعترض على ذلك أيضا أن عمر بن الخطاب قد اختلف مع هشام بن حكيم في قراءة القرآن، وهما قرشيان، ولغتهما واحدة، ولهجتهما واحدة، فالخلاف وقع بينهما وهما من قبيلة واحدة، فلو كان الأمر كما زعمت أن الأحرف هي اللغات لم تصح دعواك.
ويجاب عن ذلك: أن قراءة القرآن على لغة قريش لا يعني الاقتصار عليها، فقد يكون هشام بن حكيم القرشي قد سمع القرآن بلغة أو بلهجة أخرى، فلما قرأها باللغة الأخرى استنكرها عمر، لأنه لم يسمعها كما سمعها هشام، بل الأمر كذلك حسب الرواية أن هشام كان يقرؤها على حروف كثيرة كما وردت، على أن هشام لم ينكر على عمر بل الذي وقع منه الإنكار عمر، لأنه لم يسمع القراءة التي قرأها هشام، والتي ربما كانت قراءة إضافية عما قرأها عمر.
وبعد: فقد آن لنا أن نتساءل حول إشكال وقضية في نهاية هذا البحث، أما الإشكال فناجم عن الأحرف السبعة والقراءات السبع.
وهل هما من المترادفات وإن كل واحد منهما يعني الآخر سواء بسواء، أو هما غير ذلك.
(1) المزهر، للسيوطي 1/ 210.
(2)
جامع البيان 1/ 66.
فالجواب: إنهما قطعا حقيقتان متغايرتان مختلفتان، وإن تداخلتا تداخلا طفيفا.
أما وجه التغاير والاختلاف فالحرف غير القراءة كما بينا، أما وصف الاثنين بالسبعة، فالسبعة الأولى أي الأحرف السبعة ربانية المصدر بعددها، فالقرآن نزل على سبعة أحرف ابتداء، أما السبعة التي هي وصف للقراءات فهي اصطلاح عند علماء القراءات، فابن مجاهد رأى أن أشهر القراء سبعة، وهذا ما أوقع في الإشكال.
أما وجه التداخل فهو أن الأحرف السبعة ربانية كما بينا، والقراءات السبع وإن كانت منسوبة إلى القراء السبعة، إلّا أنها ليست من وضعهم بل هم قرءوها كما نزل بها الوحي السماوي فليست القراءات سبع على وجه التحديد، إنما هي اختلاف ألفاظ الوحي كما نطقها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا فقد عقد القرطبي فصلا في مقدمة تفسيره وقال: هذه القراءات السبع التي تنسب للقراء السبعة، ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، فالقراءات هي اختيارات أولئك الأئمة السبعة (1).
قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن بعض الجهال (2). وبهذا الكلام رفع الإشكال.
أما القضية فهي: هل القرآن الكريم الذي بين أيدينا يحوي الأحرف السبعة؟
وهل أمر عثمان بن عفان بكتابة الأحرف السبعة أو أنه أمر بإهمال ستة منها والإبقاء على حرف واحد.
قبل الإجابة نبادر أولا بتقرير حقيقة لا مجال للشك فيها عند الفريقين المختلفين في وجود الأحرف السبعة، هذه الحقيقة مسلم بها عند كلا الفريقين، ألا وهي أن القرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم لا نقص فيه ولا زيادة على ما جمعه عثمان بن عفان، وبعث به إلى الأمصار، وإن ما صنعه عثمان كان بإجماع الصحابة رضوان الله
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 48.
(2)
اللئالئ الحسان، ص 183.
عليهم، والزاعمون بالنقص لآيات أو سور هم مارقون في دين الله تعالى أينما كانوا وأينما وجدوا.
إنما الخلاف بين العلماء في وجود الأحرف السبعة أو عدم وجودها، وهل يشتمل عليها القرآن الكريم الذي بين أيدينا أو لا يشتمل.؟
أقول: إن مرد هذا الخلاف راجع إلى تحديد المراد بالأحرف السبعة. فالقائلون بأنها أوجه سبعة، كما سبق بيانها، والقائلون بأنها سبع لغات من لغات أو لهجات القبائل العربية. هؤلاء جميعا قالوا بوجود الأحرف السبعة في القرآن الكريم، فالأوجه السبعة المذكورة بأمثلتها موجود منها ما هو متواتر في المصاحف المتعددة التي نسخها عثمان وبعث بها إلى الأمصار.
وقد احتج هؤلاء بالإجماع من قبل الصحابة على ما فعله عثمان، الذي نسخ القرآن من المصحف عينه، الذي كان موجودا عند حفصة. وهو المصحف عينه الذي كان موجودا عند أبي بكر، وهو عين المصحف الذي كتب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، والتي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في رمضان على جبريل عليه السلام.
وأما القائلون بأنها سبع لغات، بمثل ما فسرها ابن جرير بأنها مترادفات سبع- اختلاف الألفاظ واتحاد المعنى- فإن هذا الفريق يرى أن الأحرف السبعة غير موجودة في القرآن، وأنقل إليك كلمة ابن جرير الطبري في مقدمة تفسيره معبرا عن وجهة نظره ونظرهم أوضح تعبير.
يقول ابن جرير: (والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين- نظرا منه لهم، وإشفاقا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حذار الردّة من بعضهم بعد الإسلام، والدخول في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضره، وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر- فحملهم رحمة الله عليه، إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره، ولحداثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن- على حرف واحد.
وجمعهم على مصحف واحد وحرف واحد، وخرّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه، أن يخرقه. فاستوسقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها) (1).
ثم يقول: (فلا قراءة اليوم للمسلمين إلّا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)، وابن جرير بعد هذا الكلام يرد على اعتراض مفترض فيقول:(وكيف جاز لهم ترك قراءة أقر أهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟) يجيب عن ذلك: (قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكلّ حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قرأة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين)(2).
وقد لاقى رأي الإمام الطبري معارضة قوية عند الأقدمين والمحدثين، وقد تكلم الزرقاني كلاما طويلا في الرد على من قالوا: إن الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل بها القرآن، أما الستة الأخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود البتة، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم، ثم حاولوا أن يؤيدوا ذلك، فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف الستة التي يقولون بضياعها نسخا ولا رفعا، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة أخرى، هي دعوى إجماع الأمة على أن تثبت على حرف واحد، وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه من الأحرف الستة، وأنى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه؟ هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة، وهي القول بأن استنساخ المصاحف في زمن عثمان رضي الله عنه، كان إجماعا من الأمة على ترك الحروف الستة، والاقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان
(1) جامع البيان 1/ 21.
(2)
جامع البيان 1/ 22.
المصاحف عليه، وقصارى ما استطاعوا أن يسوغوا به مذهبهم وتورطاتهم هذه، أن الأمة على عهد عثمان رضي الله عنه قد اختلفت في قراءات القرآن إلى حد جعلهم يتنازعون ويترامون بتكفير بعضهم للبعض الآخر، حتى خيفت الفتنة، فرأى الصحابة بقيادة خليفتهم الحكيم عثمان رضي الله عنه، أن يعالجوا المشكلة ويطفئوا الفتنة، وبهذه الطريقة جمع الناس على حرف واحد، ونسخ المصاحف على حرف واحد، وإهمال كلّ ما عداه من الحروف والمصاحف المنسوخة عليها.
وهذا- لعمرك- استناد مائل، واحتجاج باطل. فقد تنازع الناس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا في قراءات القرآن على حروف مختلفة، ومع ذلك أقرّهم الرسول على هذه الحروف المختلفة، وقرّرها فيهم، وحملهم على التسليم بها في أساليب متنوعة، وجعل ذلك هو الحل الوحيد لمشكلتهم، والعلاج الناجع لنزاعهم، وأفهمهم أن تعدد وجوه القراءة إنما هو رحمة من الله بهم، وقرّر في صراحة، وهو يسأل مولاه المزيد من عدد الأحرف، أن الأمة لا تطيق حصرها في مضيق حرف واحد، وقال:«وإن أمتي لا تطيق ذلك» إلى آخر ما عرفت، وأنت خبير بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة، وهي لا تطيق ذلك كما قرّر رسولها المعصوم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه، كما نشاهد نحن الآن من أن بعض الألسنة في بعض الشعوب الإسلامية، لا يتيسر لها أن تحسن النطق ببعض الحروف، ولا ببعض اللهجات دون بعض، فكيف يسوغ للصحابة وهم خير القرون، أن يغلقوا باب الرحمة والتخفيف الذي فتحه الله لأمة الإسلام، مخالفين بذلك هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في عمله للتخفيف بطلب تعدد الحروف، وعلاجه للنزاع بين المختلفين بتقرير هذا التعدد للحروف؟.
ألا إن هذه ثغرة لا يمكن سدّها، وثلمة يصعب جبرها، وإلّا فكيف يوافق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضياع ستة أحرف، نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنها لم تنسخ ولم ترفع؟ وعلى حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرّر بقوله وفعله، أنه لا يجوز لأحد أيّا كان أن يمنع أحدا أيّا كان من القراءة بحرف من السبعة أيّا كان. فقد صوّب قراءة كلّ من المختلفين، وقال لكل:«هكذا أنزلت» وضرب في صدر أبي بن كعب حين استصعب عليه التسليم بهذا الاختلاف في القراءة.
وقصارى القول، أننا نربأ بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكونوا قد وافقوا أو فكروا، فضلا عن أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستة دون نسخ لها.
وحاشا لعثمان رضي الله عنه، أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعمه، وكيف ينسب إليه هذا؟
والمعروف أنه نسخ المصاحف التي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، قبل أن يدب النزاع في أقطار الإسلام بسبب اختلاف حروف القراءة في القرآن.
فكانت تلك الصحف محتملة للأحرف السبعة جميعا، ضرورة أنه لم يحدث وقتئذ من النزاع والشقاق ما يدعو إلى الاقتصار على حرف واحد في رأيهم، ولم يثبت أن الصحابة تركوا من الصحف المجموعة على عهد أبي بكر حرفا واحدا، فضلا عن ستة أحرف، ولو كان ذلك لنقل إلينا متواترا، لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله.
ثم كيف يفعل عثمان ذلك، رضي الله عنه ذلك؟ وهو الذي عرف أن علاج الرسول لمثل هذا النوع الذي دبّ في زمانه، كان بجمع الناس وتقريرهم على الأحرف السبعة لا يمنعهم عنها، كلّا ولا بعضا.
ثم كيف يفعل عثمان ذلك، وتوافقه الأمة، ويتم الإجماع؟ ثم يكون خلاف في معنى الأحرف السبعة مع قيام هذا الإجماع؟
أي كيف تجمع الأمة على ترك ستة أحرف، وإبقاء حرف واحد، ثم يختلف العلماء في معنى الأحرف السبعة على أربعين قولا، ويكادون يتفقون- رغم خلافهم هذا- على أن الأحرف السبعة باقية، مع أن الإجماع حجة عند المسلمين، وبه ينجلي ظلام الشك عن وجه اليقين.
ولنفرض جدلا أن نزاع المسلمين في أقطار الأرض أيام خلافة عثمان رضي الله عنه، قضى عليه أن يجمع المسلمين على حرف واحد في القراءة، فلماذا لم تسمح نفسه الكريمة بإبقاء الستة الأحرف الباقية للتاريخ لا للقراءة؟ مع أن الضرورة تقدر بقدرها، وهذه الستة أحرف لم تنسخ لا تلاوة ولا حكما حتى تذهب بجرة قلم كذلك، ثم يبخل عليها بالبقاء للتاريخ وحده في أعظم مرجع، وأقدس كتاب، وهو القرآن الكريم (1).
(1) مناهل العرفان ص 169 - 170.