الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من هذه الفوائد:
1 -
تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
2 -
ومن الفوائد دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر، وقد مثلوا على ذلك بمثال وهو قول الشافعي كما أورده الزركشي في معنى قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
…
[الأنعام: 145].
قال: إن الحصر في الآية ليس مرادا، ذلك أن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادّة والمحادّة، جاءت الآية بهذا الحصر الصوري مشادة لهم ومحادة من الله ورسوله، لا قصدا إلى حقيقة الحصر، نازلة منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلّا الحلاوة، والغرض المضادّة لا النفي والإثبات على الحقيقة (1).
3 -
معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية، إلّا إذا ورد نص مخصّص لها.
وهي من القضايا الأصولية التي ذكرها الآمدي والشاطبي وغيرهم، ودللوا عليها كقاعدة أصولية تتعلق بأسباب النزول، وهذه الفائدة من الأمور المجمع عليها عند من يعتد بقولهم في علم الأصول، وهي صحيحة ولا كلام، بل بدهية أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية.
4 -
أن السبب يفيد وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
5 -
ومجمل القول: إن فوائد معرفة أسباب النزول كثيرة ولا غنى عنها، فهي تفيد في فهم النص القرآني بكل أبعاده، فتزيل المشكل، وتوضح المبهم، وتدفع الغموض، وتطرد الشّبه، وترفع الخلاف، فهي أوضح سبيل وأقصره لفهم معاني الآيات التي ورد لها سبب.
(1) البرهان في علوم القرآن 1/ 31 - 32.
وإضافة إلى ما ذكر تفيد الزمان والمكان الذي نزلت فيه الآية، فتميز المكي من المدني، وتفصل الدعوى في الناسخ والمنسوخ حين يعرف المتقدم من المتأخر، وإلى جانب هذا كله، فإنها تعطي صورة واضحة عن مراحل الدعوة الإسلامية، في سيرها ومعالجتها للأحداث بوسائل مكافئة في كل حالة من الحالات، وهذه فائدة لا تعدلها فائدة لمن تأمل فيها في رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية، عبر مراحلها الزمنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
نعم إن علم الأسباب في النزول يبين الفهم الصحيح للآية، ولا يزول الإشكال إلّا بذكره، وقد توافقت كتب علوم القرآن قديما وحديثا على ذكر هذه الأمثلة لتبين أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ويضبطنا من الوقوع في الزلل.
من ذلك ما ورد في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115].
فإننا لو تركنا لظاهر الآية لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة لا سفرا ولا حضرا، وهو خلاف الإجماع، ولكن بمعرفة سبب نزولها يتبين لنا أن هذا المفهوم خاطئ، فقد روي في سبب نزولها أن القبلة عميت على قوم فصلّوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، فعذرهم الله بها، فالآية ترفع الحرج عمن صلّى باجتهاده إلى جهة ما يظنها القبلة، فبان له الخطأ بعد ذلك، وكأن الله سبحانه يقول: لا حرج فالجهات كلها لله، وحيثما توجهتم فثم وجه الله (1).
ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .. [البقرة: 158].
فقد فهم عروة بن الزبير رضي الله عنه، أن الآية نزلت لبيان عدم فرضية السعي بين الصفا والمروة، فإن عبارة «لا جناح في كذا» لا يستعمل في الدلالة على وجوب الصلاة والزكاة. مثلا «لا جناح في أداء الصلوات الخمس أو في إخراج الزكاة، وإنما تصلح هذه العبارة للتعبير عن الإباحة لأن هذا المعنى هو مدلولها اللغوي» :
(1) الترمذي 4/ 273، ونيل الأوطار 2/ 75.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ .. [البقرة: 198].
.. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
…
[البقرة: 229] .. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ .. [البقرة: 230].
ومن هنا فهم عروة أن السعي بين الصفا والمروة ليس بفرض، لأن عبارة الآية تدل بمقتضى الاستعمال اللغوي على الإباحة، والإباحة تنافي الوجوب، لأن الإباحة لا إلزام فيها، بخلاف الوجوب. ولولا قوله تعالى: .. مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ .. [البقرة: 158].
لما فهم من الآية أن السعي عمل مرغّب فيه شرعا، فتدل الآية بمجموعها على الترغيب فيه وامتناع وجوبه، ولكن من يقف على سبب نزول الآية يعرف أنها لا تنافي وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقد روي أن فريقا من الصحابة تحرجوا من الطواف بهما، لأن أهل الجاهلية كانوا يفعلونه، وكانوا في ترددهم بين الصفا والمروة يتمسحون بصنمين كانا عليهما، فتأثموا من عمل هو من أعمال الجاهلية، وكان يقترن به عمل من أعمال الوثنية فنزلت.
وروي أن الأنصار كانوا في الجاهلية يحجون إلى الصنم الذي يقال له مناة، ولا يتحللون من الطواف بهما، لأنه لم يكن ذكر في القرآن في ذلك الوقت. وكان الذي ذكر هو الطواف بالبيت العتيق فنزلت (1).
ويجمع بين هذه الروايات كلها بأنها نزلت عقب تأثم الجميع، والمعقول أن هذا التأثم إنما وقع منهم قبل أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في طلب السعي، وإلّا فحينئذ لا يعقل أن يتأثموا، فجاءت عبارة الآية على ما كان في نفوسهم من التأثم، تبين لهم أن هذا الأمر لا إثم فيه ولا جناح، فالمقصود منه إزالة ما كان في نفوسهم من التأثم لا نفي الوجوب، ولكن عروة لم يعرف سبب النزول ففهم أن الآية تنافي الوجوب.
وقد دلت السنّة على وجوبه، وقد عرف عروة من خالته عائشة سبب نزولها، ولمّا عرف اهتدى إلى المقصود منها.
(1) انظر هذه الروايات في فتح الباري 3/ 315.