الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما، سمّي كلّ ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا لاسم السبب على المسبب.
مدلولهما الاصطلاحي:
يجدر بنا قبل الحديث عن مدلول المحكم والمتشابه الاصطلاحي، أن نسوق الآيات القرآنية الواردة في هذا الموضوع، فآية تصف القرآن- كل القرآن- بأنه محكم، وآية تصف القرآن- كل القرآن- بأنه متشابه، وآية تصف القرآن بأنه منه المحكم والمتشابه. وبما أننا نعلم أن القرآن منزه عن التناقض، فإننا نجزم أن هذه الآيات لا تناقض فيها، بل لكل آية معنى سديد ودقيق يلحظ بالتأمل والتمحيص والتحقيق.
فالآية القرآنية: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ .. [هود: 1]. تفيد إحكام القرآن كله آية آية، وسورة سورة، وتكاد كلمة المفسرين- قديما وحديثا- تجمع على معنى واحد لهذه الآية، وإن اختلفت تعابيرهم، فالطبري والرازي وأبو حيان يقولون: إن معنى أحكمت آياته: نظمت تنظيما رصينا لا نقص ولا خلل فيها كالبناء المحكم، فمعنى أن القرآن كله محكم كونه كلاما حقا، فصيح الألفاظ، صحيح المعاني وكل قول وكلام فالقرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى (1).
قال الطبري: أحكم الله آياته من الدخل والخلل والباطل.
وكذلك نجد المعنى نفسه، بل الألفاظ نفسها عند المفسرين المتأخرين.
يقول الجمل في تفسيره الفتوحات الإلهية: (كتاب أحكمت آياته، أي: نظمت نظما متقنا لا يعتريه الخلل بوجه من الوجوه)(2).
أما القاسمي فقال: (أحكمت آياته نظمت نظما رصينا محكما معجزا لا يعتريه نقص ولا خلل لفظا ومعنى)(3).
(1) انظر تفسير ابن كثير وبحاشيته التفسير البغوي 7/ 236 - 237، ط المنار.
(2)
. 2/ 387 طبعة دار الاستقامة القاهرة.
(3)
محاسن التأويل 9/ 3408.
أما الآية الثانية: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً .. [الزمر: 23]. فتفيد أن آيات القرآن يشبه بعضها بعضا في الإحكام والإتقان، فلا يستطيع أحد المفاضلة والتمييز بين آية وأخرى، للتماثل في البلاغة والهداية.
قال قتادة: (الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف)(1).
أما الآية الثالثة: فقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .. [آل عمران: 7].
فقد تقابل فيها الإحكام والتشابه، وجعل كلّا منهما وصفا لبعض الآيات دون بعض.
هذه الآية هي موضوع حديثنا، وهي تفيد أن القرآن الكريم يشتمل على المحكم والمتشابه معا، وقد اختلف العلماء في تحديد معناهما الاصطلاحي، وسأذكرها دون تعرض للأقوال التي لا تستند إلى دليل، ولا إلى المناقشات التي يطول استقصاؤها، فقد بلغت عند بعض العلماء مئات من الصفحات، ومن أراد معرفتها فليرجع إلى ما كتب فيها من المطولات (2).
القول الراجح: أن المحكم ما ظهر معناه وانكشف انكشافا يرفع الاحتمال، ومثاله: قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275]. وقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3]. وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38].
وأما المتشابه المقابل للمحكم في هذه الآية: فهو: (ما احتمل أكثر من معنى) فمعرفة المعنى تحتاج فيه إلى التدبر والتأمل، ومن العلماء من يرى أن المتشابه مما استأثر الله بعلمه ولا سبيل لأحد إلى معرفته.
(1) التفسير الكبير 7/ 167، ط 2 دار الكتب العلمية طهران وكذلك جامع البيان والبحر المحيط في تفسير الآية نفسها.
(2)
متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار تحقيق عدنان زرزور، وانظر المحكم والمتشابه رسالة دكتوراه للأستاذ إبراهيم خليفة.
ويرجع سبب الخلاف بين العلماء إلى تغاير أفهامهم لمعنى الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: 7].
يرى بعض العلماء الوقف على قوله تعالى: .. يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ..
[آل عمران: 7].
والواو في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، هي واو الاستئناف، والراسخون مبتدأ، وخبره يقولون آمنا به، وعلى هذا القول ينحصر دور الراسخين في القول آمنا به، وردّوا احتمال كون الواو للعطف لاقتضاء ذلك أن نعرب يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا، مع أنه يستحيل أن تكون حالا من المعطوف عليه، وهو (الله)، والمعطوف (الراسخون) إذ كيف يقول الله معهم آمنا به؟.
وقد ذهب إلى هذا المعنى أبيّ بن كعب وابن مسعود بل نسبه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس وقال: إنه كان يقرأ هذه الآية: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. ويقف على لفظ الجلالة (الله).
قال الخطابي: وما يعلم تأويل المتشابه إلّا الله وحده منفردا بعلمه.
وذهب بعض العلماء إلى عدم الوقف على كلمة الله، فالواو في كلمة (والراسخون) واو العطف واستدلوا على ذلك:
1 -
أن الأصل في الواو هو العطف، أما الاستئناف فذلك لا يكون إلّا إذا انتهى الكلام الأول وانتهى معناه، ثم يستأنف بكلام جديد ومعنى جديد، والكلام هنا لم ينته لفظا ولا معنى، فلا تكون الواو للاستئناف، ومما يؤيد ذلك تواتر القراءة، وبها قرأ حفص بعدم الوقوف على لفظ الجلالة.
2 -
أما الاعتراض بأن قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يكون حالا عن المعطوف والمعطوف عليه، وإن ذلك غير جائز في حق الله، فقد أجابوا عن ذلك بأن قوله تعالى: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ هو حال للمعطوف دون المعطوف عليه، خصوصا إذا
وجدت قرينة تدل على ذلك فإنها تنصرف إلى المعطوف فقط دون المعطوف عليه، كما في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22].
فكلمة صفّا حال تخص المعطوف (والملك) دون المعطوف عليه (ربّك). وكما في قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً .. [الأنبياء: 72].
فإن نافلة حال من يعقوب، أي من المعطوف دون المعطوف عليه.
3 -
وأوضح دليل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل القرآن ما روي عن ابن عباس في هذه الآية أنه كان يقول: (أنا ممن يعلم تأويله) وهو يصدق دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (1). ونسبة هذا القول لابن عباس، أي: العلم بالمتشابه أصح سندا من نسبة القول السابق إليه، أي عدم العلم بالمتشابه.
كما روي عن مجاهد أنه كان يقول بمثل قول أستاذه ابن عباس في العلم بالمتشابه.
4 -
إن ذكر الراسخين في العلم في هذه الآية كان لمزية عن سائر الناس، وهذه الميزة لا تكون إلّا إذا كان لهم علم بالمتشابه.
على أن جملة (يقولون آمنا به) مع ذلك لا يتعين أن تكون حالا، بل يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا، أي: واقعة في جواب سؤال مقدر كأن قائلا قال: (ما حال أولئك الراسخين الذين شرفوا من دون سواهم من الخلق بعلم تأويل المتشابه، هل غرّهم علمهم هذا أم لم يعطوا هذا العلم حقه فأنكروا مقتضاه أم ماذا؟! فكان الجواب: يقولون آمنا به .. إلخ، وعلى هذا التأويل فهم يعلمون كذلك تأويل المتشابه، هذا كله على كون الواو للعطف.
(1) رواه أحمد في مسنده 4/ 127 ح 2397 ولفظه «اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» وإسناده صحيح، والحديث في مجمع الزوائد 9/ 267، وعزاه لأحمد والطبراني.
ولبعض الباحثين القائلين بعلم الراسخين بتأويل المتشابه رؤية أخرى، تتمثل في أنه حتى على فرض لزوم الوقف على لفظ الجلالة، وكون الواو للاستئناف، فإن الآية لا تقتضي جهل الراسخين بالتأويل، من منطلق أن المعنى حينئذ يمكن أن يكون في هذه الجملة (وما يعلم تأويله) علما شاملا محيطا غير مكتسب إلّا الله، فلا ينافي ذلك علم غيره بالتأويل لكن لا على هذا الوجه التام المحيط غير المكتسب.
فعلى هذا، فالآية تخبر عن الراسخين في العلم بأنهم يقولون: آمنا به، ولم تتعرض إلى علمهم ولا إلى عدم علمهم، فهذه قضية مسكوت عنها في الآية، فكونهم يعلمون أو لا يعلمون مما يحتاج إلى دليل مستقل، وقد وجد من الأحاديث ما يدل على علمهم.
مما تقدم يتضح أنه ليس في القرآن متشابه بمعنى الذي لا يفهم معناه، لأن اشتمال القرآن على شيء غير مفهوم يخرجه عن كونه بيانا للناس، وهو خلاف ما أخبر الله به.
أما تفسير بعض العلماء للمتشابه بأنه لا يعلم، وأنه مما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وعلم الغيب وغير ذلك فإننا نقول لهم: إننا معكم أن هذا مما لا يعلمه إلّا الله، ونحن نسلم بذلك، ولكن تفسير المشابه بذلك مما لا نسلّمه.
وبعد: فإن هذا هو الرأي الذي تستريح إليه النفس لقوة حجته، ونصوع برهانه، أما نسبة القول إلى ابن مسعود وأبيّ فإنها لم تصح في مستدرك الحاكم.
كذلك الزعم بأن ابن عباس قال مثل قولهم غير صحيح، بل الأصح أن ابن عباس على خلاف قولهم، وقد تبنى رأيه تلميذه ابن مجاهد الذي قال بقول أستاذه:
(أنا ممن يعلم تأويله).
ولقد أيد هذا الرأي علماء أفذاذ كالإمام النووي الذي قال بأنه الأصحّ، لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.
كما اختاره ابن قتيبة وقال: (ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوّليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلّا لينفع عباده ويدل على معنى أراده).
ثم قال: (وهل لأحد أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه، وإذا جاز أن يعرفه مع قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته فقد علم عليّا التفسير، ودعا لابن عباس فقال:«اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين» . وذكر بعد ذلك أنه لم ير المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن، وقالوا:
هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور.