الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول الجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
لقد جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حفظا وكتابة، أما حفظه في الصدور فقد تجلى في حفظ النبي صلى الله عليه وسلم لهذا القرآن، فقد كان يتشوق
ويتلهف لنزول الوحي، فما إن ينزل بالآيات إلّا ويعجل النبيّ صلى الله عليه وسلم بحفظها، لذا طمأنه الله سبحانه وأرشده إلى عدم الإسراع والتعجل بالقرآن قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 16 - 19].
وقال تعالى: .. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ .. [طه: 114].
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم جامع القرآن في قلبه الشريف، وسيد الحفاظ في عصره المنيف، ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن، وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الناس على مكث، كما أمره مولاه، وكان جبريل يعارضه إياه في كلّ عام مرة، وعارضه إياه في العام الأخير مرتين.
قالت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضنا العام مرتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي» (1).
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد أخذ القرآن قلوبهم، فأخذوا يتسابقون في حفظه- أحيوا ليلهم وسمع لبيوتهم في غسق الدجى كدوي النحل بالقرآن. بل عرفت منازلهم من سماع تلاوتهم للقرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل،
(1) مناهل العرفان، 1/ 234. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ح (3624) ومسلم (2450) (99).
وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (1)، هذا ليلهم، أما نهار الصحابة في المسجد، فكان يسمع لهم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا، ومن هنا كان عدد الحفاظ من الصحابة رضوان الله عليهم كثيرا، أشهرهم الخلفاء الأربعة والعبادلة وعمرو بن العاص وابن الزبير ومعاوية وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة، وغيرهم من المهاجرين، ويكفي أن نعلم من كثرتهم أنه قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة مثلهم أي أربعون ومائة (2).
أما الحفظة من الأنصار فهم كثيرون، أشهرهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو زيد (وهو قيس بن السكن).
يتضح لنا أن الحفاظ كثيرون، وقد زادوا على حد التواتر، ومع ذلك فقد أثار أعداء الإسلام- قديما وحديثا- شبهة مفادها أن الحفظة من الصحابة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتمسكوا بأثر رواه البخاري وغيره، وظنوا أن هذا مستمسك لهم، وما هو بذلك؛ وقد رد علماؤنا كيدهم إلى نحورهم.
أما الأثر فما ورد في صحيح البخاري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه أنه قال: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد)(3). فقد زعموا أن هؤلاء الأربعة هم الحفظة ولا أحد غيرهم ظنا منهم أن الحصر في هذا الأثر حصر حقيقي.
والواقع أن هذا الحصر نسبي لا حقيقي، ويدلنا على ذلك ما رواه أنس بن مالك نفسه، وقد سأله قتادة عن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد)(4).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، (4232)، ومسلم (2499)(166).
(2)
هذه الأسماء قد وردت في أحاديث صحيحة. وانظر: المرشد الوجيز، لأبي شامة، ص 40 - 42.
(3)
صحح البخاري. كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ح (5004).
(4)
صحيح البخاري ح (5003).
فقد ذكر في هذه الرواية أربعة، غير أنه ذكر أبيّ بن كعب بدلا من أبي الدرداء في الرواية الأولى. وهو صادق في كلتا الروايتين، لأنه لا يعقل أن يكذب نفسه، فتعيّن أنه يريد من الحصر الذي أورده الحصر الإضافي، فمرة ذكر أبا الدرداء، ومرة ذكر أبيّ بن كعب، وهذا التوجيه وإن كان بعيدا، إلّا أنه يتعين المصير إليه جمعا بين هاتين الروايتين، وبينهما وبين روايات ذكرت غير هؤلاء. ومن هنا قال المازري: لا يلزم من قول أنس- رضي الله عنه: (لم يجمعه غيرهم). أن الواقع كذلك في الأمر نفسه، لأنه لا يمكن الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في الأمصار، ولم يتمّ له ذلك إلّا إذا كان قد لقي كل واحد منهم، وأخبر عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البعد في العادة (1)، وكيف يكون الواقع ما ذكر، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خذوا القرآن عن أربعة: عن عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب» (2). والأربعة المذكورون منهم اثنان من المهاجرين وهما الأولان، واثنان من الأنصار وهما الأخيران. اهـ.
ولعل مراد المازري بهذا نفي الحصر الحقيقي وتوجيه الحصر الإضافي، ويؤكد ذلك حديث آخر رواه ابن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي قال:(جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري).
وهناك أجوبة كثيرة عن هذه الشبهة، وقد أجاب الإمام أبو بكر الباقلاني بأجوبة ثمانية، ولكن ابن حجر ضعفها، وغيره فندها.
ونكتفي في النهاية بكلمة للمازري حيث يقول: (وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه، فإنا لا نسلّم حمله على ظاهره، سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله، أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير.
(1) فتح الباري 9/ 66 شرح الحديث (5004).
(2)
صحيح البخاري ح (3808).
وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكلّ الكلّ ولو على التوزيع كفى) (1).
قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في بئر معونة مثل هذا العدد، قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم (2).
هذا عن جمع القرآن حفظا وتلاوة، أما الجمع بمعنى كتابة القرآن وتدوينه، فلم تكن عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بحفظ القرآن واستظهاره لتمنعهم من توثيق القرآن بكتابته وتدوينه، فقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتبة للوحي، منهم زيد بن ثابت وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وثابت بن قيس وخالد بن الوليد، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من حضر منهم بالكتابة لما ينزل عليه من القرآن، فيكتب الكاتب: إما على العسب أو اللخاف أو الرقاع أو قطع الأديم أو عظام الأكتاف والأضلاع (3). ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مجموعا في صحف قال تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة: 2].
أي يقرأ قراطيس مطهرة من الباطل، فيها مكتوبات مستقيمة قاطعة بالحق والعدل.
وقال أيضا: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ 11 فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ 12 فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ 13 مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ 14 بِأَيْدِي سَفَرَةٍ 15 كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 11 - 16].
أي أن هذه تذكرة مثبتة في صحف مكرمة عند الله، مرفوعة المقدار منزهة عن أيدي الشياطين، قد كتبت بأيدي كتبة أتقياء، وما كتب بالصحف كان مؤلفا.
(1) فتح الباري 9/ 66 شرح الحديث (5004).
(2)
الجامع لأحكام القرآن 1/ 57.
(3)
العسب: بضم العين والسين- جمع عسيب- وهو جريد النخل كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. اللخاف: بكسر اللام جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء: وهي الحجارة الرقيقة، قال الخطابي: صفائح الحجارة، والرقاع، جمع رقعة: وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد. والأديم: الجلد. والأكتاف: جمع كتف، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. (انظر القرطبي، 1/ 50).
روي عن ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهم أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب، فقال: «ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» (1).
وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع (2).
خلاصة ما تقدم أن القرآن الكريم قد حفظ في صدور الكثير من الصحابة. وقد كتب القرآن كله، فتحقق جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حفظا وكتابة في الصدور وفي السطور، سئل محمد بن الحنفية ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(ما ترك إلّا ما بين الدفتين، أي: القرآن).
يتضح مما تقدّم أن تواتر القرآن، وقطعيته في الحفظ والرواية دون الكتابة التي لم تتواتر كما هو معروف من أمر كتبة الوحي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بعض من يكتب عنده، وربما كتب الواحد والاثنان أو دون العدد الذي يتحقق به التواتر.
(1) أخرجه أحمد 1/ 57، 69، وأبو داود (786)، والترمذي (3086)، والنسائي في «فضائل القرآن» (32)، وقال الحاكم في المستدرك 2/ 230: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(2)
أخرجه أحمد 5/ 184 و 185، والترمذي (3954)، والحاكم في «المستدرك» 2/ 229 وقال:
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.