الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسا: العلم بالأحاديث النبوية المفسرة للآيات القرآنية
.
سادسا: العلم بتفسير الصحابي:
سلف تفصيله في مصادر التفسير (1).
هذه أهم العلوم فيمن فسر دون معرفتها فقد ضل، وهناك علوم أخرى كعلم الموهبة. والامتلاء من العلوم العديدة والمفيدة، للاقتدار على تحصيل التفسير، فإنه كما قال ابن أبي الدنيا عن تفسير القرآن (ما يستنبطونه بحر لا ساحل له) ولكن ما ذكرناه كالآلة للمفسر لا يكون مفسرا إلّا بتحصيلها، ويحسن بنا أن نذكر لك ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تخصيص بعض العلوم التي يحتاج إليها المفسر، فإن فيها إيضاحا وإضافة مفيدة لما ذكرناه لك.
قال رحمه الله: (للتفسير مراتب أدناه أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه هي التي قلنا إنها
متيسرة لكل أحد: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17].
وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلّا بأمور:
أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة، التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، ومن ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا، أو على وجه الخصوص، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53].
فما هذا التأويل؟ يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ليفرق بينهما وبين ما ورد في الكتاب، فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى.
(1) ص 239.
فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضا، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب، فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب (المعاني والبيان) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.
ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مسددين في النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلّا وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء العرب أشدّ عجمة من العجم عند ما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيا ذاتيا لما فقدوه في مدة خمسين سنة بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يبين في غيره، بيّن فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهية في البشر، وقص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسننه فيها، فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعزّ وذلّ، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير، علويه وسفليه، ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .. [البقرة: 213].
وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا، وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها، وهل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمالي صادر عمن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي، أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها، إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟
هل يكتفى من علماء القرآن- دعاة الدين والمناضلين ضد التقليد- بأن يقولوا تقليدا لغيرهم: إن الناس كانوا على باطل، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟
كلا.
وأقول الآن: يروى عن عمر أنه قال: (إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة) اهـ.
والمراد: أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر، ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور، ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذي يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو؛ لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر، وتأثير تلك الآداب ومن أين جاءت.
خامسها: العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها. اهـ (1).
هذه عبارة الأستاذ الشيخ رشيد رضا بنصها، وفيها تركيز وإدماج لبعض ما قلناه من قبل، وفيها شرح وإيضاح لبعض آخر منه، وهي تلقي ضوءا على ما تقدم.
وتوضح بعض ما فيه من إيجاز.
(1) تفسير المنار، 1/ 21 - 24.