المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: أول ما نزل من القرآن إطلاقا: - المنار في علوم القرآن مع مدخل في أصول التفسير ومصادره

[محمد علي الحسن]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌بين البرهان والإتقان في علوم القرآن

- ‌الفصل الأول القرآن الكريم

- ‌المبحث الأول تعريف القرآن لغة وشرعا

- ‌1 - المعنى اللغوي:

- ‌2 - المعنى الشرعي:

- ‌المبحث الثاني أسماء القرآن

- ‌الفرق بين القرآن والحديث القدسي:

- ‌المبحث الثالث لغة القرآن

- ‌المناقشة والرد والنقض لهذه الأدلة:

- ‌المبحث الرابع إعجاز القرآن

- ‌وجه الإعجاز القرآني:

- ‌الإعجاز العلمي:

- ‌وجوه فاسدة في إعجاز القرآن (القول بالصّرفة)

- ‌المبحث الخامس ترجمة القرآن

- ‌حكم قراءة الترجمات القرآنية في الصلاة:

- ‌المبحث السادس القصة في القرآن

- ‌الفصل الثاني الوحي

- ‌المبحث الأول تعريف الوحي لغة وشرعا

- ‌1 - المعنى اللغوي:

- ‌2 - المعنى الشرعي:

- ‌المبحث الثاني دليل الوحي

- ‌المبحث الثالث مراتب الوحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومظهر النبيّ مع تلك المراتب

- ‌الفصل الثالث نزول القرآن

- ‌تمهيد نزول القرآن [منجما]

- ‌معنى نزول القرآن:

- ‌كيفية نزول القرآن وحكمة تنجيمه:

- ‌هل للقرآن نزول آخر غير المعروف على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول أول وآخر ما نزل من القرآن

- ‌أولا: أول ما نزل من القرآن إطلاقا:

- ‌ثانيا: آخر ما نزل من القرآن إطلاقا:

- ‌موقف العلماء من هذه الأقوال:

- ‌شبهات في آخر ما نزل من القرآن:

- ‌خطأ شائع في ادعاء أن آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هي آخر ما نزل:

- ‌المبحث الثاني المكي والمدني من القرآن المراد بالمكي والمدني:

- ‌الطريق لمعرفة المكي والمدني:

- ‌مميزات المكي والمدني:

- ‌أما السور المدنية فأهم مميزاتها:

- ‌المبحث الثالث نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ما يستفاد من هذه الأحاديث:

- ‌معنى الأحرف السبعة

- ‌المعنى اللغوي:

- ‌المعنى الاصطلاحي للأحرف السبعة:

- ‌المبحث الرابع القراءات القرآنية

- ‌أولا: تعريف القراءات:

- ‌معناها اللغوي:

- ‌معناها الاصطلاحي:

- ‌نشأة القراءات:

- ‌أركان القراءات

- ‌1 - صحة السند:

- ‌2 - موافقة القراءة للرسم العثماني:

- ‌3 - موافقة القراءة للغة:

- ‌نظرة في الأركان:

- ‌أشهر القراء من الصحابة:

- ‌أشهر القراء التابعين:

- ‌القراءة السبعة وغيرهم:

- ‌ القراء السبعة

- ‌1 - نافع:

- ‌2 - ابن كثير:

- ‌3 - أبو عمرو البصري:

- ‌4 - ابن عامر الشامي:

- ‌5 - عاصم الكوفي:

- ‌6 - حمزة الكوفي:

- ‌7 - الكسائي الكوفي:

- ‌تمام القراء العشرة:

- ‌8 - أبو جعفر المدني:

- ‌9 - يعقوب البصري:

- ‌10 - خلف البزار:

- ‌تمام القراء الأربعة عشر:

- ‌11 - الحسن البصري:

- ‌12 - ابن محيصن:

- ‌13 - يحيى اليزيدي:

- ‌14 - الأعمش:

- ‌حكم ما رواء العشرة:

- ‌المبحث الخامس أسباب نزول

- ‌لمحة تاريخية سريعة عن هذا العلم

- ‌أولا- تعريف أسباب النزول:

- ‌ثانيا: الألفاظ الدالة على سبب النزول:

- ‌ثالثا: طريق معرفة أسباب النزول:

- ‌فوائد أسباب النزول:

- ‌من هذه الفوائد:

- ‌حالات تعدد روايات أسباب النزول

- ‌الفصل الرابع جمع القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول الجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌كيفية جمع زيد للقرآن (في عهد أبي بكر):

- ‌المبحث الثالث الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌ما يستفاد من هذه الرواية:

- ‌المبحث الرابع ترتيب الآيات والسور القرآنية

- ‌أولا: ترتيب الآيات:

- ‌معنى الآية لغة:

- ‌حكم ترتيب الآيات:

- ‌ثانيا- السور القرآنية:

- ‌حكم ترتيب السور القرآنية

- ‌في ترتيب السور ثلاثة آراء:

- ‌1 - ترتيب جميع السور توقيفي

- ‌2 - ترتيب جميع السور اجتهادي

- ‌3 - ترتيب بعض السور توقيفي وبعضها الآخر اجتهادي

- ‌المبحث الخامس رسم المصحف

- ‌شكل المصحف وإعجامه

- ‌الفصل الخامس من مباحث علوم القرآن

- ‌المبحث الأول العامّ والخاصّ

- ‌المبحث الثاني المطلق والمقيّد

- ‌متى يحمل المطلق على المقيد:

- ‌المبحث الثالث المنطوق والمفهوم

- ‌1 - المنطوق:

- ‌2 - المفهوم:

- ‌ما لا يعمل به مفهوم المخالفة:

- ‌المبحث الرابع التعريف بالنسخ

- ‌معنى النسخ لغة:

- ‌معنى النسخ شرعا:

- ‌ما يستفاد من هذا التعريف:

- ‌دليل مشروعية النسخ:

- ‌المنكرون للنسخ:

- ‌طريق معرفته:

- ‌أنواع النسخ:

- ‌1 - منسوخ الحكم دون التلاوة:

- ‌2 - منسوخ التلاوة دون الحكم:

- ‌3 - منسوخ التلاوة والحكم معا:

- ‌النسخ بين مصادر التشريع الإسلامي:

- ‌شبهة مردودة في هذا النوع من النسخ:

- ‌«كلمة أخيرة لا بد منها» [في الفرق بين النسخ والتخصيص والتقييد]

- ‌المبحث الخامس المحكم والمتشابه

- ‌مدلولهما اللغوي:

- ‌مدلولهما الاصطلاحي:

- ‌منشأ التشابه

- ‌الفصل السادس أصول التفسير ومصادره

- ‌المبحث الأول معنى التفسير والتأويل

- ‌معناهما اللغوي:

- ‌معناهما الاصطلاحي:

- ‌تعريف التفسير كفن مدون:

- ‌المبحث الثاني لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وتطوره

- ‌تاريخ التفسير ومراحل تطوره:

- ‌ الدور الأول

- ‌ الدور الثاني

- ‌وأشهر المفسرين من الصحابة:

- ‌1 - ابن عباس رضي الله عنهما:

- ‌2 - علي بن أبي طالب:

- ‌ الدور الثالث-- التفسير في عهد التابعين

- ‌ مدارس التفسير

- ‌1 - مدرسة مكة:

- ‌2 - مدرسة المدينة:

- ‌3 - مدرسة العراق:

- ‌تدوين التفسير:

- ‌المبحث الثالث مصادر التفسير

- ‌المصدر الأول القرآن الكريم

- ‌كيف تتم عملية تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌أظهر صور تفسير القرآن للقرآن:

- ‌المصدر الثاني سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌القدر الذي بينته السنّة من القرآن:

- ‌(فصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن)

- ‌مناقشة الأدلة التي استشهد بها القائلون بشمول البيان النبوي:

- ‌المصدر الثالث أقوال الصحابة

- ‌موقفنا من اختلاف الصحابة في التفسير:

- ‌المصدر الرابع الرأي أو الاجتهاد

- ‌أدلة المجيزين للتفسير بالرأي:

- ‌أما أدلة المانعين فقد استدلوا:

- ‌المصادر المعتلة في التفسير الإسرائيليات

- ‌كيف تسربت الإسرائيليات إلى التفسير:

- ‌حكم التفسير بالإسرائيليات

- ‌المبحث الرابع شروط المفسر

- ‌أولا: علوم اللغة العربية:

- ‌ومن أهم علوم اللغة العربية:

- ‌أ- علوم النحو:

- ‌ب- علم الصرف:

- ‌ج- الاشتقاق:

- ‌د- علوم البلاغة:

- ‌ثانيا: علم أصول الفقه:

- ‌ثالثا: علم أصول الدين ويطلق عليه علم الكلام:

- ‌رابعا: علوم القرآن:

- ‌أ- علم القراءات:

- ‌ب- أسباب النزول:

- ‌ج- الناسخ والمنسوخ:

- ‌د- علم القصص:

- ‌خامسا: العلم بالأحاديث النبوية المفسرة للآيات القرآنية

- ‌سادسا: العلم بتفسير الصحابي:

- ‌المبحث الخامس أنواع التفسير

- ‌أولا: التفسير بالمأثور

- ‌أشهر المفسرين في التفسير بالمأثور:

- ‌1 - الطبري (224 - 310 ه

- ‌مكانته العلمية:

- ‌طريقته في التفسير:

- ‌2 - ابن عطية الأندلسي

- ‌مكانته العلمية:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌التفسير بالمأثور والرأي- عند ابن عطية:

- ‌ومن أمثلة التفسير بالمأثور عنده:

- ‌تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌ومثال تفسير القرآن بالحديث:

- ‌اهتمامه بالقراءات:

- ‌عرضه للأحكام الشرعية:

- ‌ردّه للإسرائيليات:

- ‌قيمة تفسير ابن عطية:

- ‌3 - السمرقندي: (…- 373 ه

- ‌طريقته في التفسير:

- ‌4 - الثعلبي: (…- 427 ه

- ‌التعريف بتفسيره «الكشف والبيان عن تفسير القرآن» وطريقته في التفسير:

- ‌موقفه من الإسرائيليات:

- ‌5 - ابن كثير: (700 - 774 ه

- ‌مكانته العلمية:

- ‌التعريف بتفسيره (تفسير القرآن العظيم) وطريقته فيه:

- ‌موقفه من الإسرائيليات:

- ‌6 - الثعالبي: (…- 876 ه

- ‌التعريف بتفسيره (الجواهر الحسان) وطريقته فيه:

- ‌7 - السيوطي: (849 - 911 ه

- ‌التعريف بتفسيره (الدر المنثور في التفسير المأثور):

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌ثانيا- التفسير بالرأي والدراية

- ‌أهم كتب التفسير بالرأي:

- ‌1 - الزمخشري (467 - 538 ه

- ‌التعريف بتفسيره (الكشاف) وطريقته فيه:

- ‌اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن:

- ‌مبدأ الزمخشري في التفسير عند ما يصادم النص القرآني مذهبه:

- ‌انتصاره لعقائد المعتزلة:

- ‌انتصاره لرأي المعتزلة في أصحاب الكبائر:

- ‌انتصاره لمذهب المعتزلة في الحسن والقبح العقليين:

- ‌حملة الزمخشري على أهل السنة:

- ‌موقف الزمخشري من المسائل الفقهية:

- ‌موقف الزمخشري من الإسرائيليات:

- ‌2 - الرازي وتفسيره مفاتيح الغيب (543 - 606 ه

- ‌3 - أبو حيان وتفسيره البحر المحيط:

- ‌مكانته العلمية:

- ‌منهجه في تفسير البحر المحيط:

- ‌عنايته باللغة والنحو:

- ‌عنايته بالقراءات المتواترة والشاذة:

- ‌اهتمامه بالأحكام الفقهية:

- ‌موقفه من الإسرائيليات والرد على الفرق:

- ‌رده على الفرق الإسلامية:

- ‌ثالثا: التفسير الإشاري

- ‌كتب التفسير الإشاري:

- ‌1 - النيسابوري:

- ‌2 - تفسير التستري:

- ‌3 - تفسير الفتوحات المكية لابن عربي:

- ‌4 - الألوسي:

- ‌نصيحة خالصة:

- ‌رابعا: التفسير الفقهي لآيات الأحكام

- ‌أولا: أحكام القرآن للجصاص (305 - 370 ه

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌ثانيا: أحكام القرآن لإلكيا الهراسي الشافعي (450 - 540 ه

- ‌ثالثا: أحكام القرآن، لابن العربي:

- ‌مكانته العلمية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌ظاهرة التعصب للمالكية عند ابن العربي:

- ‌إنصافه لمخالفيه أحيانا:

- ‌موقفه من الإسرائيليات:

- ‌رابعا: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي

- ‌مكانته العلمية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌منهجه في التفسير:

- ‌منهجه في التفسير الأخذ بالمأثور والرأي:

- ‌موقفه من القراءات المتواترة والشاذة:

- ‌احتكامه إلى اللغة والنحو:

- ‌اهتمامه بالأحكام الفقهية والأصول:

- ‌ظاهرة التعصب المذهبي:

الفصل: ‌أولا: أول ما نزل من القرآن إطلاقا:

‌المبحث الأول أول وآخر ما نزل من القرآن

ليس من غرضنا في هذا البحث بيان أول ما نزل وآخر ما نزل في موضوعات معينة، إذ إن هذا يحتاج إلى جهد عظيم، بل إلى تكاتف الجهود في إخراج مثل هذه الدراسة الجديرة بكل عناية ورعاية، وقد حاول الشيخ محمد عزة دروزة في كتابه التفسير الحديث الذي جعل محوره العناية بالتتبع التاريخي لنزول القرآن ولكنه إذ قارب من ترتيب السور نزولا إلا أن متابعة الآيات حسب نزولها التاريخي ما زال بينه وبين ذلك بون شاسع.

إن مدار البحث في معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل إنما هو البحث عن الرواية والنقل، ولا مجال للعقل فيه إلا بمقدار الجمع أو الترجيح عند اختلاف النقل.

‌أولا: أول ما نزل من القرآن إطلاقا:

1 -

أصح الأقوال وأقواها أن أول ما نزل هو الآيات الخمس في صدر سورة العلق، كما روى ذلك الإمام البخاري ومسلم عن عائشة- رضي الله عنها قالت (1): أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء. فكان يأتي حراء فيتحنث (2) فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني (3). حتّى بلغ مني الجهد، ثم

(1) صحيح البخاري. كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي ح (3)، ومسلم في كتاب الإيمان. باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 139 ح (160)(252).

(2)

يتحنث: يتعبد.

(3)

ضمني وعصرني.

ص: 79

أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5].

بهذه الآيات الخمس استهل نزول القرآن ليعلمنا أن العلم والتعلم والكتابة بالقلم هي الوسيلة التي لا وسيلة غيرها لتبليغ هذه الرسالة في مقتبل عمرها، وقد أصبح معلوما بل بدهيا أن هذه الآيات الخمس هي أول ما نزل من القرآن.

2 -

القول الثاني: روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله أن أول ما نزل هو سورة المدثر، وأسوق إليك هذه الروايات بطولها دون اختصار لسندها ومتنها لحكمة مقصودة قصدها الإمام البخاري من تعداده للطرق واختلاف الرواة.

فقد رواه أولا- عن يحيى بن موسى البلخي، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1].

قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئا، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبّوا عليّ ماء باردا، قال: فدثروني، وصبوا عليّ ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1 - 2]» (1).

ورواه ثانيا- عن محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره- أي أبو داود الطيالسي- قالا: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث نفسه (2).

(1) فتح الباري 8/ 676. ح (4922).

(2)

المرجع السابق ح (4923).

ص: 80

ورواه ثالثا- فقال: باب قوله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى، قال: سألت أبا سلمة: أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلت:

أنبئت أنه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، قال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبّوا عليّ ماء باردا» .

«وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» (1).

ورواه رابعا- فقال: باب وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه:«فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء، جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثوت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني» ، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2).

ورواه خامسا- فقال: باب وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وحدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن عقيل، قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: «فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثوت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت: زملوني، زملوني، فزملوني» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ.

(1) فتح الباري 8/ 676. ح (4924).

(2)

المرجع السابق. ح (4925).

ص: 81

قال أبو سلمة، ثم حمي الوحي وتتابع (1).

هذا الصنيع الذي نهجه الإمام البخاري في سوقه روايات القصة عجيب، ولعله من أسرار جامعه التي لم يسبر غورها، فالقصة واحدة تدور رواياتها كلها حول موضوع واحد، والسائل في الروايات الثلاث الأولى واحد، وهو يحيى بن أبي كثير، والمسئول فيها واحد، هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والمجيب فيها واحد، هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.

وفي الرواية الرابعة والخامسة لم يذكر يحيى بن أبي كثير، وإنما ذكر فيهما ابن شهاب الزهري مخبرا عن أبي سلمة بما حدثه به جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد استعصى على الباحثين تأويل هذه الأحاديث المروية عن جابر، فمنهم من أبقاها على التعارض، وجزم بخطإ جابر، كما ذهب إلى ذلك الإمام النووي الذي جازف فحكم على هذه الأحاديث الثابتة في صحيحي البخاري ومسلم بأنها باطلة، ومقام النووي في فضله وعلمه بالسنة النبوية، ودرجات الحديث صحة وضعفا، وورعه وفقهه في الدين كان يقتضيه التريث والتعمق في تطلب مخارج لهذا الحديث، وعدم بت الحكم في بطلان هذه الأحاديث، على أن للحديث مخارج تحميه من مثل هذه الأحكام المتسرعة، ومن العلماء من حاول الجمع بين حديث عائشة وحديث جابر.

ومن المحاولات الضعيفة في الجمع بينهما ما قاله الحافظ جلال الدين السيوطي في الإتقان من أن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبين جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ (2).

وهذا القول يبطله ما ثبت في الصحيحين أن سورة المدثر لم تنزل بتمامها وكمالها بل نزلت متفرقة حتى قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ.

أما الكرماني فرد على حديث جابر قائلا: إن جابرا استخرج ذلك باجتهاده وليس من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة. وهذه أقوال لا تستند إلى دليل، ونحن إذا

(1) المرجع السابق ح (4926).

(2)

. 1/ 69.

ص: 82

تأملنا الأحاديث نجد أن الأمر لا يدعو إلى الحيرة والدهشة، فالأحاديث قد قررت الحقائق التالية كما يقول أستاذنا محمد الصادق عرجون:

أولا: أن الروايات الثلاث الأولى كانت عن أول ما نزل من القرآن والجواب فيها كان من أبي سلمة بأن أول ما نزل، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وجاءت معارضة يحيى بن أبي كثير لأبي سلمة، بذكره له ما هو متداول عند أهل العلم بأن أول ما نزل من القرآن:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وبيان أبي سلمة بأن جابرا قد قال له مثلما قال، وساق له حديث تجلي جبريل وهو يناديه.

ثانيا: أن الرواية الرابعة والخامسة تفيد أن الزهري أخبره أبو سلمة وسمع منه ما حدثه به جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، وقد جاء فيه «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس بين السماء والأرض» .

ثالثا: أن جابرا رضي الله عنه لم يتعرض في حديثه إلى نفي أو إثبات أن قرآنا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل فترة الوحي، ولم يتعرض في حديثه لأبي سلمة لقصة غار حراء قبل فترة الوحي، وما جرى فيها من أحداث كانت معروفة لأهل العلم من جمهور الصحابة، وما نزل فيها من أوائل سورة العلق.

ولعل جابرا لم يكن قد وصل إلى علمه شيء من قصة حراء، وما نظن أن أحدا يزعم أن كل صحابي يجب عليه أن يحيط بجميع جزئيات وقائع الوحي.

أو لعل جابرا رضي الله عنه كان على علم بقصة الوحي في غار حراء، ولكنه لم يجعلها بمعرض حديثه لأبي سلمة في الجواب عن سؤاله، لأن هذا الحديث كان في مناسبة خاصة، هي عودة الوحي بعد فترة ولا شك أن أول ما نزل حينئذ هو: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنْذِرْ، كما يدل عليه صراحة رواية الزهري بسنديها عن فترة الوحي.

وقد حسم ابن حجر العسقلاني هذه المسألة حسما حكيما وموفقا فقال: دل قوله عن «فترة الوحي» وقوله: «الملك الذي جاءني بحراء» على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، أو ما نزل، ورواية الزهري هذه صحيحة ترفع الإشكال (1).

(1) فتح الباري 1/ 28.

ص: 83

ثم قال في تفسيره سورة اقرأ، ورواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر تدل على أن المراد بالأولية في قوله أول ما نزل سورة المدثر، أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي.

3 -

وأما ثالث الأقوال في المسألة فيقول السيوطي رحمه الله في الإتقان: (القول الثالث: سورة الفاتحة، قال في الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت «اقرأ» وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب.

قال ابن حجر: والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول.

وأما الذي نسبه الزمخشري إلى الأكثر فلم يقل به إلا أقل القليل بالنسبة إلى من قال بالأول.

حجة هذا القول ما أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة:«إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، والله خشيت أن يكون هذا أمرا» ، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، وقالت:

اذهب مع محمد إلى ورقة، فانطلقا فقصا عليه، فقال:«إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد. فأنطلق هاربا في الأفق» ، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد قل:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ .. الحديث، هذا مرسل رجاله ثقات.

قال البيهقي: إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر (1).

أما الحافظ ابن كثير رحمه الله فقد ساق الحديث في كتابه (البداية والنهاية) من رواية البيهقي وأبي نعيم في دلائلهما عن عمرو بن شرحبيل ثم قال: (هذا لفظ البيهقي وهو مرسل وفيه غرابة وهو كون الفاتحة أول ما نزل)(2).

(1) ج 1. ص 94 فما بعدها.

(2)

ج 3. ص 9 فما بعدها.

ص: 84

أقول: كون الحديث مرسلا أمارة كافية على ضعفه وعدم صلوحه للدلالة على أمثال هذه المطالب، لو استقل بنفسه، ولم يعارضه غيره، فكيف وقد عارضه غيره من حديث الشيخين السابق في أوائل هذا المبحث عن عائشة رضي الله عنها، والقاضي بأولية نجم العلق.

وبعد: فإنه لا يخفى عليك سقوط محاولة الجمع بينه وبين حديث الصحيحين، والتي حاولها البيهقي، إذ قال في النقل الآنف عنه من نص السيوطي (إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر).

أما أولا- فلأنه إنما تتحمل مئونة الجمع إذا صح الخبر المعارض لما هو مثله في الصحة أو أصح منه، والخبر هنا ضعيف لا وزن له.

وأما الثانية- فلأن في متن هذا الخبر شاهد ضعفه بل سقوطه بالكلية، أليس فيه الزعم بخشيته صلى الله عليه وسلم بسبب سماعه النداء إذا خلا وحده، بل بانطلاقه عند سماعه النداء هاربا، وأنه لم يثبت له إلا بعد أن نصح له ورقة بالثبات، فكيف يصلح هذا بأي وجه من الوجوه في عقل عاقل بعد ما قد عرف الوحي وتحقق من صدقه وحقيقته، وتمت له النبوة والرسالة جميعا بنزول نجمي العلق والمدثر معا على ما زعم هذا الجامع، فمن ثم كان الصواب كل الصواب في طرح مثل هذا الخبر بالكلية وراء

الظهر على مثل ما فعل الإمام النووي عليه الرحمة من إهماله وعدم المبالاة به أصلا، فقال، وصدق فيما قال في شرحه لمسلم:(وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر)(1).

وعلى الرغم من وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على ذي لب، أن ما بني عليه هذا القول من الشبهة هو بحيث لا يستقيم لا سندا ولا متنا.

نقول على الرغم من وضوح الأمر بالنسبة لهذا القول، فإن البعض من أهل هذا العصر، وأعنى بهذا البعض الأستاذ الإمام محمد عبده قد اقتدى بالزمخشري، ولنورد لك الآن قوله بتمامه على ما نقله عنه تلميذه الأخص صاحب المنار والذي لم ير-

(1) ج 2، ص 208.

ص: 85

على خلاف عادته- موافقة قول أستاذه للصواب، أو قل قد رأى بالفعل مجانبة أستاذه للصواب. فقال رحمه الله في أول تفسير الفاتحة: وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أن الفاتحة أول ما نزل على الإطلاق: ولم يستثن قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله:

ومن آية ذلك: أن السنة الإلهية في هذا الكون- سواء كان كون إيجاد أو كون تشريع- أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجيا، وما مثل الهدايات الإلهية إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها، ثم تنمو بالتدرج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها، ثم تجود عليك بثمرها. والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف، كقولهم إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان، ولا هو معقول في نفسه، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان.

بعد هذا الكلام المبهم، أخذ الإمام يفسر سورة الفاتحة إلى أن قال:

إن سورة الفاتحة مشتملة على ما اشتمل عليه القرآن، فلا بدّ أن تكون هي الأولى في النزول بمكة (1).

القول الرابع: ما ذكره السيوطي في الإتقان قال: وأخرج الواحدي بإسناده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وأول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وقد ردّ أستاذنا الشيخ عبد الوهاب غزلان على كلام السيوطي قائلا:«ويندفع كلام السيوطي بأن الأحاديث الصحيحة التي روي فيها نزول صدر سورة العلق لم يرد فيها ذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو قول ضعيف، ولضعفه أعرض عنه الزركشي، فلم يذكره، ولم يشر إليه، وكذلك لم يذكره النووي في شرح مسلم ولم يشر إليه عند ما ذكر الأقوال في أول ما نزل من القرآن» (2).

(1) انظر تفسير المنار لسورة الفاتحة، ج 1 ص 13، 35 - 38.

(2)

البيان ص 81 وما بعدها، ومنة المنان في علوم القرآن ج 2 ص 353 - 354.

ص: 86