الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه، من بذل النفوس، والخروج من الأوطان،
وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب، في الرأي والعقل بطبقات، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع، والمزدوج، واللفظ المنصور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم، فمحال- أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلّهم على الغلط في الأمر الظاهر، وهم أشدّ الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه. والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة!! وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه) (1).
الإعجاز العلمي:
لقد أوجد المسلمون هذا اللون المعاصر من ألوان التفسير تأكيدا لإعجاز القرآن، أو بابا جديدا من أبوابه، وتأكيدا على عدم معارضة القرآن والإسلام للعلم، حتى قام بعض المفسرين من أمثال طنطاوي جوهري بتفسير آيات الطبيعة في القرآن بحقائق العلم التجريبي ونظرياته، وذهب إلى حشو تفسيره الجواهر- بإجراء المطابقة بين كشوف الغرب العلمية وآيات القرآن الكريم- وتعسف كثيرا في إجراء هذه المطابقة في معظم الأحيان، ووصف كتابه قائلا: «بهذا الكتاب في التفسير وأمثاله سيستيقظ المسلمون سريعا، سيجيء جيل لم تشهد الأرض مثله
…
أيها المسلمون هذا هو علم التوحيد في الحقل والجبل والزرع والشجر والثمر والشمس والقمر، لا في الكتب المصنفة المشهورة، هي والله مبعدة عن حكمة الله، ومبعدة عن معرفة آياته» (2).
(1) الإتقان في علوم القرآن 4/ 5.
(2)
تفسير الجواهر 1/ 66 طبع بالقاهرة سنة 1352.
لقد أبعد الشيخ طنطاوي جوهري- رحمة الله- النجعة، ولم يتحقق له ما أمل أو أراد! لقد أصبح التفسير العلمي والإعجاز العلمي، قرينين أو شيئا واحدا في عرف كثير من الدارسين والباحثين، ورأوا فيه ميدانا ملائما للدعوة إلى الإسلام، وإقامة الدليل على أن القرآن وحي يوحى، وأنه تنزيل من حكيم حميد، في الوقت الذي ضعفت سليقة العرب اللغوية، وأضحوا غير قادرين على «تذوق الإعجاز البياني للقرآن الكريم»
…
في الوقت الذي عدّ فيه هذا «الإعجاز الجديد» قادرا على مخاطبة العرب وغير العرب، كما يقوى على إدراكه المسلمون وغير المسلمين، بل إن غير المسلمين من الأوروبيين المكتشفين للسنن، وأصحاب التقدم العلمي، يأتون في مقدمة من يعقل عن القرآن هذا الإعجاز، أو بعبارة أدق: هذا السبق العلمي الباهر الذي جاء به القرآن الكريم قبل مئات السنين.
والواقع- والقول الحق- أن الإعجاز الحقيقي في هذا الجانب، أعني جانب الحقائق العلمية عن الكون والإنسان التي أشار إليها القرآن الكريم، يكمن في طريقة القرآن في التعبير عن هذه الحقائق، لا فيما سميناه تفسيرا علميا قد نخطئ فيه أو نصيب! لقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق على نحو يفهم خلال العصور! بمعنى أن أسلوب القرآن ونظمه وبيانه- الذي جعلناه مناط الإعجاز فيما سبق- اتسع للتعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في أيّ عصر، ولا يحمله كذلك أكثر مما يطيق، هذا هو وجه الإعجاز الحقيقي في هذه المسألة.
وغني عن البيان أنه ليس في مقدور أحد من الثقلين، أن يكتب بهذه الطريقة، أو يجيء بمثل ما جاء به القرآن، وهذا هو السبب في أن القرآن الكريم فهم وفسّر خلال هذه العصور.
أما انفراد العصر الحديث- عصر الكشوف العلمية- بهذا اللون من ألوان الفهم، أو ألوان الشرح والتفسير، فيعود إلى أن إدراك المدلول (العلمي) أو الحقيقي للإشارات القرآنية المتعلقة بالطبيعة والإنسان، يتوقف على التجربة والعمل الإنساني، وعلى تطبيق المنهج القرآني في التعامل مع هذه الإشارات والظواهر، أو على الامتثال للأمر القرآني بالنظر والملاحظة والتجربة، وقد قصر المسلمون في الامتثال للمنهج العلمي الذي تضمنه القرآن الكريم ودعا إليه، بوصفه الطريق الصحيح للاكتشاف.
هذا والحديث طويل ودقيق في هذا اللون من ألوان التفسير وبيان الإعجاز، ولكن لن ننهي الحديث قبل أن نلقي الضوء- بإيجاز شديد- على شروط التفسير العلمي:
1 -
أقول أول هذه الشروط أن لا يفسّر القرآن إلا باليقينيات العلمية، أو بالحقائق الثابتة التي ارتقت مندرجة الفروض والنظريات العلمية إلى مقام اليقينيات أو «الفعل الواقع القائم» حسب عبارة موريس بوكاي، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه التغيير والتبديل (1).
مثال تطبيقي على ما سبق:
قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان: 29].
وقال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5].
إن العلم الحديث يجعلنا ندرك بسهولة كيف يتداخل كلّ من الليل والنهار في حركة الأرض حول محورها وحول الشمس الثابتة نسبيا. وربط بهذا تعدد المشارق والمغارب (2).
قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ [المعارج: 40].
فلا خلاف على جواز تفسير هذه الآيات بما يدل على كروية الأرض، والتي تمثل حقيقة علمية واقعة .. إلخ.
2 -
إن حقائق العلم لا تفسير بها المعجزات والأمور الخارقة للعادة التي نصّت عليها الآيات الكريمة نظرا لافتراق «موضوع» هذه الآيات عن آيات الكون والطبيعة وأطوار الخلق، وسائر الآيات التي يمكن الانتفاع بحقائق العلم وثوابته في تفسيرها وشرح معانيها، بل نقول أبعد من ذلك: إن الآيات القرآنية التي تحدثت عن المعجزات والخوارق لا يمكن إقحامها من باب العلم التجريبي أصلا، لأنها إنما ثبتت بمقدار مخالفة السنن والقوانين، فكيف يتأتى تفسيرها من خلال هذه السنن والقوانين.
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة تأليف موريس بوكاي ص 184 دار المعارف 1977 م.
(2)
دراسة الكتب المقدسة ص 145.
فمثلا معجزة حمل مريم بعيسى عليه السلام ليس لها تفسير علمي، بناء على سنن الحمل والولادة، ولكن هناك من تعسف في تفسير هذه المعجزة، وراح يفسرها تفسيرا علميا حسب زعمه، فقال: إن مريم خنثى، والخنثى له مبيض في جهة، وخصية في الجهة الثانية!! (1).
ولا يدري القارئ مع هذا التفسير العجيب، كيف تكون مريم وابنها آية للعالمين؟ وما معنى قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59] الآيات الدالة على المعجزة و «الاستثناء» في حمله وولادته.
ومثل هذا، أو قريب منه من تحدث عن الكهرباء، وكيف يصعق التيار الكهربائي الأحياء
…
في سياق شرحه لقوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً .. [الأعراف: 143].
ويضيف طنطاوي جوهري حديثا عن معجزة موسى التي نصّت عليها الآية الكريمة وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60].
قال: إن الله اختار الحجر ليضربه موسى بعصاه دون غيره ليلفت العقول إلى بدائع خلقه ومعجزاته في الكون، فالحرارة تحول الماء بخارا، والبرد يجمّده وهو بين الصخور فيصدعها.
ثم يمضي في تفسيره للآية 12 من سورة سبأ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 12].
يقول طنطاوي في تفسيرها: إن سليمان- عليه السلام كان له سفر هوائي منظم!! ومن ذلك يتضح أن اختراع الطائرات في هذا العصر قد سبق إليه العصر السليماني، وهذا من معجزات القرآن (2).
(1) الدكتور محمد توفيق صدقي: دروس في سنن الكائنات 1/ 15 ط 1 في مجلة المنار بمصر سنة 1333 هـ.
(2)
تفسير الجواهر 1/ 70.
ومن العجيب حقا هذا القلب للحقائق تحت عنوان التفسير العلمي، أو في سبيل حض المسلمين على الأخذ بأسباب التقدم العلمي.
3 -
ومن أصول التفسير المسلّمة أنه لا يجوز تفسير القرآن باصطلاح حادث بعد نزوله؛ لأننا لو فعلنا ذلك لعدنا على معاني القرآن بالتحوير والتبديل، أو بالإبطال والإلغاء؛ فالملائكة المسوّمون الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لا صلة لهم «بالجنود الذين يهبطون بوساطة الطائرات في الحروب الحالية» ، والغواصات التي عمّ استعمالها في جميع البحار لم تكن مستعملة في عصر سليمان عليه السلام، على خلاف (1) من استنتج ذلك من قوله تعالى: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص: 37] وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ [الأنبياء: 82] الآية.
فلا تكفي كلمة «غواص» أو «يغوصون» في سياق الحديث عن الشياطين!! للزعم بأن الغواصات التي عرفتها الحروب الحديثة كانت معروفة في عصر سليمان! وكأن عالم الشياطين- بوصفه من عالم الغيب- لا معنى له أو لا وجود له في القرآن! وكأن عصر سليمان- على عكس ما يدل عليه التاريخ- عرف هذا التقدم العلمي والسبق في ميدان الاختراع.
وأخيرا تحسن الإشارة إلى أن من أبرز الباحثين المعاصرين الذين يسارعون إلى أخذ الآية القرآنية شاهدا على صحة «نظرية» من النظريات العلمية، أو يحاولون تفسير الآية بنظرية من النظريات: عبد الرزاق نوفل، الذي كتب كثيرا من الأعاجيب، ومصطفى محمود في كتابه السقيم:«القرآن محاولة لفهم عصري» ، والدكتور جمال الدين الفندي في كتابه «الله والكون» الذي ردّ فيه كثيرا من الأحاديث! ووقع في كثير من المجاز وضروب التأويل. والله تعالى أعلم (2).
(1) علي فكري «القرآن ينبوع العلوم والفرقان» 1/ 51 ط 1 المطبعة السلفية.
(2)
هذا البحث الإعجاز العلمي من كتاب علوم القرآن للأستاذ الدكتور عدنان زرزور ونقلناه بتصرف يسير.