الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بقلم المفكر الجزائري مالك بن نبي
…
مدير التعليم العالي بالجزائر
…
ــ
عرفت مؤلف هذا الكتاب إبان دراسته في جامعة القاهرة، وكنت أعتبره في جملة أصدقائي ومستمعي من بين طلاب البلدان الإسلامية المختلفة الذين يزورون الندوة التي تعقد في منزلي يوم الجمعة من كل أسبوع.
فحين أقدم هنا لدراسة عن ابن باديس أشعر بلذة مزدوجة.
فما كان أشد إغراء مثل هذا الموضوع في بلد ما يزال من شاهد حياة الشيخ وأثره كثيراً عددهم، ولكن ما أصعبه من موضوع إذ الحقيقة أنه لا يمكن أن يخلو حكم معاصر على أحداث عهده ورجاله، من نظرة ذاتية، إلا نادراً.
وأنا نفسي أشعر بشيء من الحرج حين أقدِّم كتاباً يحوي - بالضرورة - أفكاراً وأحداثاً كنت نصيراً لها أو معارضاً.
غير أن شخصية الشيخ تجمع في طيَّاتها جوانب بلغت من التنوع والغنى مبلغاً يجعل في قدرة الباحث - دوماً - أن يتطرق إلى دراستها من زاوية تحرر الفكر من الظروف العرضية النسبية.
لقد كان ابن باديس مناظراً مفحماً، ومربياً بناَّءً، ومؤمناً متحمساً، وصوفياً والهاً، ومجتهداً يرجع إلى أصول الإيمان المذهبية، ويفكر في التوفيق بين هذه الأصول توفيقاً عزب عن الأنظار، إبان العصور الأخيرة للتفكير الإسلامي.
وهو كذلك وطني مؤمن تصدَّى عام 1936 لزعيم سياسي نشر مقالاً عنوانه: "أنا فرنسا"، فردَّ عليه ردّاً حامياً قوياًّ.
وعندما انفجرت حوادث قسنطينة الدامية في شهر آب من سنة 1934 وحاولت الإدارة أن تعيد الهدوء والاستقرار كان نصيراً لها، ولكنه لم يقبل هجوماً على الإسلام قام به يهودي منتهكاً حرمة مسجد.
والشعور الوطني المتدفق يغدو لديه فيضاً شعرياً عندما ينظم قصائده التي قُدِّر لها أن تعيد إلى الشعب الجزائري أبعاده الحقيقية في التاريخ الإسلامي، في فترة كان أطفال الجزائر يدرَّسون ويعلَّمون تاريخ "أجدادنا الغاليين".
وفوق ذلك فقد كان ابن باديس مصلحاً اقترن اسمه وأثره بتاريخ هذا البلد في مرحلة سياسية كانت تعده "للثورة"، وفي هذه الكلمة من المعاني أكثر مما تعودنا أن نفهم.
إنه المصلح الذي استعاد موهبة العالم المسلم كما كانت في عصر ابن تومرت بإفريقيا الشمالية.
فقد كان المغرب يعيش على صورةٍ ما حياة فترة العصر الذي وضعت له حداًّ نهائيّاً دعوة مهدي الأطلس المغربي، وسيف عبد المؤمن.
نحن نعلم أن عصر المرابطين شهد انزلاق الضمير الإسلامي نحو النزعة الفقهية.
فجاء ابن تومرت ارتكاساً لروح الفقهاء الضيقة، ووضعت دعوته الضمير الإسلامي في شريعة القرآن وطريق السنة.
أما ابن باديس فقد جاء في فترة جددت فيها النزعة الصوفية (المرابطية أو الطرقية) دورة المرابطين.
وهنا موضع الخطورة، ذلك أن الحلقة لم تستأنف بالفقه والرباط، بل بالتميمة والزاوية.
ولم يستطع المصلح الجزائري أن يطمح إلى تأسيس إمبراطورية تحرر الضمير.
لقد تغير الزمان: فالاستعمار والقابلية للاستعمار غيَّرا كل المعطيات في الجزائر كما فعلا ذلك في سائر العالم الإسلامي.
كانت الظروف تقتضي الرجوع في الإصلاح إلى السلف أدراجاً: إذ لم يكن القيام بأي عملٍ في النظام السياسي أو الاجتماعي ممكناً قبل تحرير الضمائر.
وكل مذهب الإصلاح الجزائري الذي تجده في ابن باديس كان لا بدَّ أن يصدر عن هذه الضرورة أو عن هذه المقتضيات الخاصة.
والمبدأ الأساسي القائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الذي كان أول خطوة في الإصلاح؛ يمكن أن يعتبر- من زاوية مَّا - ترجمة لهذه الضرورة في صيغة مذهبية.
ومن هنا نرى التقلبات التي كان يمكن أن يتعرض لها مبدأ كهذا المبدأ لدى وضعه موضع التطبيق، عندما يجد المرء نفسه - أو يظن - أنه مضطر إلى أن يتنازل للسياسة على حساب كمال المذهب ومتانته.
ونقد الحركة الإصلاحية الجزائرية كله يمكن أن يوجه نحو هذه النقطة.
ولنقل - كي نبقى ضمن موضوعنا -: إننا لم نعمد إلى الحكم على أثر ابن باديس بالمتانة العلمية التي تضع النتائج في أعقاب المقدمات، والمقدمات نفسها في مواجهة قوانين التاريخ، وعلم الاجتماع.
على أي حال فإن هذا الأثر نفسه غني في جميع جوانبه، غنى شخصية صاحبه، ويمكن أن يقف القارئ على هذا التنوع الغنيِّ. وهو يقرأ الدِّراسة التي يعرضها عمار الطالبي.
ولقد يكفي في هذه المقدمة أن نركِّز اهتمامنا في جانب من أكثر الجوانب تمييزاً لفكر ابن باديس.
أريد أن أتكلم عن الافتتاحية التي كانت ترد في مطلع كل عدد من مجلة "الشهاب" تحت عنوان "مجالس التذكير".
كان الشيخ يكتب هذه الافتتاحية دائماً: وإنها لأثر العالم الداعية، المصلح الفذ.
ولا يفوتني أن أذكر أنه عندما كان ابن باديس يتغيَّب عن قسنطينة لسبب ما، كانت المجلة تظهر بدون هذه الفاتحة التي تكوِّن حقا أمَّ كل عدد من أعدادها.
ولقد دامت هذه الفاتحة من عدد كانون الثاني 1929م إلى عدد أيلول من سنة 1939م على أبواب الحرب العالمية الثانية.
ولكي نستطيع الحكم على أهميته المذهبية والتعليمية يجب أن نحلل مجلساً من مجالسه. ويجب علينا ألا ننسى بأن الشيخ علاوة على دوره في توجيه الرأي الجزائري العام - كان كذلك المعلم الذي يدرِّس في معهد تكوَّن فيه كلُّ قادة تعليمنا الحر، وحتى شعراؤنا، مثل محمد العيد آل خليفة.
بل إن الشيخ نفسه يقدم هذا التحليل في العناوين الفرعية التي كان ينفحها كل مجلس من مجالسه، فتحت العنوان يقدم الموضوعين الأساسيين: الآية - أو الآيات - والحديث موضوعي المجلس، تليهما بعد ذلك العناوين الفرعية الخاصة بكلا الموضوعين، وهكذا نجد
على سبيل المثال - في عدد حزيران 1935م الآية:
وهي موضوع التفسير، ويستخلص الشيخ من هذه الآية خمسة عشر عنواناً فرعيّاً كما يلي:
1 -
أدب واقتداء.
2 -
بيانه لهم، حجته عليهم.
3 -
تمثيل.
4 -
أدب واقتداء.
5 -
نعمة الإظهار والبيان بالرسول والقرآن.
6 -
محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن نور وبيان.
7 -
استفادة.
8 -
اقتداء.
9 -
الهداية ونوعها.
10 -
بماذا تكون الهداية.
11 -
لمن تكون الهداية.
12 -
إلى ماذا تكون الهداية.
13 -
الإخراج من حالة الحَيْرة إلى حالة الاطمئنان.
(1) الآيتان 15، 16 من سورة المائدة.
14 -
الإسلام هو السبيل الجامع العام.
15 -
الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله لازم دائم.
وإذا طبقنا تحليلنا الخاص على هذا الموضوع رأينا أن الشيخ قد أمدَّنا من خلال تفسير هذه الآية، بصورة ما، بطيف ذاته: فالذي يتكلم إنما هو الذابُّ عن الدين، والناقد الاجتماعي، والعالم المحقق، والمصلح، والصوفي، كلٌّ بدوره. ولا يفوتني أن أذكر أن غنى هذه الذات ليس محصوراً كله في فعل واحد من أفعال هذا الفكر وهذه السيرة اللذين بعثا الحياة في فترةٍ ما من تاريخنا الوطني.
وعلى القارئ ألا ينسى أن ابن باديس مثقف يعيش في مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة.
فعندما قام بطبع كتاب "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي (468 - 543 هـ) على نفقته كانت هذه الطبعة - رغم ثغراتها (1) - تأكيداً لشخصية تعمل على الصعيد التاريخي لحضارة ما.
الجزائر 16 ذو الحجة 1385هـ - 8/ 4 /1966م
مالك بن نبي
(1) أشار محب الدين الخطيب إلى هذه الثغرات في مقدمته لمبحث الصحابة الذي اقتطعه من هذا الكتاب (من الجزء الثاني [ص:98 - 193]) وطبعه بالمطبعة السلفية بالقاهرة سنة1375هـ ولكنه لم يشر إلى المخطوط الذي اعتمد عليه وهذا ما جعل الكتاب أبتر.