الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
…
} (1).
ــ
والله: هو الخالق، والوالدان- بوضع الله- هما السبب المباشر في التخليق. والله هو المبتدىء بالنعم عن غير عمل سابق، وهما يبتدئان بالإحسان عن غير إحسان تقدم، والله يرحم ويلطف وهو الغني عن مخلوقاته وهم الفقراء إليه، وهما يكنفان بالرحمة واللطف الولد، وهما في غنى عنه، وهو في افتقار إليهما، والله يوالي إحسانه، ولا يطلب الجزاء، وهما يبالغان في الإحسان دون تحصيل الجزاء. فلهذه الحالة التي خصهما الله بها، وأعانهما بالفطرة عليها، قرن ذكرهما بذكره، فلما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما في هذه الآية، وفي قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ولما أمر بشكره أمر بشكرهما فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) وفي هذا الجمع في القضاء والحكم بالإحسان والأمر بالشكر لهما، مع الله تعالى، أبلغ التأكيد وأعظم الترغيب، ثم زاد هذا الحكم، وهذا الأمر، وتقريراً بلفظ التوصية بهما في قوله تعالى:
(1) 23/ 27 الإسراء.
(2)
135/ 4 النساء.
(3)
14/ 11 لقمان.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (1). ليحفظ حكم الله وأمرَه فيهما ولا يضيع شيء من حقوقها، فكان حقهما بهذه الوصاية أمانة خاصة ووديعة من الله عظيمة عند ولدهما. وكفى بهذا داعياً إلى العناية بهذه الأمانة وحفظها وصيانتها. وكما جاء هذا الجمع في باب الأمر في القرآن كذلك جاء الجمع بينهما في باب النهي وكبر المعصية في السنة. ففي الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبركم بأكبر الكبائر! قلنا: بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين.
وتقدير نظم الآية هكذا: "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبأن تحسنوا للوالدين إحساناً". فحذفت أن تحسنوا لوجود ما يدل عليه وهو إحساناً. وفي تنكيره إفادة للتعظيم فهو إحسان عظيم في القول والفعل والحال. وتقول: أحسنت إليه وأحسنت به، وأحسنت به أبلغ لتضمن أحسنت معنى لطفت، ولما في الباء من معنى اللصوق. ولهذا عدَّى في الآية بالباء ليفيد الأمر باللطف في الإحسان والمبالغة في تمام اتصاله بهما، فلا يريان ويسمعان ولا يجدان من ولدهما إلا إحساناً، ولا يشعر أن في قلوبهما منه إلَاّ بالإحسان. ومن الإحسان ما يكون ابتداء وفضلاً، ومنه ما يكون جزاء وشكراً، فعليه أن يعلم أن كل إحسانه هو شكر لهما على سابق إحسانهما الذي لا يمكنه أن يكافئه بمثله، لثبوت فضيلة سبقه، وفي تعليق الحكم- وهو الأمر بالإحسان- بلفظ الوالدين المشتق من الولادة إيذان بعليتهما في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالديَّة سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين إليه أو مسيبئين. وقد جاء هذا صريحاً في قوله تعالى:
(1) 8/ 29 العنكبوت.
فأمر بمصاحبتهما بالمعروف على كفرهما. وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت على أمي وهي راغبة (أي في العطاء والإحسان) أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك. وهذا الإحسان الواجب لهما جانب الأم آكد فيه من جانب الأب وحظها فيه أوفر من حظه، ويشير إلى هذا تخصيصها بذكر اتعابها في قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (ضعفاً على ضعف) وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (2). وفي الأخرى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (3). فذكر ما تعانيه من ألم الحمل ومشقة الوضع ومقاساة الرضاع والتربية، وجاء التصريح بهذا في الحديث الصحيح: فقد جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي (أي صحبتي من حسن العشرة والبر والتكرمة) قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. فذكر الأب في الثالث. وفي طريق آخر للحديث ذكره في الرابعة. ولقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد أتعابها وضعف جانبها ورقة عاطفتها
(1) 15/ 31 لقمان.
(2)
14/ 31 لقمان.
(3)
46/ 15 الأحقاف.
وشدة حاجتها، فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم، ومحاسن الشرع الكريم. ومن الإحسان إليهما طاعتهما في الأمر والنهي، ومن عقوقهما مخالفتهما فيهما. وإنما تحل له مخالفتهما إذا منعاه من واجب عيني أو أمراه بمعصية، لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"لا طاعة لأحد في معصية الله أنما الطاعة في المعروف" وعند الحاكم وأحمد: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ومن الدليل على رجحان جانبهما على الواجب الكفائي ما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد، وفي الطريق الثاني قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أقبل رجل إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله؟، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما. هذا لأن القيام عليهما فرض عيني، والجهاد كان عليه فرض كفاية، ولو تعين عليه، ولم يكونا في كفاية قدم القيام عليهما وكفايتهما عليه. ومن حقوقهما عليه أن لا يخرج إلى ما فيه خوف ومخاطرة بالنفس إلا بإذنهما بدليل ما جاء في سنن أبي داود: أنَّ رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال: أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع إليهما فاستأدنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما. أما إذا أراد تعاطي ما لا خطر فيه ولا فجيعة من شؤون الحياة ووجوه التصرفات فليس عليه أن يستأذنهما وليس لهما منعه، ولكن إذا منعاه من شيء امتنع لوجوب برهما، وطاعتهما.- في غير المعصية- من برهما.