الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليم:
هذه العلل التي صدر اعتراض المعترضين عنها قد علمنا الله تعالى
في كتابه العزيز ما يعصمنا منها، فعلمنا أن الإنسان مستعد لأن تخضع له العوالم بما فيه روح الله وأنه يلتحق بعالم الملائكة الأطهار بتلك الروح عندما تكون على أصل طهرها وقدسها، علمنا هذا بقوله تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (1) فأخضع له ملائكته أشرف العوالم وبقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} (2) فاتصل بهم وخاطبهم وعلمهم، فلا عجب أن يأتي المماثلون له من أبنائه في طهره وعصمته على سنته في الإتصال بالملائكة ومخاطبتهم، وعلمنا أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم ليحصل الاتصال ويمكن التلقي، وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك وأنهم لو أنزل عليهم ملك وهم بشر لكسي حلة البشرية ولا التبس عليهم أمره ولقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر. علمنا بقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (3) وبقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (4). وعلمنا أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله تعالى له ومن مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار البشرية وظلم الجسمانية وتسفلها فتبقى روحه
(1) 5 29/ 1 الحجر و 72/ 38 ص.
(2)
33/ 2 البقرة.
(3)
17/ 95 الإسراء.
(4)
9/ 6 الأنعام.
على غاية الطهر والعلوية النورانية مستعدة للإتصال بالملأ الأعلى حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي. علمنا هذا بمثل قوله تعالى. {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (1) وقوله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (2). وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} (3) وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (4) وغيره كثير. وعلمنا أن الرسل وإن كانوا موافقين لنا في الخلقة البشرية فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية من حيث الطهر والكمال. فنفوسهم بقيت على طهرها لم تدنس بشيء ونفوسنا لا تخلو من تدنس، والموفق من داوم على غسلها بالتوبة وتحليتها بالصالحات، وكمالهم فطري ويبلغون فيه بعملهم المتواصل وعصمتهم الربانية إلى الغايات التي لا تنال وكمالنا ليس كذلك في الأمور الثلاثة الفطرة والعمل المتواصل والعصمة.
علمنا هذه بقوله تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (5) فبالنظر الصحيح فيما منَّ الله عليهم به ندرك أنهم ليسوا مثلنا وإن ساوونا في الخلقة البشرية. وعلمنا أن لا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية بل نعبر من
(1) 22/ 75 لحج.
(2)
47/ 38 ص.
(3)
42/ 3 آل عمران.
(4)
6/ 124 الأنعام.
(5)
11/ 14 إبراهيم.
الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير. وعلمنا هذا بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (1) فلا ينظر إلى بهرجة الكثرة ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما وبقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} (2) فلا يجوز أن نغتر بالمال والقوة والجاه وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها وصرفها في وجوهها.
ولا نغتر بحالة الضيق والعسر والضعف فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر أو ضجر ويأس وفجُور فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبيت ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحْكم الحاكمين. وبقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) فعلمنا أنه بشر ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله وبما يقتضيه من مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال حتى لا تعجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندْركه ببصائرنا.
(1) 103/ 5 المائده.
(2)
89/ 15 - 17 الفجر.
(3)
111/ 18 الكهف و 6/ 41 السجدة.