الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَلَاحُ النُّفُوسِ وَإِصْلَاحِهَا
ــ
صلاح الشيء: هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال. وفساده: هو كونه على حالة اختلال في ذاته أو في صفاته بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان. إعتبر هذا في البدن، فإنَّ له حالتين: حالة صحة وحالة مرض. والأولى: هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها وينهض هو بأعماله. والثانية: هي حالة فساده باختلال مزاجه فتتعطل أعضاؤه أو تضعف كلها أو بعضها عن القيام بوظائفه، ويقعد هو أو يثقل عن أعماله. هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس، فلها صحة ولها مرض، حالة صلاح وحالة فساد.
والإصلاح هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد. والإفساد هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه. فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية والدواء، وإصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة. وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، وإفساد النفس بمقارفة المعاصي والذنوب، هكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد. في كثير من الأحوال.
(1) 15/ 17 الإسراء.
غير أن الإعتناء بالنفوس أهم وألزم لأن خطرها أكبر وأعظم.
إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلَاّ آلة لها، ومظهر تصرفاتها. وإن صلاح الإنسان وفساده إنما يقاسان بصلاح نفسه وفسادها، وإنما رقيُّه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه وانحطاطها، وما فلاحه إلا بزكائها وما خيبته إلا بخبثها. فقد قال تعالى. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (1) وفي الصحيح: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وليس المقصود من القلب مادته وصورته، وإنما المقصود النفس الإنسانية المرتبطة به. وللنفس ارتباط بالبدن كله، ولكن القلب عضو رئيسي في البدن ومبعث دورته الدموية على قيامه بوظيفته تتوقف صُلوحية البدن لارتباط النفس به، فكان حقيقياً لأن يعبر به عن النفس على طريق المجاز. وصلاح القلب بمعنى النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة وإنما يكونان بصحة العلم وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله بجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة، وإذا فسدت النفس من ناحية العقد أو ناحية الخلق أو ناحية العلم أو ناحية إرادة فسد البدن وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد. فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع، والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس. إما مباشرة وإما بواسطة، فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق، والخير، والعدل، والإحسان، إلا وهو راجع عليها بالصلاح، وما من شيء نهى الله تعالى عنه من الباطل والشر والظلم والسوء، إلا وهو عائد عليها بالفساد، فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل،
(2) 10/ 91 - 11 الشمس.
وشرع الشرائع، وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس إذا تمسكت به غاية الكمال.
قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته، وتوحيده، والإخلاص له، وأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما في الظاهر والباطن، كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة، ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس وصلاحها، لينبه الخلق على أصل الصلاح، الذي منه يكون، ومنشأه الذي منه يبتدىء، فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة، لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي قد يكون قبل التدبر خفياً. ونظير هذه الآية في موقعها ودلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف.- قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فقد جاءت أثناء آيات أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات تنبيهاً للعباد على أن المحافظة عليها على وجهها تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع وحضور وانقطاع إلى الله تعالى وتوجه إليه ومناجاة له، وهذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال. والنفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذَّة وأنساً تهون معهما أعباء التكليف. ثم إن العباد بنقص الخلقة وغلبة الطبع معرضون للتقصير في ظاهرهم وباطنهم، في صور أعمالهم ودخائل أنفسهم،- وخصوصاً في باب الإخلاص- فذكروا بعلم ربهم في نفوسهم في قوله تعالى:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} (2) ليبالغوا في المراقبة فيتقنوا أعمالهم في صورها
(1) 238/ 2 البقرة.
(2)
25/ 17 الإسراء.
ويخلصوا بها له. وهذه المراقبة هي الإحسان الذي هو عبادتك الله كأنك تراه، وذكر اسم الرب لأنه المناسب لإثبات صفة العلم، فهو الرب الذي خلق النفوس وصورها ودبرها. ولا يكون ذلك إلا بعلمه بها في جميع تفاصيلها. وكيف يخفى عليه شيء منها وهو خلقها (1). {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2). والصالحون: في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} (3) هم الذين صلحت أنفسهم فصلحت أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وصلاح النفس وهو صفة لها خفي كخفائها. وكما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها. فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة- وهي الجارية على سنن الشرع وآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكمنا بصلاح نفسه وأنه من الصالحين. ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه وأنه ليس منهم ولا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس وفسادها إلَاّ هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى:
(1) في الأصل: وهو هو خلقها.
(2)
24/ 67 الملك.
(3)
25/ 27 الإسراء.
(4)
114/ 3 - 114 آل عمران.
فذكر الأعمال ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين، فأفادنا أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلا بها ولا يستحقه إلا أهلها. ثم إن العباد يتفاوتون في درجات الصلاح على حسب تفاوتهم في الأعمال. ويكون لنا أن نقضي بتفاوتهم في الظاهر بحسب ما نشاهد، ولكن ليس لنا أن نقضي بين أهل الأعمال الصالحة في تفاوتهم عند الله في الباطن فندعي أن هذا أعلى درجة في صلاحه عند الله تعالى من هذا، لأن الأعمال قسمان: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وهذه أصل لأعمال الجوارح، وقد قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم: التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلا الله، والأوابون في قوله تعالى:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (1) هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى. والأوبة في كلام العرب هي الرجوع قال عبيد:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ
…
وَغَائِبُ المَوْتِ لَا يَؤُوبُ
والتوبة هي الرجوع عن الذنب، ولا يكون إلا بالإقلاع عنه. واعتبر فيها الشرع الندم على ما فات والعزم على عدم العود وتدارك ما يمكن تداركه، فيظهر أن الأوبة أعم من التوبة، فتشمل من رجع إلى ربه تائباً من ذنبه، ومن رجع إليه يسأله ويتضرع إليه أن يرزقه التوبة من الذنب. فنستفيد من الآية الكريمة سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإذا تاب العبد فذاك هو الواجب عليه والمخلص له - بفضل الله- من ذنبه. وإن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع والتعرض لمظان الإجابة، وخصوصاً في سجود الصلاة فقمن- إن شاء الله تعالى- أن يستجاب له. وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية مصرًّا عليها غير مشمئز منها ولا سائل
(1) 17/ 25 الإسراء.
من ربه بصدق وعزم التوبة منها ويبقى معرضاً عنه ربه كما أعرض هو عنه، ويصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب، فهو الداء العضال الذي لا دواء له. وجاء لفظ الأوَّابين جمعاً لأواب وهو فعال من أمثلة المبالغة، فدل على كثرة رجوعهم إلى الله، وأفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله. ذلك أنَّ النفوس- بما ركب فيها من شهوة، وبما فطرت عليه من غفلة، وبما عرضت له من شؤون الحياة، وبما سلط عليها من قرناء السوء من شياطين الإنس والجن- لا تزال- إلا من عصم الله- في مقارفة ذنب ومواقعة معصية صغيرة أو كبيرة من حيث تدري ومن حيث لا تدري، وكل ذلك فساد يطرأ عليهما فيجب إصلاحها بإزالة نقصه، وإبعاد ضرره عنها، وهذا الإصلاح لا يكون إلا بالتوبة وبالرجوع إلى الله تعالى. ولما كان طروء الفساد متكرراً فالإصلاح بما ذكر يكون دائماً متكرراً. والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها والقيام في ذلك والجد فيه والتصمم عليه هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد. ومن معنى هذه الآية قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من درن المعاصي. والغفور في قوله تعالى:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. والمغفرة: سترة للذنب وعدم مؤاخذته به، ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته، ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين. ومغفرته أكثر. وليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابلها كثرة المغفرة منه
(1) 222/ 2 البقرة.
فلا يفتأ العبد راجعاً راجياً للمغفرة لا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع ولا يضعف رجاؤه في نيل مغفرة الغفور، كثرة الرجوع. وقد أكد الكلام بـ (أن) لتقوية الرجاء في المغفرة، وجيء بلفظة (كان) لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق، فقد كان عباده يذنبون ويتوبون إليه ويغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً، وإنما احتيج إلى هذا التأكيد كله في تقوية رجاء المذنب في المغفرة ليبادر بالرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عند رؤية مغفرة الله تعالى التي هي أكبر وأكبر. والآخر رؤيته لطبعه البشري وطبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال كما قال شاعرهم- أي البشر، لأن الشاعر العربي عبر عن طبع بشري:
سَأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمُ
…
وَمَنْ أَكْثَرَ التِّسْئآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ
فيقوده القياس- وهو من طباع البشر أيضاً- القياس الفاسد إلى ترك الرجوع والسؤال من الرب الكريم العظيم النوال. فهذان الأمران يقعدانه عن الرجوع والتوبة فيستمر في حمأة المعصية وذلك هو الهلاك المبين. فكان حاله مقتضياً لأن يؤكد له حصول المغفرة عند رجوعه بتلك المؤكدات.
وقد كان مقتضى الظاهر في تركيب الآية أن يقال: إن تكونوا صالحين فإنه كان لكم غفوراً، لأن المقام للإضمار، لكنه عدل عن الضمير إلى الظاهر فقيل فإنه كان للأوابين غفوراً لينص على شرط المغفرة وهو الأوبة والرجوع. وعلم من ذلك أن الصالح عندما تقع منه الذنوب مطالب- كغيره- بالأوبة لتحصيل المغفرة، لأن فرض الأوبة إلى الله من المعاصي عام على الجميع. وقد اشتملت الآية من
فعل الشرط وهو إن تكونوا صالحين، وجوابه وهو فإنه كان للأوابين غفوراً
…
على الحالتين اللازمتين للإنسان لتكميل نفسه وهما الصلاح المستفاد من الأول والإصلاح بالأوبة المستفاد من الثاني. وما دام الإنسان يجاهد في تزكية نفسه بهذين الأصلين فإنه بالغ- بإذن الله- درجة الكمال. ثبتنا الله والمسلمين عليهما وحشرنا في زمرة الكاملين المكملين إنه المولى الغفور الكريم (1).
(1) ش: ج5، م 6 ص 270 - 275 غرة محرم 1349هـ جوان 1930