الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعتبار ونصيحة:
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام، وأن الدنيا هي مطية الآخرة، فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة وأن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا فمن لازمها بالكفر ومات عليه دامت له تلك الملازمة ومن لازمها بالإصرار على الكبائر كانت له على حسب تلك الملازمة. فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة ويلازم مجالس الطاعة والسنة وأن يسرع بالتوبة مفارقا الذنوب وأن لا يصر على شيء من القبائح والعيوب وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه فالله يحب التوابين ويغفر للاوابين جلنا منهم أجمعين. آمين (1).
(1) ش: ج9، م8، ص 454 - 458
غرة جمادي الأولى 1351 - سبتمبر 1932.
أَيُّهُمَا أَكْمَلُ (1) الْعِبَادَةُ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ أَمِ الْعِبَادَةُ دُونَهُمَا؟
زيادة بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (2).
ــ
قد قال قوم إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات. وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} في الجزء الصادر في غرة جمادى الأولى.
وقلنا في الإنكار عليهم: "وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه وأخطأوا فيما زعموا". وذكرنا أثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها، وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة نشر الشيخ المولود الحافظي مقالا ردا علينا دون أن يذكر جميع أدلتنا ودون أن يتعرض لنقضها في سندها أو متها أو عدم انطباقها أو إفادتها لما سيقت لافادته، ودون
(1) فيه رد على مقال الشيخ الحافظي المدرج في جريدة البلاغ منذ بضعة أسابيع (المؤلف).
(2)
65/ 25 - 66 الفرقان.
أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة. وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال. فرأينا أثر اطلاعنا على مقاله أن نعود في هذا الجزء لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه من أن وضع العبادة الشرعية على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعي، ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول:
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع مع الشعور بغاية الضعف والافتقار، ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع. فخوف العبد من عقاب ربه هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه وشهوده لعزته وقهره وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه وأنه لا يؤمن من مكره، وطمعه في ثوابه هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه وفضله وتصديقه بوعده فهو يعبده ويخاف أن لا يقبل عبادته ويخشى نقمته. ويعبده ويرجو رحمته وينتظر مثوبته، وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية والإعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب ورجاء الثواب لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين. والدليل على هذا ستسمعه من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1). ووجه الدليل من الآية أن هؤلاء المذكورين فيها هم الكمل من عباد الله الصالحين يدليل حديث أبي هريرة- رضي الله عنه المروي في الصحيح قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ومع كمالهم لم تتجردْ عبادتهم من الخوف والطمع. ووجه آخر: وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون فذكرها مع الخوف والطمع فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم لنقتدي بهم فيها فعلم أن العبادة التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفا وطمعا.
ومثل هذه الآية: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ- إلى- رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ووجه الدليل منها كالتي قبلها وتزيد
(1) 15/ 32 - 17 السجدة.
(2)
3/ 191 - 194 آل عمران.
عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار وغفران وتكفير السيئات.
ومثلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} . ووجه الدليل منها كالتي قبلها. ومثلها قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا" (1) ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد ببيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله. ومثلها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (2).
(1) 7/ 76 - 9 الدهر.
(2)
13/ 21 - 24 الرعد
ووجه الدليل كما تقدم وفيها أيضاً بيان أن خوف سوء الحساب لا ينافي الصبر ابتغاء وجه الله.
ومثلها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ. (1) ووجه الدليل ما تقدم ومعنى الآية إنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم فيخافون أن لا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال خائفين من عدم قبولها.
فهؤلاء هم الكمل من عباد الله وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها وضعفها وحاجتها وفقرها وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية مقام ذي الجلال والإكرام.
ولا تجد في القرآن العظيم آية واحدة دالة صريحة على ذكر عباده- هكذا- دون خوف أوطمع. ونزيد على الآيات المتقدمة آية دالة على حال عباده المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى (2): {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
(1) 58/ 23 - 62 المؤمنون.
(2)
82/ 26 الشعراء.
الدِّينِ} ووجه الدليل من الآية أن إبراهيم- عليه السلام أخبر عن نفسه بصيغة المضارع المفيد للتجدد أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته، فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعاً ومعلوم أنه معصوم وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئة هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل وهو أنه خاف المؤاخذة- المؤاخذة اللائقة بمقامه- وطمع في الغفران وكانت عبادته على الطمع والخوف. ولا يقال أنه كان معلما للناس لأنه إخبار عن نفسه وخبره صدق ثابت فلا بد أن يكون كما أخبر.
وأما السنة فمنها دعاء القنوت المشهور (نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد) ووجه الدليل منه أن الصلاة أشرف أحوال العبد وأجل مقاماته وأعظم عباداته وقد علم أن يدعو فيها هذا الدعاء الصريح في رجاء الرحمة وخوف العذاب وما كان ذلك إلا لأن العبادة الشرعية موضوعة عليهما.
ومنها حديث: (وأما السجود فادعوا فيه، فقمن أن يستجاب لكم) وهو حديث صحيح، وفي الصحيح أيضاً (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ووجه الدليل أن أقرب أحوال العبد من ربه هو محل للدعاء، والداعي يرجى القبول ويخاف المنع، فالعبادة في أقرب أحوال العبد موضوعة على الرجاء والخوف.
ومنها الحديث الصحيح: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذي أنرلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به) ووجه الدليل منه أنه تعليم لما يقوله المسلم فيما قد يكون آخر حال يلقى
عليه ربه ولا ينبغي أن يلقاه إلا على أكمل حال. فعلمنا هذا الدعاء الصريح في الرغبة والرهبة ليقوله المؤمن ولو كان من أكمل الكمل فدل على أن الرغبة والرهبة عليهما وضعت العبادة في جميع الأحوال. ومنها الحديث الصحيح: " قالت عائشة رضي الله عنها: كنت نائمة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم ففقدته فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك) ووجه الدليل أنه في الحال التي هو فيها أقرب ما يكون من ربه وهي حالة سجوده استعاذ برضى الله من سخطه وبعافيته من عقوبته، ثم لما لم يستطع الإلحاطة بأفعاله رد الأمر لذاته فاستعاذ به منه وهو في الجميع مستعيذ والمستعيذ طالب والطالب راج وطامع في نيل المطلوب فلم يفارق عبادته الرجاء والطمع حتى في هذه الحالة التي هي بينه وبين ربه لأنه كان ساجداً في جنح الليل دون حضور أحد من الناس إلا عائشة التي كانت نائمة واستيقظت ففقدته فاطلعت عليه في تلك الحال.
ومنها الحديث الصحيح عن ابن عباس الذي كان يعلمهم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم إياه كما يعلمهم السورة من القرآن رواه مالك وفيه: (اللهم أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ووجه الدليل منه أنه علمهم هذه الاستعاذة الصريحة في الخوف والرجاء كسائر ما علمهم من الدعوات المبنية عليهما.
وهكذا تجد جميع دعواته المأثورة على الرغبة والرهبة والرجا والخوف ولا تجد دعاء واحداً علمهم فيه أن يتوجوا إلى الله تعالى دون رغبة ولا رهبة ولا رجاء ولا خوف، ولو كانت العبادة الخالية
من الطمع والخوف هي أكمل العبادة لكان بينها لهم بيانا شافيا صريحا كعادته في بيان الكمالات، وهو الحريص على دلالتهم على كل خير، فكيف لم يدلهم على هذا المقام بصريح المقام لو كان من الكمال بحيث يدعى لها بعض الناس.
فقد بان لنا بما ذكرناه توارد آيات الكتاب وأحاديث السنة في صراحة وجلاء على مشروعية العبادة مقرونة بالرغبة والرجاء والخوف، ولم نظفر بآية واحدة أو حديث واحد فيه التصريح بمشروعيتها مجردة منهما فضلا عن أنها أكمل منها معهما، وما كنا لنترك أدلة الكتاب والسنة الصريحة لرأي أحد كائنا من كان، وإننا نورد فيما يلي حديثا من صحيح البخاري يبين لنا كيف كان الصحابة سادة هذه الأمة يعبدون الله تعالى يرجون قبول أعمالهم لديه:(قال أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري، قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال قلت لا قال فإن أبي قال لأبيك يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وهجرتنا معه وجهادنا وعملنا كلنا معه بَرْدٌ لنا وإن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا رأساً برأس قال أبي (يعني أبا موسى) لا والله قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك فقال أبي (يعني عمر) لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا وأن كل شيء عملناه بعد نجونا منه كفافا رأسا برأس فقلت- أبو بردة- إن أباك والله خير من أبي) ووجه الدليل عملهم على الرجاء وخوفهم من عدم القبول والعقاب على المخالفة وإن اختلفا فيما اختلفا فيه ولا تجد في كلام واحد منهم أنه كان يجرد عبادته عن الطمع والخوف وما كان المقام الأكمل ليفوتهم وهم أفقه الناس في الدين وأحرصهم على الخير.
هذه هي أدلتنا فيما ذهبنا إليه ورددنا على مخالفيه وهي أكثر من
هذا عدا في كتاب الله وسنة رسوله وفيما ذكرناه كفاية- إن شاء الله- لمن نصح وأنصف وأخلص الإيمان بقوله تعالى (1): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
والآن نعطف بالكلام على مقال الشيخ ونحْصره في مواضع:
1 -
أنكرنا على من زعموا أن مرتبة العبادة العليا أن يعبد الله تعالى لذاتِه دون الطَّمع في ثوابه ولا الخوف من عقابه ونسبنا إليهم الخطأ ولما وجدنا آيات الكتاب وأحاديث السنة طافحة بأن عبادة الكمل من عباد الله مقرونة بالخوف والطمع كما قدمنا نسبنا خطأهم إلى قلة التفقه في الدين أي في أدلة الدين وهي الآيات والأحاديث المذكورة، وما عسى أن يقال فيمن لم تكفه تلك الآيات والأحاديث كلها على صراحتها واتفاقها إلا أنه لم يتفقه فيها. ولما لم نجد آية واحدة ولا حديثا واحداً يصرح بمدعاهم حملناهم على الغلو هذا كله دون أن نصرح بشخص ولا بطائفة لأن الكلام مع القول والدليل. فأبى حضرته إلا أن يحمل كلامنا على طائفة مخصوصة يحب هو اليوم التظاهر بالدفاع عنها ثم تطرق من ذلك إلى رمينا بما يناسب غرضه من الجرأة وقلة النصيحة والتطاول على الأئمة إلى ما يريد أن يصفنا به ليقول القارىء أن حضرته موصوف بضده. وربك أعلم بتلك الأوصاف وأهلها.
2 -
كان استدلالنا بآية (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) على الوجه الذي بيناه فيما تقدم دون أن نذكر الحصر ولا أن نشير إليه ولا من مقتضى
(1) 4/ 85 النساء0
موضوعنا أن نقصر عباد الرحمن على تلك الصفات، لكن حضرته أخذ يقرر في قواعد الحصر الضرورية عند المبتدئين وخرج من ذلك إلى أن الآية لا حصر فيها وإننا تسرعنا وما تدبرنا ولم نحسن تطبيق قواعد العلوم على موضوع النزاع. وفي الحق أن حضرته هو الذي لم يحسن تنزيل ما طولب به في الحصر على كلام لم ندع فيه الحصر ولم نستدل به وإنما استدللنا بالآية مثل ما استدللنا بغيرها على الوجه الذي تقدم وعلى ما معه من الوجوه.
3 -
ما في كلام الإمام الرازي من أن الله مستحق للعبادة لذاته وأنه لو أمرنا بالعبادة بلا ثواب ولا عقاب لوجبت فهو حق مسلم وليس هو موضوع النزاع، كان موضوع النزاع هل العبادة مع الخوف والرجاء أكمل أم العبادة دونهما وما فيه من أن (من عبد الله للثواب والعقاب فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب والله واسطة) - إذا كان يعني به أنه عبد الله للثواب من حيث ذاته والعقاب من حيث ذاته دون الإمتثال للأمر وتوجه للرب، فهذا ليس كلامنا فيه، وإن كان يعني أنه يعبد للثواب والعقاب من حيث أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب وخوف العقاب فهو يعبد الله امتثالا لأمره- فكلامه منوع لأن العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالا لأمره وقياما بحقه مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربوبية وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية وذلك يبعث على الرجاء المأمور به، فالمعبود في الحقيقة والواقع هو المتوجه إليه بالطاعة وهو الله تعالى لا الثواب الذي تعلق به الرجاء ولا العقاب الذي تعلق به الخوف. وكيف يكون الثواب وهو المعبود والعقاب هو المعبود والله هو الذي شرعهما، فهل يشرع عبادة غيره، وما هذا إلا من عدم التأمل في مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1). أي شأنه أن يحذر ومن حقه أن يحذر وهل هذا إلَاّ من عدم التفقه في قوله تعالى- في أم القرآن والسبع المثاني التي يناجي بها المصلي ربه وهو في أعظم عبادة-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن المستعين طالب للإعانة والطالب راج قبول طلبه خائف من عدم قبوله. وقوله تعالى فيها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} طلبا كذلك فليتفقه المتففهون في كلام رب العالمين.
4 -
ونقل كلام الإمام الرازي في باب المحبة قوله: (وأما العارفون فقد قالوا قد يحب الله تعالى لذاته وأما حب خدمته وحب ثوبه فدرجة نازلة) ونحن نقول إن الذات أقدس الموصوف بالكمالات المفيض للإنعامات تتعلق به قلوب المحبين موصوفا بكمالاته وإنعاماته التي منها ثوابه وجزاءه وتلك المحبة تبعث على خدمته بطاعته والتقرب إليه بأنواع العبادات وأما عبادة الذات مجرداً عن الإنعامات فهو نوع من التعطيل في الإعتقاد والتقصير في الشهود وإذ كانت المحبة عملا من أعمال العبد القلبية التي يتقرب بها إلى الله فهي عبادة. وقد بينا بالأدلة المتقدمة أن العبادة في الإسلام موضوعة على مصاحبة الرجاء والخوف والمحب للرب ذي الجلال والإكرام والبطش والإنعام لا يغيب عن إجلاله بالخوف والتذلل له بالطمع كحاله في سائر العبادات.
5 -
ونقل من كلام النيسبوري قوله: (المحققون نظرهم على المعبود
لا على العبادة وعلى المنعم لا على النعمة) فإن كان مراده أن نظرهم على المعبود أي إعتمادهم في القبول على المعبود لا على العبادة فهذا حق وليس كلامنا فيه، وإن كان مراده أن نظرهم على المعبود أي توجههم
(1) 57/ 17 الاسراء.
إلى المعبود دون العبادة فهذا ايضا حق لان العبادة متوجة بها لا إليها وليس كلامنا في هذا. وإن كان مراده دون تقرب بالعبادة فهذا باطل لأن الله تعالى قال: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي ما يقربكم إليه من طاعته وإن كان مراده دون شعور بالعبادة فهذا أيضا باطل لأن العابد ينوي العبادة ويقصد بها القربة ويتوجه بها مخلصا فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فكيف يكون لا شعور له بها وأما قوله (وعلى المنعم لا على النعمة) فإن أراد أن المتقرب إليه هو الله المنعم دون النعمة، فهذا حق وليس كلامنا فيه، وإن أراد أن رجاء نعمة الثواب حين التوجه لله والتقرب إليه بالطاعة ينافي التقرب إلى المنعم ويعد تقربا للنعمة فهذا هو الذي أبطلناه بالأدلة السابقة ونقضناه في الموضع الثالث. وإن أراد أن ذكر العبد لنعم الله عليه مخل بكمال عبادته فهذا باطل أيضا لأن عبادة الله شكرا على ما أتى من النعم وطلبا للمزيد من أرفع المقامات وقد قال الله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (1){إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا - إلى- شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} (2)، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (3){أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (4) و {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (5).
6 -
إستدل النيسبوري: (بأنه قيل لبني إسرائيل اذكروا نعمتي
(1) 34/ 13 سبأ.
(2)
120/ 16 - 121 النحل.
(3)
19/ 27 النمل و 25/ 46 الأحقاف.
(4)
14/ 31 لقمان.
(5)
7/ 14 إبراهيم.
ولأمة محمد اذكروني) وهذا منقوض بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (1)، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} (2).
7 -
نقل من كلام النيسبوري ما يفيد أن عبادة الله لكونه إلاهاً وكون المخلوق عبداً لا يكون معها رغبة في الثواب ولا رهبة من العقاب وأنها هي أعلى الرتب ونحن نقول من مقتضى شعورك بعبوديتك شعورك بضعفك وفقرك وإن من مقتضى علمك بالله شهودك لقوته وفضله وذاك الشعور وهذا الشهود يبعثان فيك الرجاء والخوف فتكون وأنت تعبده لأنه إله ولأنك عبد راجيا خائفا. ودعوى تجرد العبادة عنهما قد أبطلناها بالأدلة السابقة.
8 -
نقل قول الإمام ابن العربي ((أمر الله عباده بعبادته وهي أداة الطاعة بصفة القربة وذلك بإخلاص النية بتجربد العمل عن كل شيء إلا لوجهه وذلك هو الإخلاص الذي تقدم بيانه)) ثم زعم هو من عنده أن من مقتضى تجريد العمل عن كل شيء تجريده من رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص هو ما كان لوجه الله لكونه إلاهاً لا غير. وهذا صريح منه في أن رجاء الثواب وخوف العقاب ينافيان الإخلاص وهو باطل لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ .. (3) " الآية، وقد تقدمت فخافوا وعملهم لوجه الله بنص القرآن. وروي الأئمة في الصحيح أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إني أسمع الله
(1) 3/ 103 آل عمران.
(2)
33/ 9 الأحزاب.
(3)
9/ 76 الدهر.
تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة الله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح. فأقره على قوله أرجو برها وذخرها ولم يقل له أن هذا مناف للإخلاص كما يقول الشيخ، وهو يسمبط ويشنبط في كلام الإمام ابن العربي ثم مالك- ياخي- ولابن العربي حسبك ابن سينا وأمثاله الذين يحاولون تطبيق العبادة الإسلامية على الفلسفة اليونانية والآراء الأفلاطونية، أما إبن العربي فهو حكيم إسلامي وفقيه قرآني وعالم سني- حقيقي- لا يبني أنظاره إلا على أصول الإسلام ودلائل الكتاب والسنة. وهاك كلامه في إرادة المأذون فيه مع العبادة من أمور الدنيا بله الرجاء والخوف والسمع كلامه الصريح من الدليل الصحيح في الرد على مثل زعمك قال على قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .
المسألة الثانية: قال علماؤنا: (في هذا دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء إن الحج دون تجارة أفضل أجراً) وقال على قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} (1): (وهذا يدل على أن العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة الثواب).
9 -
ونقل كلاما للإمام الغزالي في المحبة وقد قدمنا في الموضع
(1) 33/ 29 الأحزاب.
الثامن الكلام على مثله وبين أن المحبة عبادة وأنها موضوعة كسائر العبادات الشرعية على الرجاء والخوف بالأدلة المتقدمة.
10 -
وقال: وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم:
(اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك) وقد تقرر أن خوفه خوف اجلال وتعظيم لا خوف النار والعقاب اهـ، ونقول أن خوف الإجلال لا يخرج به العبد عن ضعف وذل العبودية ومشاهدة قوة وفضل الربوبية فلا يتجرد خوفه الإجلالي عن خوف المؤاخذة: المؤاخذة التي ليست ناراً ولا عذاباً ولكنها مؤاخذة مناسبة لذلك المقام العالي بدليل أن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام وهو مثل نبينا عليه الصلاة والسلام في العصمة وعدم النار والعقاب وقد خاف المؤاخذة فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ولا خطيئة له ولجميع الأنبياء والمرسلين لا من الكبائر ولا من الصغائر على كل حال، وبدليل أنه هو عليه الصلاة والسلام قال:(والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري، وليس هذه لذنب لا صغير ولا كبير وانما هو لعلمه بالله وعظيم حقه وشدة تعظيمه لربه فيخاف المؤاخذة فيطلب المغفرة فبان بهذا أن خوف الإجلال لا يتجرد عن خوف المؤاخذة. وبعد هذا البيان نقول لحضرته لا تستدل بالحديث دون بيان رتبته ولا ذكر لمخرجه، وما هكذا يكون استدلال الأمناء من العلماء وأنه يرمي الأحاديث هكذا مهملة اختلط الحق بالباطل وتجرأ على السنة النبوية الغبي والجاهل حتى بلغ الأمر إلى نسبة الأحاديث إلى كتب الإسلام المتفق عليها ولا وجود لها فيها، أما نحن فلا نعرف هذا الدعاء في الصحاح المتداولة عندنا فليتك تبين من أين جئت به حتى نعرف مقدار ما تعتمد في احتجاجك عليه.
11 -
وقال: فللأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حالتان: حالة مع الله- تعالى- لا يرون فيها غير جلاله وعظمته: وحالة مع الخلق يستغفرون ويستعيذون من النار وسوء المنقلب وفتنة القبر والدجال، ويطلبون الرحمة والثواب والجنان اهـ، ونقول قد بينا أن رؤية جلال الله مما يبعث على الخوف من المؤاخذه كما مضى عن إبراهيم ومحمد- عليهما الصلاة والسلام- فلا يتجردون عن الخوف خوف الاجلال وخوف المؤاخذة في حالتهم مع الله وقد دل حديث عائشة الذي قدمناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في سجوده في جوف الليل والناس نيام فيما بينه وبين ربه استعاذ برضا الله من سخطه وبمعافاته من عقابه فكانوا يستعيذون ويرجون ويخافون في حالتهم مع الله وأما حالتهم مع الناس فإنهم كانوا يعلمون وكانوا يخبرون عن أنفسهم بخوفهم وطمعهم كما أخبر إبراهيم- عليه السبلام- بطمعه وأخبر محمد- صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأنه أتقاهم لله وأخوفه له وأخبر عن استغفاره لربه وأخبارهم حق صدق لا شك فيه ولا يجوز أن يقال إنهم قالوه لمجرد التعليم وهو في الواقع لا حقيقة له إذ الإخبار عن النفس بشيء أنه كان وهو لم يكن هو الكذب الذي عصمهم الله منه ونزههم عنه ولو تفطن حضرته لهذا لما قال ما قال.
12 -
وذكر حديث الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورها وأتم الإخلاص بها وقد علمت أن من مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عزٍّ وقوة وفضل الربوبية فينبعث الرجاء والخوف في العابد وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة بإتقانها والإخلاص
فيها. ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى مشاهدته، أي مشاهدة جلاله وجماله: بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع فصدق الشهود لا يد معه من الرجاء والخوف وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات الباعثين للخوف والرجاء وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجردا فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهدا بل غافلا معطلا جامدا وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث عن أن تكون فاضلة كاملة. فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين اللتين يكون فيها العبد عابدا العبادة الشرعية الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الادلة المتقدمة.
13 -
ونقل كلام ابن سينا في كتاب الإشارات وكلام شراحه وهو مثل ما تقدم لنا إبطاله بأدلة الكتاب والسنة والشرح بهما لمعنى العبادة المشروعة. وإذ كنا نبحث عن العبادة التي شرعها الله لعباده على لسان رسوله فإننا لا نعرفها إلا من الكتاب والسنة وقد قدمنا من أدلتهما ما جلى المسألة للعيان وأغنى فيها عن كل كلام.
وتلخص وتبين لنا مما تقدم أن العبادة المشروعة هي القصد إلى الطاعة مع الشعور بضعف العبد وذله، وحاجته وفقره ومشاهدته لجلال ربه وقدرته وعزته، وجماله وفضله ورحمته فيكون بتلك المشاهدة خائفا من عقابه أو مؤاخذته، راجيا لثوابه وإنعامه، وأن هذه العبادة هي عبادة الكمل من عباد الله الذين وصفهم بأفضل صفاتهم في كتابه وهي عبادة أنبيائه ورسله الذين ذكر عبادتم القرآن وهي عبادة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم التي دلت عليها صحاح الآثار وعبادة أصحابه الثابتة في النقول، وخلصنا من هذا إلى أن